الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:

فإنّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقد جعله الله تعالى هو وأمّه آية في ولادتهما ونشأتهما، وهو آخر أنبياء الله تعالى ورسله من بني إسرائيل بعد أن انحرفوا وزاغوا عن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام حيث غلبت عليهم النزعات المادية وفقدوا الروح الديني الصحيح، فبعثه الله تعالى لإرشاد الضالين من بني إسرائيل، فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه، وقد أجرى الله تعالى على عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سنته، فأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ودعا إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له والتبري من عبادة الطواغيت والآراء الباطلة، متبعا سنة إخوانه المرسلين، ومصدقا لمن كان قبله ، ومبشرا بمن يأتي بعده (١). فكذبوه وعادوه ورموه وأمّه بالعظائم، وتآمروا على قتله، فطهره الله منهم ورفعه إليه وانتشرت دعوته بفضل ما أقامه الله تعالى لأنصار المسيح من دعوة إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه واستقام الأمر على السداد (٢)، هذا ما عليه اعتقاد أهل الحق فيه، غير أنّ هذه الرسالة واجهت اضطهادا ومقاومة شديدة أفضت إلى فقدان أصولها لامتزاجها بمعتقدات شركية وفلسفات وثنية، الأمر الذي ساعد على امتداد يد التحريف إليها فنشأت النصرانية بأفكار ومعتقدات منحرفة عن الرسالة التي أنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام.

ومن أهم ما قامت عليه النصرانية من معتقدات فلسفية وأفكار وثنية: الدعوة إلى التثليث وإلى ألوهية المسيح عليه الصلاة والسلام، وألوهية روح القدس، فالنصارى يؤمنون بالثلاثة إله واحد: الأب، والابن، وروح القدس، فهم واحد في الجوهر متساوون في القدرة والمجد، وفي وجودهم لم يسبق أحد منهم الآخر، وهم يعتقدون جميعا بحلول الله تعالى في المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكنهم يختلفون في كيفية الاتحاد والتجسد، فطائفة ترى أنّه إشراق النور على الجسد المشف، وفرقة تعتقد أنّه انطباع النقش في الشمعة، وأخرى ترى أنّه ظهور الروحاني بالجسماني، وفرقة رابعة ترى أنّ اللاهوت تدرع بالناسوت، وفرقة خامسة تعتقد أنّ الكلمة مازجت جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء، فحقيقة الله عند النصارى في دينهم المحرف هو أنّه جوهر واحد غير متحيز وليس بذي حجم، بل هو قائم بالنفس وهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية (٣). ولمّا كان هذا الزعم باطلا تعسّر عليهم فهمه (٤)، لذلك اختلف النصارى فيه اختلافا ظاهرا، وأفضى بكلّ فرقة تكفير الفرق الأخرى بسببه، وقد حكم الله تعالى بكفرهم جميعا وأنّ مصيرهم العذاب إن لم ينتهوا عمّا يقولون، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَه وَّاحِد وَّإِن لَّمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَنَّ الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[المائدة ٧٣].

ومن معتقداتهم المنحرفة اختراع قصة الفداء والصلب، فيعتقدون أنّ المسيح عليه الصلاة والسلام مات مصلوبا تكفيرا لخطايا البشر، فهو وحيد الله-في زعمهم- الذي أرسله ليخلص البشرية من إثم خطيئة أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام وخطاياهم (٥)، وأنّ النصارى جميعا اتفقوا على أنّ الابن اتحد بالشخص الذي يسمونه المسيح وأنّ ذلك الشخص ظهر للناس وصلب وقتل لكنّهم اختلفوا في كيفية صلبه هل القتل ورد على الجزء اللاهوت أم ورد على الجزء الناسوت أم على الجزءين معا (٦)، ثمّ دفن بعد صلبه، وقام بعد ثلاثة أيام يوم الأحد متغلبا على الموت ليرتفع إلى السماء. وقد جاء تكذيب الله لهم وبيان حقيقة الوقائع وزيف ما ادعوه قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِّنْهُ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء ١٥٧-١٥٨].

هكذا كان أساس دين النصارى قائما على شتم الله وتنقصه والشرك به، بناء على الآراء الباطلة والمعتقدات الفاسدة التي أخذت النصرانية معظمها من الديانات الموجودة قبلها ممّا أفقدها جوهرها وشكلها الأساسي الصحيح الذي كانت عليه دعوة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين، فجمع دين النصارى بين عيب الإله والشرك به سواء في ربوبيته أو ألوهيته، فمن مظاهر شرك النصارى في الربوبية ما قدمنا في الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءا منه وإلها آخر معه ونفوا أن يكون عبدا(٧)، ومن شركهم في الربوبية تشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت والناسوت في شخصية المسيح، وفكرة حلوله في شخص عيسى عليه السلام تفيد أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام إنسان إلهي صورته الخارجية صورة إنسان وطبيعته الداخلية إلهية فهو من طبيعتين امتزجتا وصارتا طبيعة واحدة كامتزاج النار والحديد أو اللبن والماء، ومن شركهم في الربوبية قولهم بمحاسبة المسيح عليه الصلاة والسلام الناس على أعمالهم في الآخرة (٨)، ومن ذلك جعل التشريع حقا للرؤساء الروحانيين في تنظيمهم الكهنوتي، وإعطاء الراهب والقسيس حقوق الغفران والتوبة (٩).

