هل تأثرت المراثي التوراتية بالمراثي البابلية؟ سامي مهدي



قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا التذكير بحقائق تاريخية ثلاث:أولها: أن التوراة لم تكن كتاباً واحداً مدوناً محفوظاً في بداية أمرها ، بل كانت أشتاتاً من المدونات والروايات الشفهية والعقائد السائرة والطقوس المتداولة والقصص والحكايات الشعبية والخبرات والمعارف الشخصية. وقد قدر لهذه الأشتات أن تجمع في ما بعد وتصاغ وتدون في أسفار ضمها هذا الكتاب. غير أن هذه الأسفار لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد ، بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لجماهير مختلفة في المزاج والتكوين. وقد تعرضت خلال هذه العصور لكثير من التعديلات والتنقيحات والتحريفات والحذوفات والإضافات قبل أن تأخذ شكلها الأخير في الكتاب المتداول اليوم. وبرغم ذلك لم تخل حتى اليوم من فراغات شاخصة لم تملأ ، ومن مفارقات ومتناقضات ، ومقولات غامضة تتقبل شتى التأويلات ، نتيجة تعدد المؤلفين والمنقحين ، وتباين اجتهاداتهم ، واختلاف عصورهم.وثاني هذه الحقائق: أن عملية جمع مادة الأسفار وتأليفها وتدوينها استغرقت قروناً طويلة ، ولكنها بدأت في بلاد الرافدين خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد ، أي إبان حقبة السبي البابلي لليهود. وقد كان كل من حزقيال ودانيال (إن صح له وجود في التاريخ) وعزرا ونحميا وكهنة غيرهم ، من يهود هذا السبي. وهناك إجماع ، أو شبه إجماع ، على أن عزرا (الذي يوصف في أحد الأسفار بأنه: كاتب شريعة إله السماء الكامل) هو من قام بجمع مادة الأسفار الاثني عشر الأولى وتأليفها وتدوينها.وثالثها: أن مؤلفي أسفار التوراة (ومنهم عزرا) تعرضوا لمؤثرات خارجية متنوعة ظهرت آثارها في ثناياها ، وفي مقدمة هذه المؤثرات: أدب حضارة بلاد الرافدين ، وأدب حضارة وادي النيل ، ثم الفلسفة اليونانية. ومن مؤثرات أدب بلاد الرافدين الواضحة في هذه الأسفار ما جاء في قصة الخليقة التوراتية ، وقصة الطوفان ، وقصة خلق حواء من ضلع آدم ، وقصة إخراج آدم من الجنة ، وقصة هابيل وقابيل ، وقصة ولادة موسى ، وغنائيات نشيد الإنشاد ، وكثير مما ظهر في سفر الأمثال وغيره من الأسفار. وكان هذا نتيجة طبيعية لاحتكاك المسبيين (ومنهم المتنبئون والكهنة) بالبابليين واختلاطهم بهم ، وتعلمهم لغتهم ، واطلاعهم على موروثهم الأدبي ومعتقداتهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم وإنجازاتهم الحضارية. وهذا كله يجعل من تأثير شعر الرثاء في أدب بلاد الرافدين في المراثي التوراتية احتمالاً قوياً قائماً.ولكن ماذا عن شعر الرثاء في أدب بلاد الرافدين؟كان الرثاء أحد الموضوعات البارزة في هذا الشعر سومريّهً وبابليّهً. ولو حاولنا تصنيف قصائده الرثائية من حيث موضوعاتها لوجدناها في ثلاثة أصناف:أولها: رثاء الأقارب ، ومنه قصيدتان لشاعر سومري يدعى (لودينغرّا) كتب إحداهما في رثاء زوجته (ناويرتم) والأخرى في رثاء أبيه (نانّا).