من اسرار القرآن
بقلم : الدكتور زغلـول النجـار


فضربنا علي آذانهم في الكهف سنين عددا الكهف‏:11‏

هـذه الآية الكريمة جاءت في أوائل سورة الكهف‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها مائة وعشرة‏(110)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة أصحاب الكهف وهم فتية فروا بدينهم ولجأوا إلي غار بجبل مكثوا فيه نياما لثلاثمائة وتسع من السنين القمرية‏,‏ ثم بعثهم الله ـ تعالي ـ بعد تلك المدة الطويلة بمعجزة تشهد لله بطلاقة القدرة‏,‏ وهي إحدي سور خمس بدئت بـ‏(‏ الحمدلله‏).‏ وتدور السورة الكريمة حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ وتضرب لها ثلاث قصص أولاها قصة أهل الكهف وثانيتها قصة نبي الله موسي والعبد الصالح وثالثتها قصة ذي القرنين‏,‏ كما تضرب ثلاثة أمثال‏:‏ مثل الغني المغتر بثروته وجاهه والفقير المعتز بعقيدته ودينه‏,‏ ومثل الحياة الدنيا في الفناء والزوال‏,‏ والموت من أحق حقائقها‏,‏ ومثل عاقبة التكبر والغرور متجسدة فيما نال إبليس اللعين من الطرد والحرمان من رحمة الله نتيجة لعصيانه وامتناعه عن السجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ والقصص والأمثال جاءت لاستخلاص العبر والدروس للاستفادة بها والاعتبار بما جاء فيها‏.‏

ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول القضايا الأساسية التالية‏:‏

‏(1)‏ التأكيد علي حقيقة الوحي بالقرآن الكريم‏,‏ وأنه كلام الله الموحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله نذيرا للكفار والمشركين وبشيرا بالخلود في الجنة للمؤمنين‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
الحمدلله الذي أنزل علي عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا‏*‏ قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا‏*‏ ماكثين فيه أبدا‏*‏
‏(‏الكهف‏:1‏ ـ‏3)‏

(2)‏ التنديد بالذين أشركوا بالله ـ تعالي ـ ونسبوا له الولد زورا وبهتانا‏,‏ ونفي الشريك عن الله ـ تعالي اسمه ـ نفيا قاطعا‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا‏*‏ مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا‏*‏ فلعلك باخع نفسك علي آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
‏(‏الكهف‏:4‏ ـ‏6).‏

(3)‏ التأكيد علي حقيقة ابتلاء البشر بزينة الحياة الدنيا‏,‏ وزخارفها ومباهجها ومغرياتها والتأكيد علي أن نهاية الحياة الموت‏,‏ ونهاية الدنيا الزوال‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
إنا جعلنا ما علي الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا‏*‏ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا‏*‏
‏(‏الكهف‏:7‏ ـ‏8).‏

(4)‏ التأكيد علي أن الصراع بين الحق والباطل‏,‏ والخير والشر‏,‏ والإيمان والكفر سنة من سنن الحياة الدنيا‏,‏ وأن الحق لاينتصر لمجرد كونه حقا‏,‏ ولكنه يحتاج إلي المؤمنين به‏,‏ المجاهدين في سبيله بالنفس والنفيس‏,‏ فإن عجزوا عن ذلك فالفرار بالدين ولذلك جاءت الإشارة إلي قصة أصحاب الكهف الذين آثروا الهجرة فرارا بدينهم من بطش الحكام الجائرين المتجبرين علي الخلق وجاء ذلك في ست عشرة آية‏(‏ من الآية‏9‏ إلي‏26,25,22)‏ من هذه السورة المباركة‏.‏ وقد اختلف المفسرون في هوية أصحاب الكهف ولكن الغالب أنهم كانوا من أتباع نبي الله عيسي بن مريم‏,‏ وأنهم عاشوا علي أرض فلسطين في ظل احتلال الامبراطور الروماني الطاغية‏(‏ تراجان‏)‏ الذي حكم في الفترة من‏98‏ م إلي‏117‏ م‏,‏ واحتل أرض فلسطين سنة‏106‏ م‏,‏ وأجبر أهلها علي عبادة الأصنام وطارد أتباع السيد المسيح‏(‏ عليه السلام‏)‏ فقتل منهم من قتل وشرد من شرد‏,‏ وأصحاب الكهف أنزل الله ـ تعالي ـ عليهم معجزة من عنده فناموا نوما عميقا لثلاثمائة وتسع من السنين القمرية‏,‏ ثم بعثهم الله ـ تعالي ـ من نومهم هذا في عهد الامبراطور‏(‏ تيودوسيوس‏)‏ في الفترة الواقعة بين‏408‏ م و‏450‏م‏,‏ وتؤكد ذلك النقود البيزنطية التي عثر عليها في كهف يعرف باسم كهف‏(‏ الرجيب بالعامية وأصلها الرقيم كما سماه القرآن الكريم‏)‏ والذي اكتشف في صحراء البلقاء علي بعد بضعة كيلو مترات من مدينة عمان‏.‏