أمّا عن مظاهر شرك النصارى في الألوهية فتتجلى في:عبادة المسيح عليه الصلاة والسلام في مجمل صلواتهم، وتصوير الصور والتماثيل في كنائسهم وعبادتها (١٠)، وتوجه بعضهم إلى مريم البتول بالعبادة على أنّها والدة الإله، وتعظيم الصليب الذي هو شعار لهم جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، ولذلك لعن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور واتخاذها مساجد، فهكذا جمعت أمّة النصارى بين الشرك وعيب الإله وتنقصه فإنّهم أعظم ضلالا من اليهود وأكثر شركا (١١).

هذا، ومن آثار شرك النصارى على أمّة الإسلام يتجلّى في أخطر مسألة تأثر فيها المتصوفة وعباد الجهمية بالنصرانية المحرفة وهي عقيدة الحلول-كما تقدم- في اعتقاد النصارى بحلول الله في المسيح فقد تابع غلاة الصوفية ومن شاكلهم في القول بالحلول عقيدة النصارى حيث زعموا أنّ الحق اصطفى أجساما حلّ فيها بمعنى الربوبية، وأزال عنها معاني البشرية، والأجسام التي اصطفاها الله تعالى أجسام أوليائه وأصفيائه بطاعته وخدمته وزينها بهدايته وبين فضلها على خلقه حسب زعم المتصوفة(١٢)، وممّا يدلّ على ذلك ما أنشده الحلاج بقوله:



سبحان من أظهر ناسُوته **** سرّسَنا لاهـوتِهِ الثّـاقِـبِ
ثمّ بدا في خلقه ظاهـرا **** في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عايَـنَه خلقُـه **** كلحْظَة الحاجب بالحاجـب(١٣)


وفي نظير شركهم ما وقع فيه طوائف من المنتسبين للإسلام، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته، ونوره وهداه، فظنوا أنّ ذلك نفس ذات الرب(١٤).

هذا، وقد كان أثر النصرانية المحرفة عاملا لا سبيل إلى إنكاره في وجود عقيدة الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين من هذه الأمّة عند المتصوفة والرافضة والجهمية ومن على شاكلتهم حيث غلوا في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وغلت الشيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي غيرهما ممن دونهما وبالغوا في المدح فرفعوهم من منزلة العبد إلى منزلة المعبود، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنّما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله)(١٥) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والغلو في الدين فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)(١٦)، كما وجدت في هذه الطوائف وغيرها من القبوريين ممن ينتسب إلى الإسلام عقيدة السجود للقبور واتخاذها مساجد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا وإنّ من كان قبل كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك)(١٧)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنّ من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)(١٨) ومن مظاهر التأثر أنّ النصارى ادعوا أنّ المسيح نور(١٩) وكذلك ادعى بعض المتصوفة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه نور من نور الله وغلوا فيه، ولا تكاد تجد كنيسة خالية من صورة المسيح ومريم وجرجس وبطرس وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله، وهكذا ترى بعض القبوريين والمتصوفة يضعون صورة شيخهم أو شيوخهم اتجاه قبلته ويركعون لها ويسجدون، وتعلق الصور أو تحمل للاستشفاء والبركة وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أنّ أمّ سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)(٢٠). ومن مظاهر التأثر-أيضا- أن النصارى أعطت للزعماء الروحانيين سلطة التشريع التي هي من خصائص الرب عز وجلّ فكانت عبادتهم متجلية في: طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذه الآية: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِّن دُونِ اللهِ﴾[التوبة ٣١] فقلت له: "إنّا لسنا نعبدهم" قال: (أليس يحرّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟) فقلت:"بلى"، قال: (تلك عبادتهم)(٢١) وهكذا نرى طابع التأثير واضحا في أهل التعصب من المقلدة لمذاهبهم وعلمائهم ولو ظهرت النصوص الشرعية على خلافهم، كما يظهر في بعض الشعوب المسلمة التي أعطت سلطة التشريع والتغيير والتبديل لأمر الدين لبرلمانهم وحكامهم دون تروٍ أو تمعن فيما وافق أحكام الشرع ونصوصه أم خالفهما.

هذا، فضلا عمّا تأثر المتصوفة بالنصارى في مفهوم الرهبة والتبتل والهروب عن الناس وترك التزوج والدعوة إلى تطهير الروح عن طريق تعذيب الجسد بأنواع من المجاهدات الشاقة القاتلة والسياحة في البلاد مقتدين في سلوكهم مواعظ الرهبان وأخبار رياضتهم الروحية (٢٢).

تلك هي أهم آثار شرك النصارى على أمّة الإسلام فقد صدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ؟)(٢٣).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.

منقول عن موقع علامة الجزائر وريحانتها العلامة:

أبو عبد المعز محمّد علي فركوس



الجزائر في: 18 جمادى الأولى 1426هـ

المـوافق لـ: 25 جوان 2005 م