وثانيها: رثاء النفس ، ومن نماذجه قصيدة أطلق عليها الباحثون عنوان: أيوب السومري ، وقصيدتان بابليتان عنوان إحداهما: العدل الإلهي ، وعنوان الأخرى: لأمدحن رب الحكمة.وثالثها: رثاء المدن ، ومن نماذجه قصيدتان كتبهما شاعران بابليان باللغة السومرية إحداهما في رثاء مدينة أور ، والأخرى في رثاء مدن بلاد سومر وأكد مثل: كيش ، ومرد ، وآيسن ، ونفر ، وأدب ، وأوروك ، ولكش والمدن التابعة لها ، وأريدو ، وأور.(1)لا يهمنا هنا الصنف الأول من هذه المراثي ، بل يهمنا الصنفان الثاني والثالث ، فقصائد هذين الصنفين هي التي نفترض أنها أثرت تأثيراً مباشراً على شعر الرثاء التوراتي. فبالنسبة للصنف الثاني ، رثاء النفس ، كنا قد أوضحنا في دراسة مفصلة (تقع في أكثر من خمسين صفحة) أن سفر أيوب هو ثمرة تأثير مباشر لقصائد رثاء النفس في الشعر السومري والشعر البابلي.(2) وقمنا بتفكيك هذا السفر ، وكشفنا أنه لا يشكل وحدة بنائية واحدة كما يبدو في الظاهر ، بل خمس وحدات ، أو خمسة أقسام ، أصلها وأساسها وعمودها الفقري القسم الثاني ، الذي يتضمن حوار أيوب مع أصدقائه الثلاثة ، وهو قسم كتبه مؤلف أول ، ثم جاء مؤلفون آخرون ألفوا الأقسام الأخرى وركبوها عليه تركيباً. وقد أظهرنا بالتفصيل أن مؤلف هذا القسم بالذات هو من يهود السبي البابلي ، حاول أن يعيد إنتاج قصيدة لأمدحن رب الحكمة ، وقصيدة العدل الإلهي في نص شعري واحد ، فاستعار من الأولى فكرتها ، ومضمونها العام ، وشكلها الحواري ، ونزعتها التذمرية الساخطة ، واستعان بالثانية في تفصيل ما يشكو منه ، وجاء بعده مؤلفون آخرون أخذوا عن هذه القصيدة (أي قصيدة العدل الإلهي) منحاها الإيماني ونهايتها السعيدة في ما أضافوه لنصوص هذا السفر. وقلنا في خاتمة هذه الدراسة: إن ما بين سفر أيوب والقصيدتين البابليتين من تشابهات في اسم بطل القصة ومؤلفها (أوبيب ـ أيوب) ، وفي فكرتها الوعظية ، ومضمونها العام ، وتفاصيل هذا المضمون ، والشكل الحواري الذي كتب به ، لا يمكن أن تأتي بمحض المصادفة ، بل لا بد أن تكون ثمرة اطلاع مباشر على القصيدتين البابليتين والتفاعل معهما والتأثر بهما. وقد أسندنا هذه الدراسة بأمثلة نصية واضحة للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه.أما الصنف الثالث ، أي رثاء المدن ، فله تأثير واضح في ما نسب لإرميا من أناشيد في رثاء أورشليم في رأينا. غير أن المراجع اليهودية والمسيحية تذكر أن إرميا لم يسبَ مع من سُبًيَ إلى بابل عام 598 قبل الميلاد ، بل خُيّرَ بين أخذه إليها وإبقائه في أورشليم ، فاختار البقاء هناك. ولكنه ما لبث أن اختفى من مسرح الأحداث ، وقيل إنه رحل إلى مصر. وهذا يستبعد ، منطقياً ، تأثره بشعر الرثاء البابلي.