وكان أول من كتب عن قصة أصحاب الكهف بالسريانية هو العراقي جيمس الساروغي‏(JamesofSarus)‏ المتوفي سنة‏518‏ م‏,‏ ثم نقلها جريجوري إلي اللاتينية في القرن السادس الميلادي‏,‏ ثم نقلت إلي كل من الفارسية والعربية‏,‏ واليونانية والحبشية والهندية‏,‏ وعلق عليها المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون‏(EdwardGibbon)‏ في كتابيه المعنونين‏(‏ سقوط روما وانحطاطها‏)‏ ثم‏(‏ الصراع بين الإيمان والمادية‏)‏ واعتبرها من قبيل الخرافات التي ابتدعها الإغريق‏,‏ وهذا باطل محض لايدعمه دليل واحد‏,‏ ومن أقوي ما يدحضه اكتشاف الكهف بنفس المواصفات التي حددها القرآن الكريم ولم ـ ترد في روايات الأقدمين شيء عنها‏.‏
وتؤكد السورة الكريمة أن معجزة أصحاب الكهف تشير إلي إمكانية البعث‏,‏ وهي كغيرها من المعجزات التي أوردها القرآن الكريم‏.‏ أمر يسير بالنسبة إلي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون‏:‏ في الأنفس والآفاق والقادرة علي تغيير سنن الكون ونواميس الحياة والموت‏.‏

(5)‏ وتأمر السورة الكريمة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ كما تأمر كل مؤمن برسالته أن يستعين دوما بالمشيئة الربانية قبل الإقدام علي أي عمل‏,‏ وأن يداوم علي ذكر الله وذلك بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا‏*‏ إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسي أن يهدين ربي لأقرب من هذارشدا‏*‏
‏(‏الكهف‏:24,23).‏

وتأمر السورة المباركة كذلك بالمداومة علي تلاوة القرآن الكريم وبالثبات علي الصحبة الصالحة والبعد كل البعد عن رفاق السوء فتقول‏:‏
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لامبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا‏*‏ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا‏*‏
‏(‏الكهف‏:27‏ ـ‏28).‏

(6)‏ وتؤكد السورة الكريمة علي حرية الاعتقاد وعلي أن الإنسان مخلوق ذو إرادة حرة‏:‏
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏...(‏ الكهف‏:29).‏
وتصف جانبا من عذاب الظالمين‏,‏ وطرفا من ثواب المؤمنين الصالحين‏.‏

(7)‏ وتذكر مثلا لمن أبطرته النعمة‏,‏ ولمن ثبتته العقيدة الصادقة‏,‏ وتشير إلي مصير كل منهما في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ كما تضرب مثلا بدورة الحياة والموت لتؤكد هوان هذه الدنيا الفانية إذا ما قورنت بالآخرة الباقية الخالدة‏,‏ وتشير إلي حقيقة كبري يصفها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بقوله‏:‏
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا‏(‏ الكهف‏:46).‏

