العلاقات الإسلامية النصرانية
رؤية شرعية في الماضي والحاضر والمستقبل


الجزء الأول :
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشـــهد أن لا إله إلا الله وحـــده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه كتاباً لا يغسله الماء، ففتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وأقام به الحجة، وأضاء به المحجة، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فلقد كان أولى الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، وذلك لأسباب:
أحدها: أنه البشارة المرتقبة التي زفها الأنبياء إلى أقوامهم، وخلعوا عليه وعلى أتباعه أجلَّ الأوصاف، وأكرم المعاني، فتعلقت أفئدتهم بذلك النبي المنتظر،ـ: على لسان عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6]، وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
والثاني: أنه البينة التي بها افتكاكهم من دوامة الخلاف المرير الذي مزقهم كل ممزق، حتى كفَّر بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً،ـ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْـمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] .
والثالث: أنه فَتْحٌ لأهل الإيمان على أهل الشرك والأوثان، ـ: {وَلَـمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .
ولكن هذا التوقع لم يقع إلا بصورة جزئية فردية، فقد تحددت مواقف أهل الكتاب؛ من يهود ونصارى، إبان العهد النبوي، وحين تنزل القرآن. وبدلاً من أن تنضوي زعامتا الديانتين (اليهودية والنصرانية) في الديانة الإسلامية التي تمثل الامتداد الطبيعي لملة إبراهيم عليه السلام؛ ناصبتاها العداء، وتفنَّنتا في ردها، ومحاولة وأدها في مهدها.
ونقصد في هذه المقالة الإلمام بمجمل العلاقات التاريخية بين المسلمين والنصارى؛ بوصفها الجبهة الساخنة ذات الشوكة والمواجهة، والكر والفر، والمد والجزر، على مدار التاريخ، بينما تختفي اليهودية في معظم فترات التاريخ عن الصدارة بسبب القلة العددية، والشتات القومي ليهود، والذلة والمسكنة التي ضربها الله عليهم، دون التقليل من خطرهم وكيدهم الخفي.
ولا شك أن الإحاطة بتفاصيل ومفردات العلاقات التاريخية بين المسلمين والنصارى عمل موسوعي ضخم؛ يتطلب توافر عشرات الباحثين عليه لِسِعَة رقعته الزمانية والمكانية، وتنوع مادته. والمقصود هنا وضع خطوطٍ عامة بارزة لتكوين خلفية تاريخية، يستصحبها الناظر للأحداث الراهنة، ويستشرف بها المستقبل؛ إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها.
يمكن أن نقسم تاريخ العلاقات الإسلامية ـ النصرانية إلى عدة مراحل متميزة:
يتبع الجزء الثاني بإذنه تعالى
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::