هذا عن إرميا ، أما عن السفر المسمى باسمه فهذه التسمية لا تعني قط أن السفر كان من تأليفه. ويتضح من دراسة المراجع اليهودية والمسيحية أن هذا السفر قد ركب تركيباً ، شأنه شأن الكثير من الأسفار. ولذا تجد اللاهوتيين والمؤرخين يعانون من صعوبات جمة في إضفاء صورة متماسكة عليه ، وفي نسبته ، أو نسبة بعضه ، إلى إرميا نفسه ، ولديهم ملاحظات تحفظ واستدراك مهمة حول تأليفه وتنسيقه. فالسفر يتكون من مواد شتى كان بعضها فقط من تأليفه ، إذا صح أن نعده مؤلفاً. فالإصحاحات 36( - )44 مثلاً نثرية كلها ، وهذا يدل على أنه لم يكن هو من ألفها. أما نبوءاته فهي لم تكتب من قبله ، بل كان يمليها على تلميذه باروخ ، وكان بعض ما أملاه قد أحرق بأمر من يوياقيم ملك يهوذا ، فطلب من باروخ إعادة كتابته كما أملاه عليه. ويذكر باروخ نفسه أنه أضاف إلى مقولات أستاذه مقولات مماثلة كثيرة. أما ما جاء في السفر عن حياة إرميا فتقول تلك المراجع إنها من ذكريات تلاميذه الآخرين. ثم جمعت كل هذه المواد في زمن ما بعد موته وأضيفت إليها سرود تاريخية ، ورتب كل ذلك ترتيباً منطقياً بقدر الإمكان لينسجم بعضه مع بعض.(3) ولا يستبعد أن يكون ما جمع ورتب قد تعرض لبعض التعديلات والتنقيحات في زمن لاحق ، ليكون السفر الذي بين أيدينا اليوم. وهكذا تكوّن هذا السفر من تركيبة من المواد ليس لإرميا منها سوى القليل ، وهو قد لا يزيد على ما أملاه على تلميذه باروخ.والآن ، إذا كان هذا هو حال سفر إرميا ، فماذا عن المراثي المنسوبة إليه؟إن نسبة هذه المراثي إلى إرميا محفوفة بشكوك قوية تجعل إمكانية نسبتها إلى غيره هي الراجحة. ذلك لأنها لم تنسب إليه إلا في الترجمة اليونانية القديمة للتوراة ، أما في التوراة العبرية فهي لا تحمل اسمه ، وموقعها في مجموعة المدراخ الخمسة هو ما بين سفر راعوث وسفر الجامعة ، وهذان سفران حديثان (نسبياً) لا يرقيان إلى عصر إرميا. وإذا علمنا أن مكان هذين السفرين في التوراة العبرية يقع ضمن سلسلة المكتوبات المعروفة في العبرية باسم (الكتوبيم) فهذا يعني أن مكان المراثي كان ينبغي أن يكون ضمن هذه السلسلة ، أي مع الأسفار المشكوك في نسبتها.(4) والمعروف عن (الكتوبيم) أنها تحظى بالدرجة الثالثة من القداسة ، فهي تأتي بعد الأسفار الخمسة التي تنسب إلى موسى (البنتاتيك) وبعد أسفار المتنبئين (النبييم) في قداستها ، وذلك لأنها ليست من (الشريعة) ولا من (رؤى ونبوءات المتنبئين) ، أو لأنها مؤلفات أدبية لا يعرف مؤلفوها ، أو لأن نسبتها غير مؤكدة ، أو لغير ذلك من الأسباب ، ولكنها ضمت إلى التوراة ، لأنها جزء من التراث اليهودي الديني ، ولأنها مفيدة للأغراض الوعظية. وهذا كله يرجح أن تكون المراثي المنسوبة إلى إرميا ليست له في واقع الأمر ، وأنها ضمت إلى التوراة لسببين: تراثي ، ووعظي. فلمن تكون هذه المراثي إذن؟ أيمكن أن تكون لتلميذه باروخ؟قد نقول: ربما في الوهلة الأولى. فباروخ ذهب إلى بابل بعد السبي وأقام فيها مدة مجهولة (ليعزي المسبيين) ويعظهم ويرشدهم إلى طريق الخلاص ، كما يفهم من نصوص السفر المسمى باسمه. ولكن ليس هناك ما يدل على أنه هو صاحب هذه المراثي ، خاصة وإن الشك يعتور سفره نفسه. فهذا السفر جاء باللغة اليونانية ، وصفته الأدبية ترجح كونه من تأليف متأخر شأنه شأن بعض الأسفار. إذن لمن يمكن أن تنسب المراثي؟ يبدو أن ناظم هذه المراثي شاعر من المسبيين كان يتذكر أورشليم في خلواته في المنفى ويتألم مما حل بها ، والمراثي هي من أصداء هذا الألم. فهي لواعج ذاتية ، وندب منظوم بإحساس فردي ، ولكنه يعبر في الوقت نفسه عن مشاعر جماعية. أما من يكون هذا الشاعر فأمر لا يمكن الجزم به ، ولكن أسلوب نظم المراثي يدل على أن ناظمها شاعر واحد ، وموضوعها ولغتها وزخمها الشعري يرجح كلها أن يكون حزقيال هو هذا الشاعر ، ولعله نظمها في خلواته الخاصة إلى نفسه وذكرياته في منفاه ، ولأمر ما لم تنسب إليه.(5) ويعد حزقيال أشعر المتنبئين اليهود وأوسعهم خيالاً وقدرة على التصوير ، ويشهد له بأنه أمتنهم لغة وأقواهم زخماً ، فليس كثيراً عليه أن ينظم هذه المراثي وأمثالها. والمعروف عنه أنه كان من المسبيين منذ غزوة نبوخذ نصر الأولى عام 598 قبل الميلاد. وقد عاش في المنفى حتى مات ، وضريحه ما زال موجوداً قرب بابل حتى اليوم ، في بلدة: الكفل التي يبدو أنها سميت باسمه الإسلامي (ذو الكفل). ولا نجازف إذا قلنا عن شخص مثله إنه تعلم اللغة البابلية ، واطلع على تراثها الشعري والأدبي ، بطريقة أو بأخرى ، وتأثر به ، شأنه شأن غيره من المتنبئين والكهنة الذين قضوا مدة طويلة من حياتهم ، أو حياتهم كلها ، بين البابليين وتعرفوا على تراثهم ، المكتوب منه والشفهي ، وعرفوا تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم.وسواء صحت نسبة هذه المراثي إلى حزقيال أم لم تصح ، فإنها تذكرنا من عدة نواح بالمراثي البابلية. ذلك أن تدمير المدن ظاهرة من ظواهر تاريخ بلاد الرافدين ، ورثاء المدن تقليد بابلي أصيل ، وفكرة رثاء أورشليم لا بد أن تكون قد جاءت إلى ناظمها من هذا التقليد. هذا أولاً. وثانياً: إن هذا النوع من الرثاء يقوم في التقليد البابلي على فكرة أساسية هي أن تدمير المدن وتشريد سكانها عقاب إلهي ، وهذه الفكرة ما تزال متداولة عند بعض العامة في العراق حتى اليوم ، وعلى هذه الفكرة قامت مراثي أورشليم. وثالثاً: إن المدن المدمرة في هذا التقليد يمكن أن يعاد إعمارها ، وتعود إلى سابق عهدها ، إذا كفّر أهلوها عن ذنوبهم واسترضوا آلهتهم. وعلى هذه الفكرة تقوم فكرة عودة المسبيين إلى أورشليم وإعادة بنائها.ثم أن صور الدمار الذي حل بأورشليم ، وفق المراثي ، هي كصور الدمار الذي حل بمدن بلاد سومر وأكد في القصائد البابلية ، ومنها صور ما حل بأور على أيدي الغزاة العيلاميين مثلاً. فأبواب هذه المدينة قد حطمت ، وهدمت أسوارها ومعابدها وبيوتها وزرائبها ، وخربت جداولها وقنواتها ، وأتلفت حقولها وبساتينها ، وشرد سكانها ونهبت ممتلكاتهم ، واقتيد ملكهم أبي _ سين مكبلاً بالأغلال إلى بلاد عيلام ، كما اقتيد ملك يهوذا ، صدقيّا ، إلى بابل ، وأصبحوا جميعاً تحت رحمة الأعداء. وأخيراً عفت الآلهة عن مدينة أور ورضيت عنها وباركتها فعاد إليها سكانها وعادت هي إلى سابق عهدها ، كما عاد المسبيون إلى أورشليم وأعادوا