(8)‏ وتعرض السورة الكريمة لشيء من أوصاف الآخرة وما فيها من تدمير للكون ثم بعث وحشر‏,‏ وعرض‏,‏ وحساب فتقول‏:‏
ويوم نسير الجبال وتري الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏*‏ وعرضوا علي ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا‏*‏ ووضع الكتاب فتري المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولايظلم ربك أحدا‏*‏
‏(‏ الكهف‏:47‏ ـ‏49).‏

(9)‏ وتذكر سورة الكهف بقصة خلق أبينا آدم ـ عليه السلام ـ وتشير إلي سجود الملائكة له انصياعا لأمر الله ـ تعالي ـ وإلي معصية إبليس برفض أمر الله ـ تعالي ـ له بالسجود لأبي البشر فسوقا وعصيانا وكبرا واستعلاء‏,‏ ونهي الله ـ تعالي ـ عباده المؤمنين عن اتخاذ الشيطان وذريته أولياء وهم الأعداء الألداء‏.‏
وتؤكد السورة الكريمة علي أن الحديث عن قضية الخلق ـ بأبعادها الثلاثة‏:(‏ خلق الكون‏,‏ خلق الحياة‏,‏ خلق الإنسان‏)‏ هو متاهة كبيرة بغير الهداية الربانية التي جاءت في كتاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ وفي الصحيح المرفوع إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من أحاديثه‏,‏ فتقول‏:‏
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا‏(‏ الكهف‏:51).‏

(10)‏ وتعاود الآيات في سورة الكهف إلي وصف شيء من مواقف الحساب في الآخرة وعلي ذل المشركين فيها فتقول‏:‏
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا‏*‏ ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا‏*‏ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏*‏ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدي ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا‏*‏ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا‏*‏ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلي الهدي فلن يهتدوا إذا أبدا‏*‏ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا‏*‏ وتلك القري أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا‏*‏
‏(‏الكهف‏:52‏ ـ‏59).‏

وما أروع هذه الآيات في التعبير عمن نزلت فيهم من المشركين والكفار‏,‏ وما أروعها في الرد علي خفافيش الظلام الذين يتوارون خلف شاشات شبكة المعلومات الدولية أو بعض القنوات الفضائية المشبوهة ينفثون سمومهم ضد كتاب الله الخالد وضد خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليهم وسلم ـ وكأن هذه الآيات قد نزلت فيهم وفي أمثالهم إلي يوم الدين‏...!!‏
‏(11)‏ وبعد ذلك تعرض سورة الكهف لقصة نبي الله موسي مع العبد الصالح الذي آتاه الله ـ تعالي ـ رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما‏,‏ ليؤكد علي محدودية علم الإنسان مهما زاد‏,‏ وعلي ضرورة الرضا بقضاء الله وقدره وإن بدا في غير صالح الإنسان‏,‏ لأن علم الله ـ تعالي ـ محيط بكل شيء‏,‏ وعلم الإنسان قاصر عن إدراك كل شيء‏,‏ كما تؤكد علي ضرورة رعاية اليتيم‏,‏ وعلي أن اقتلاع الشر من الأرض واجب‏,‏ وعلي ان صلاح الوالدين يبقي للذرية مهما طال الأمد‏.‏

(12)‏ ثم تعرض السورة الكريمة لقصة العبد الصالح الذي مكن الله ـ سبحانه وتعالي ـ له في الأرض وآتاه من كل شيء سببا فأتبع سببا‏,‏ والذي سمته السورة الكريمة باسم ذي القرنين‏,‏ وتعرض لتعاملاته مع من مر عليهم من الأقوام ومنهم يأجوج ومأجوج الذين أفسدوا في الأرض فأقام بينهم وبين جيرانهم سدا‏.‏ وفي ذلك وصف للقائد الصالح المؤمن بربه وبرسالته هو في هذه الحياة الدنيا‏:‏ عبدا لله يعبده ـ سبحانه وتعالي ـ بما أمر‏,‏ ويجاهد من أجل إعمار الأرض وإقامة عدل الله فيها‏,‏ ومكافحة الظلمة المتجبرين علي الخلق في كل مكان من الأرض‏.‏
والإشارة إلي أن دك هذا السد الذي أقامه ذو القرنين هو من علامات الآخرة‏.‏

(13)‏ وتعاود الآيات في سورة الكهف إلي ذكر بعض مشاهد الآخرة وما فيها من بعث وحشر وعرض أكبر أمام الله ـ تعالي ـ وحساب وجزاء‏,‏ كما تعاود إلي استنكار شرك المشركين‏,‏ وكفر الكافرين وإلي ذكر جزاء كل منهم فيها فتقول‏:‏
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا‏*‏ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا‏*‏ الذين كانت اعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لايستطيعون سمعا‏*‏ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا‏*‏ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا‏*‏ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏*‏ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏*‏ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا‏*‏
‏(‏الكهف‏:99‏ ـ‏106).‏

(14)‏ وتنتقل الآيات في ختام سورة الكهف إلي وصف شيء من جزاء المؤمنين وإلي تعظيم القرآن الكريم فتقول‏:‏
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا‏*‏ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا‏*‏ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا‏.‏

(15)‏ وتختتم سورة الكهف بنصيحة غالية علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ تؤكد بشريته‏,‏ ونبوته‏,‏ كما تؤكد التوحيد الخالص لله تعالي بغير شريك ولا شبيه‏,‏ ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏,‏ وتؤكد ضرورة الحرص علي العمل الصالح والتحذير من الشرك بالله ـ سبحانه ـ علي أي مستوي يكون‏,‏ وفي ذلك ـ يقول ربنا ـ تبارك وتعالي موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ‏:‏
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولايشرك بعبادة ربه أحدا
‏(‏الكهف‏:110)‏

ولروعة ماورد في هذه السورة المباركة من معان كريمة ـ والقرآن الكريم كله رائع ـ روي أبو الدرداء عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قوله الشريف‏:‏ من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال‏(‏ رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي‏)‏
وقوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏ من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال‏(‏ رواه مسلم والنسائي والرواية أيضا عن ثوبان‏).‏


من ركائز العقيدة في سورة الكهف

(1)‏ الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ لاشريك له في ملكه‏,‏ ولا منازع له في سلطانه‏,‏ ولاشبيه له من خلقه‏,‏ ولا حاجة له إلي الصاحبة والولد‏,‏ فهذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والخالق منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏.‏

(2)‏ التصديق بالوحي بالقرآن الكريم وبأنه كلام الله الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله بشيرا ونذيرا‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

(3)‏ اليقين بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ والإيمان بهم جميعا بغير تمييز ولاتفريق‏.‏

(4)‏ التسليم بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء للناس‏(‏ أيهم أحسن عملا‏),‏ وأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏(‏ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا‏).‏

(5)‏ الإيمان بالآخرة وبما فيها من بعث وحشر‏,‏ وعرض أكبر أمام الله ـ تعالي ـ وحساب وجزاء‏,‏ وبأن الجنة حق‏,‏ وأن النار حق‏,‏ وأنها لجنة أبدا أو نار أبدا‏.‏

(6)‏ اليقين بأن الشيطان وذريته أعداء للإنسان‏,‏ فلا يجوز أبدا اتخاذهم أولياء‏,‏ وأن الذين كفروا سوف يظلون دوما‏(‏ يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق‏,‏ ويتخذوا آيات الله وما أنذروا به هزوا‏)‏ وقد جعل الله‏(‏ علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا‏...)‏ وهؤلاء لن يهتدوا أبدا‏.‏ وأن رسالة المرسلين‏,‏ ودور الدعاة المهتدين من بعدهم هي البشارة والنذير‏.‏

(7)‏ التصديق ببشرية رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وببشرية جميع الأنبياء والمرسلين الذين دعوا جميعا إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده دون شريك‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الكهف
‏(1)‏ التأكيد علي حتمية فناء الكون‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤيد ذلك وتدعمه‏.‏
‏(2)‏ ذكر قصة أهل الكهف‏,‏ والكشوف الأثرية تثبتها‏.‏