بناءها ، كما تخبرنا المراثي نفسها. وفي ما يأتي مقتطفات من هنا وهناك نوردها للمقارنة: جاء في الإصحاح الثاني من مراثي أورشليم: محق السيد جميع مساكن يعقوب ولم يشفق. هدم بسخطه حصون بنت يهوذا وألصقها بالأرض. نجّس الملك والرؤساء. قطع في شًرّةً غضبه كل قرن لإسرائيل. رد يمينه إلى الوراء من أمام العدو ، وأضرم في يعقوب مثل نار ملتهبة أكلت ما حولها. غاصت في الأرض أبوابها ودمر وحطم مزاليجها. ملكها ورؤساؤها بين الأمم. لا شريعة. حتى أنبياؤها لا يصادفون رؤيا من لدن الرب. شيوخ بنت صهيون جلسوا على الأرض صامتين. ألقوا رماداً على رؤوسهم وشدوا مسوحاً. عذارى أورشليم طأطأن رؤوسهن إلى الأرض. جميع عابري الطريق صفقوا عليك بالكفين. صفروا وهزوا رؤوسهم على بنت أورشليم. أهذه هي المدينة التي يدعونها كاملة الجمال بهجة الأرض كلها. قد صنع الرب ما قصده وحقق القول الذي أوعد به منذ أيام القدم. هدم ولم يشفق. فأشمت بك العدو وأعلى قرن مضايقك. صرخت قلوبهم إلى السيد. يا أسوار بنت صهيون أجري الدموع كالنهر نهاراً وليلاً. لا تهدئي ولا تسكت حدقة عينك. قومي انحبي ليلاً في أول الهجعات. أريقي كالماء قلبك قبالة وجه السيد. ارفعي إليه كفيك لأجل نفوس أطفالك الذين غشي عليهم من الجوع في رأس كل شارع. انطرح على الأرض في الشوارع الصبي والشيخ. عذارايَ وشبّاني سقطوا بالسيف. إنك قتلت في يوم غضبك. ذبحت ولم تشفق.ومثل هذا ما جاء في مرثية بلاد سومر وأكد: لكي يُغيّر الأجلُ المحدد وتُلغى الخططُ الموضوعة ـ تجمعت العواصف للهجوم كالطوفان ـ لكي تُغيّر نواميسُ سومر الإلهية ـ ويعاد الحكم السديد إلى موضعه ـ لكي تدمر المدينة ويهدم المعبد ـ وتخرب حظائر الماشية وزرائب الأغنام ـ لكي لا تقف الثيران في حظائرها ـ ولا تتكاثر الأغنام في زرائبها ـ لكي تتدفق أنهار البلاد بمياه مرة ـ وتنمو الأعشاب الضارة في الحقول الخصيبة ـ وتنمو نباتات الحزن في السهول ـ لكي لا تبحث الأم عن طفلها ـ ولا يقول الأب: يا زوجتي العزيزة ـ لكي لا تفرح الزوجة الفتية في أحضانه ـ ولا يشب الطفل قوياً على ركبتيه ـ ولا تترنم المرضعة بترنيمتها ـ لكي يغير موضع الملوكية ـ وتنتهك الحقوق والنواميس ـ وتؤخذ الملوكية بعيداً عن البلاد ـ لكي تشمل العاصفة بنظراتها كل البلاد ـ وتلغى النواميس الإلهية بأمرْ من آن وإنليل ـ كل ذلك حدث بعد أن أطل آن بوجه عابس على كل البلاد ـ ونظر إنليل بعين الرضا إلى البلاد المعادية (...)وجاء فيها أيضاً: أور التي كان عمادها أبطالها الأسود وقعت في مذبحة ـ أهلها وقعوا فريسة في قبضة الأعداء ـ فمن لم يمت بسلاح مات جوعاً ـ أور في داخلها موت وفي خارجها موت ـ في داخلها نموت من الجوع ـ وفي خارجها نقتل بأسلحة العيلاميين ـ هم حطموا مزاليج أبوابها وهي ما زالت مشرعة حتى اليوم ـ اكتسحوها كأمواج عاتية متدفقة ـ حطموا أور مثلما يحطم الفخار.