(3)‏ التلميح إلي أن الضرب علي الآذان يعين علي الاستغراق في نوم عميق والبحوث العلمية تؤكد ذلك‏.‏

(4)‏ الإشارة إلي تقليب النيام لحمايتهم من التقرحات الجسدية‏.‏

(5)‏ تحديد فترة نوم أصحاب الكهف بثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا‏,‏ والثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسعا من السنين القمرية ولايمكن أن يكون ذلك مصادفة‏.‏

(6)‏ وصف خلق الإنسان من تراب ثم من نطفة‏,‏ ثم تسويته إنسانا كاملا‏,‏ والوصف من الناحية العلمية في غاية الدقة‏.‏

(7)‏ التأكيد علي أن عملية الخلق بأبعادها الثلاثة‏:‏ خلق الكون‏,‏ خلق الحياة‏,‏ وخلق الإنسان قد تمت بمعزل تام عن الإنسان وقبل وجوده‏,‏ والعلوم المكتسبة تدعم ذلك‏.‏

(8)‏ تشبيه مرحلية الحياة الدنيا بدورة الإنبات والحصاد والتشبيه صحيح تماما‏.‏

(9)‏ الإشارة إلي سبيكة الحديد والنحاس‏,‏ وهي إحدي أقوي السبائك المعروفة صلابة ونعومة ملمس‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا إلي النقطة الثالثة فقط من القائمة السابقة والتي تدور حول العلاقة بين الإستغراق في النوم العميق والضرب علي الآذان‏,‏ وإن كانت الحادثة معجزة‏,‏ والمعجزات لاتعلل‏,‏ ولكن الإشارة إليها في الآية الكريمة من اللافت للانتباه‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة

من مآسي البشرية محاولتها القياس دوما بمقاييس البشر‏,‏ ونسيان أن قدرة الله الخالق لاتحدها حدود ولايقف أمامها عائق‏:‏
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏*(‏ يس‏:82)‏

وبقياس أعمال الله ـ تعالي ـ بمعايير البشر تبدو غير ممكنة‏,‏ ومن هنا أنكر الكفار كل المعتقدات الصحيحة‏,‏ كما أنكروا كل المعجزات الحسية التي أجراها الله تعالي لعباده من الأنبياء والمرسلين والكرامات التي وهبها لغيرهم من الصالحين‏.‏

وانطلاقا من هذا الموقف الخاطيء أنكر المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون‏EdwardGibbon‏ واقعة أهل الكهف واعتبرها من قبيل الخرافات‏,‏ التي ابتدعها الإغريق‏,‏ كما أنكرها الكثيرون غيره لأنه ليس في مقدور الإنسان إبقاء جسد بشري في حالة من السبات العميق لمدة ثلاثمائة سنة ثم إيقاظه حيا‏,‏ وإن كان الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ قد تمكن أخيرا من حفظ أعضاء من جسد الإنسان حية بالتبريد‏,‏ وذلك مثل القلب‏,‏ والكبد‏,‏ والكلي‏,‏ وقرنيات العيون‏,‏ والدم‏,‏ وغيرها‏,‏ وذلك في عملية تعرف باسم وقف الاستقلاب‏MetabolicInhibtion‏ وفي هذه العملية يتم وقف عمليات الهدم المدمرة للأنسجة‏,‏ ومنها يمكن أيضا تبريد جسد إنسان كامل بالتدريج إلي درجات حرارة منخفضة جدا فيتجمد الجسد دون ضرر لخلاياه ولا لأنسجته ولا لأجهزة جسمه‏,‏ فيصبح شبيها بالميت‏,‏ وبتدفئة هذا الجسد المتجمد بالتدريج أيضا يمكن أن يعود إلي حالته الطبيعية‏.‏ وقد عاد إلي الحياة في زماننا أشخاص دفنوا تحت الجليد لعدة أيام وبالتدفئة التدريجية عادوا إلي الحياة بإذن الله‏.‏ وإذا كان ذلك قد أصبح اليوم في مقدور الإنسان‏,‏ فهل يعجز رب الناس عن تحقيقه بأي طريقة يشاء؟‏.‏

ولو كان أهل الكهف نياما نوما طبيعيا لاحتاجوا إلي الماء والغذاء وإلي إخراج الفضلات وإلي غير ذلك من الأنشطة الحيوية‏,‏ ولكن الله ـ تعالي ـ قد أوقف جميع الوظائف الحيوية في أجسادهم بأمره الإلهي‏,‏ وحفظ تلك الأجساد من التحلل علي مدي ثلاثمائة من السنين الشمسية وهي تساوي ثلاثمائة وتسعا من السنوات القمرية‏.‏

ويعنينا هنا من الآية التي نحن بصددها العلاقة بين الضرب علي الأذن والاستغراق في سبات عميق‏,‏ وإن كان الأمر قد تم بمعجزة إلهية والمعجزات لاتعلل‏,‏ ولكن نص الآية الكريمة يشير إلي علاقة ما قال عنها بعض المفسرين هي حالة من الإغماء الطويل‏,‏ ولكن الإغماء العادي إذا طال دون عناية مركزة يفضي حتما الي الوفاة‏.‏

وقال البعض الآخر إن الله ـ تعالي ـ قد حجب وظيفة السمع ليناموا‏,‏ وإن كان الظاهر أنه سبحانه وتعالي قد أوقف وظيفة السمع ضمن إيقاف جميع وظائف الجسم الأخري‏,‏ فآذانهم لا يسمعون بها رغم كونها موجودة‏,‏ وعيونهم لايبصرون بها رغم كونها مفتوحة‏,‏ وعضلاتهم لايستعملونها رغم كونها سليمة ولذلك قال تعالي‏:‏

فضربنا علي آذانهم في الكهف سنين عددا‏*‏ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصي لما لبثوا أمدا‏*(‏ الكهف‏:12,11).‏

ثم قال ـ تعالي ـ‏:‏
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال‏..*‏ ‏(‏ الكهف‏:18)‏

ينفق الإنسان ثلث عمره في النوم‏,‏ والنوم يلعب دورا مهما في تنمية الذاكرة‏.‏ والنوم هو حالة من حالات الوجود للكائن الحي يتعرض فيها الجسم ـ بصفة عامة‏,‏ والمخ بصفة خاصة ـ إلي سلسلة من التغيرات الأساسية التي تجعله مغايرا لحالة اليقظة مغايرة كاملة‏,‏ وإن دخل إلي النوم عبر عدد من المراحل المتدرجة‏.‏ فالشبكة العصبية للمخ تختلف في حالة المنام عنها في حالة اليقظة‏,‏ وكذلك يختلف معدل تدفق الدم إليه‏,‏ ووفرة الأكسجين ونسب توزيعه‏,‏ وتتباطأ عمليات الاستقلاب في المخ وكذلك جميع العمليات المستقلة‏AutonomicFunctions,‏ ومنها التحكم في درجة حرارة الجسم‏,‏ وعمل نظام الغدد الصماء‏,‏ وغيرها‏.‏

والجهاز العصبي المركزي‏CNS‏ يتحكم في الدورة العادية لليقظة والمنام‏,‏ وفي إحساس النائم بالوسط المحيط به‏,‏ واليقظة يدعمها جهاز الحس والنقص في مستوي هذا الحس أو غيابه هو الذي يؤدي إلي النوم‏Bremer,1935‏ وثبت وجود علاقة عكسية بين الاستغراق في النوم ومستوي الحس‏Velluti,.1997‏

وعلي الرغم من أن قدرات المخ علي تحليل المعلومات المحسوسة تتناقص بشكل ملحوظ عند النوم إلا أنها لاتتلاشي بالكامل‏,‏ فجميع نظم الحس في الإنسان تتأثر بحالة النوم أو اليقظة للمخ وتوثر فيه‏,‏ والمخ النائم يفرض قيودا علي عملية تحليل المعلومات الواردة إلي الجهاز العصبي المركزي‏,‏ ولو أننا لانفهم بالكامل كيفية تحليل المخ للمعلومات الحسية الواردة إليه‏,‏ وذلك لتعقيد الشبكات العصبية المستقبلية للمعلومات الواردة وتلك الحاملة للأوامر الصادرة من المخ‏.‏