يظهر مما قدمنا من مثال وجود تشابه واضح في الصور ، برغم التكثيف والإيجاز في مراثي أورشليم والإسهاب والتفصيل في المراثي البابلية. ونحن لا نعرف ما إذا كان جيش نبوخذ نصر قد دمر أورشليم على نحو ما جاء في مراثيها ، أم أن صور الدمار في هذه المراثي هي محض تأثر واقتباس من صور الدمار في المراثي البابلية. ولكن هكذا كانت الحروب في العصور القديمة ، أو هكذا هي الحروب في كل زمان ومكان ، وما تدمير غزة في أيامنا الراهنة إلا شاهد من شواهدها ، وقد لا يكون الشاهد الأخير ، فالإنسان لم يتعلم الكثير من دروس التاريخ في ما يبدو.وعلى أية حال ، هناك تشابهات أخرى في الصور بين مراثي أورشليم والمراثي البابلية استغنينا عن التمثل بها رغبة في الإيجاز ، ومنها ما نجده في قصائد بابلية أخرى كقصيدة: إيرّا مثلاً. ولكن ليس هذا كل شيء. فمراثي أورشليم نظمت بطريقة تشبه الطريقة التي نظمت بها قصيدة بابلية سبقت الإشارة إليها ونعني قصيدة: العدل الإلهي التي يعود تاريخها إلى مطالع الألف الأول قبل الميلاد. فقد نظمت هذه القصيدة بحيث تعطينا بداية كل دور من أدوارها السبعة والعشرين حرفاً من حروف اسم مؤلفها ولقبه وحرفته ، فتشكلت من ذلك جملة تقول: أنا ساكيل - كينم - أوبيب ، كاهن المشمشو ، عابد الإله والملك. أما مراثي أورشليم فنظمت أناشيدها الأربعة الأولى بحيث يبدأ كل مقطع من مقاطعها بحرف من حروف الأبجدية العبرية ، وأما النشيد الخامس فقد نظم في 22 بيتاً هي عدد حروف هذه الأبجدية. وقد عرفت هذه الطريقة اللفظية في الصناعة الشعرية بمصطلح acrostic وهي طريقة ابتكرها الكهنة البابليون ثم انتقلت إلى عامة الشعر العبري (كالمزمور 119 مثلاً) والإغريقي ، فالروماني فاللاتيني في ما بعد.وبعد ، فهذا ما لدينا عن تأثير المراثي البابلية في المراثي التوراتية ، وهو موجز لدراسة مفصلة نقوم بإعدادها عن هذا الموضوع. ولكن يبقى لدينا سؤال لا نملك الآن إجابة رصينة عنه هو: هل امتد تأثير المراثي البابلية ، في ظرف ما ، وكيفية ما ، إلى الشعر الجاهلي فجاءنا في صيغة المقدمات الطللية التي شاعت في قصائده؟،ہ شاعر وناقد ومترجم عراقيهوامش:(1) حول بابلية هاتين القصيدتين ، راجع كتابنا: نظرات جديدة في أدب العراق القديم ـ دار أزمنة عمان ـ 2007 ـ ص ص 64 67 - (2)نشرت هذه الدراسة أول مرة في دمشق ـ مجلة الموقف الأدبي ـ العدد 412 ـ آب 2005 وأعيد نشرها في كتابنا: نظرات جديدة في أدب العراق القديم.(3) راجع حول ما قيل عن هذا السفر في المقدمة التي كتبت عنه في الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس مثلاً.(4) راجع مثلاً المقدمة التي كتبت عنها في المصدر السابق نفسه.(5) من المحتمل أن تكون الأناشيد الأربعة الأولى من نظم شاعر واحد ، والنشيد الخامس من نظم شاعر آخر أراد تقليده ، نظراً لما بين تلك الأناشيد وهذا النشيد من اختلاف جزئي في طريقة النظم ، ولكن هذا الاختلاف لا يغير شيئاً من حقيقة تأثر الشاعرين بالمراثي البابلية ، الأول مباشرة والثاني من خلاله وفق هذا الاحتمال.

Date : 30-01-2009

http://www.addustour.com/ViewTopic.a...0_id113592.htm