وهناك ملاحظات عديدة تدعم الارتباط الوثيق بين النوم ووظائف السمع‏,‏ وذلك لأن السمع هو الجهاز الوحيد للاستقبال عن بعد الذي يبقي مفتوحا بدرجة نسبية في أثناء فترة النوم ليبقي راصدا للبيئة التي يوجد فيها صاحبه النائم ولمختلف المؤثرات فيها من مثل بكاء الاطفال الصغار الذي سرعان مايوقظ والديه أحدهما أو كلاهما ـ خاصة الأم‏RicardoVelluti&MarisaPedemonte,2002‏ كذلك فإن العلاقة بين الضجيج وقلة النوم وبين الهدوء والاستغراق في النوم‏,‏ وبين الإدراك السمعي والنوم‏,‏ والذي يتمثل في وجود صور سمعية في حوالي‏65%‏ من الأحلام التي يتذكرها أصحابها‏,‏ وتزايد تدفق الدماء إلي مراكز السمع بشكل ملحوظ في أثناء النوم المنقطع‏Paradoxicalsleep‏ كل ذلك يؤكد العلاقة بين النوم ووظائف السمع فإن الإشارة القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ فضربنا علي آذانهم في الكهف سنين عددا‏*‏ تعتبر سبقا علميا في زمن لم يكن لأحد من الخلق أي إمكانية لإدراك ذلك‏.‏

وقد تأكدت هذه العلاقة بتجربة علمية قامت بها طالبة بالمرحلة الجامعية الأولي بجامعة جون هوبكنز عمرها‏(21)‏ سنة واسمها سيرينا ج جونديك‏SerenaJ.Gondek‏ تدرس الهندسة الطبية الحيوية‏BiomedicalEngineering‏ وقرأت بحثها أمام أحد المؤتمرات العلمية في‏1998/4/28‏ م وقد استخدمت عددا من الأقطاب الكهربية الموصلة مباشرة إلي المخ في محاولة للبحث عن أجزائه التي تستثار بالأصوات في أثناء النوم فوجدت أن مراكز السمع الرئيسية علي جانبي المخ فوق الأذنين مباشرة والتي تستقبل الأصوات في حالة اليقظة هي هي التي تستقبل الأصوات في حالة المنام‏,‏ ولكن بدرجة أقل‏,‏ وإن اشترك معها الفص الجبهي من المخ الذي له دور أساسي في عملية الوعي وفي تقرير هل يوقظ صاحبه النائم أم لا عند تلقيه بعض الإشارات العصبية من المستثيرات الصوتية‏.‏

هذه العلاقة بين الآذان ـ وهي الأبواق الخارجية لمراكز السمع علي جانبي المخ ـ وبين الاستغراق في النوم أو اليقظة منه بسبب انخفاض الموجات الصوتية الواصلة إلي الأذن أو ارتفاعها‏,‏ هذه العلاقة لم تكن معروفة في زمن الوحي ولا لقرون عديدة من بعده‏;‏ ولم تدرس دراسة مختبرية إلا في القرن العشرين‏,‏ ولم تتبلور بعض نتائجها إلا في العقود المتأخرة منه‏.‏ وسبق القرآن الكريم بذكر هذه العلاقة ـ وهو كتاب أنزل علي نبي أمي ـ صلي الله عليه وسلم ـ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل ألف وأربعمائة سنة‏,‏

مما يشهد لهذا الكتاب بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه‏,‏ علي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية ـ ولم يقطعه لرسالة سابقة أبدا ـ وحفظه كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية‏,‏ وتعهد ـ سبحانه وتعالي ـ بذلك إلي قيام الساعة‏,‏ حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي جميع الخلق بأنه كلام الله‏,‏ وشاهدا أيضا بالنبوة وبالرسالة للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