بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واسع الفضل والإحسان، مضاعف الحسنات لذوي الإيمان والإحسان، ولا تغيض نفقاته بمر الدهور والأزمان،
وأصلي وأسلم على رسوله محمد المبعوث رحمة للأنام، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أمــا بعــد : فهذه الحلقة الثانية من كتاب/ فضل العشر والأضحية، ويقول كاتبه فيها:
وهذه الأذكار تنقسم إلى قسمين هما:
الأول: الذكر المطلق، وهذا يكون في سائر الأوقات والأحوال، وليس له حد ولا عدد.
الآخر: الذكر المقيد والمؤقت عقب الصلوات، وهذا في وقته أقوال للعلماء، حيث إنه لم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعاً، وأشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو المنقول عن علي وابن مسعود وابن عمر، وبه قال الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وقول عن الشافعي.
وكذلك صفة التكبير، أصح ما ورد فيه، التكبير ثلاثاً، ويزيد لا إله إلا الله،
وقيل يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله، ثم ثنتين.
وقيل واحدة، يزيد بعدها ولله الحمد.
جاء ذلك عن عمـــر وابن مسعود وسلمان، وبه قال أحمد وإسحاق.
والأمر في ذلك واسع ولا حرج فيه ولا إنكار.
إلا أنه قد أحدث في هذا الزمان زيادات لم ترد عن السلف، واستحسن البعضُ صيغاً أخرى لا أصل لها.
فكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
ثالثاً: إن الفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما هي إحسان من الله عز وجل لمن شاء، فإن قيل: أي العشرين أفضل ؟
عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان ؟
قلت: أجاب العلامة ابن القيم على ذلك بقوله:
"
الصواب فيه أن يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان، وبهذا التفضيل يزول الاشتباه ويدل عليه: أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه، إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية " (1)
رابعاً: تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله تعالى.
ومعناه لغة: المشقة، وشرعاً: بذل الجهد في إعلاء الدين ونشره، وإخماد الكفر ودحضه.
ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق.
فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلم أمور الدين، ثم العمل بها، ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب.

وأما مجاهدة الفساق: فباليد ثم اللسان ثم القلب.
خامساً: إن أعمال البر يفضل بعضها على بعض، وإن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها، والمحافظة على بر الوالدين، أمر لازم متكرر دائم، لا يصبر على مراقبة أمر الله عز وجل فيه إلا الصد يقون.
وفي الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه، نجد تقديم فريضة الصلاة على البر والجهاد، وذلك لكونها لازمة للمكلف في كل أحيانه، وأما تقديم البر على الجهاد، فذلك لتوقفه على إذن الوالديـن ( وهذا ما لم يكن متعيناً عليه)
ولكن: لماذا خص النبيُ صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر ؟
فالجواب ذكره الحافظ ابن حجر نقلاً عن شيخ المفسرين الإمام الطبري – رحم الله الجميع – موضحاً الحكمة من ذلك قائلاً: ( إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر، لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضَيَّع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر، مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه، كان لغيرهما أقل براً، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك.

فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها، كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع) (2) ا هـ.
سادساً: فضل الصيام في هذه الأيام واستحبابه، لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، لما تقدم من الأحاديث الدالة على فضيلة العمل فيها، والصوم مندرج تحتها، ولا يعارض هذا ما أخرجه مسلم وغيرُه من حديث أم المؤمنين عائشــة رضي الله عنهــا: { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط}
حيث أجاب العلماءُ عنه بأجوبة:
أ – أن هذا إخبار الراوي عن علمه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله مقدم على شيء لم يعلمه الراوي.
قلت: والدليلُ عليه: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: { عليك بالصوم فإنه لا مثل له} (3)
الآخر: حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ....الحديث} (4)
قلت: وهذا الحديث مثبت والأول ناف ومن المعلوم أن المثبت مقدم على النافي كما هو مقرر في علم الأصول.
ب – أنه مما يتأول قولها ( لم يَصُمْ العشر ) أنه لم يصمه لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يُفرض على أمته، كما رواه الشيخان ( البخاري ومسلم ) من حديث أم المؤمنين عائشـة رضي الله عنها أيضاً،قالت: { إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم}
ج - أو أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما.
د – أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، فقد ثبت من قوله وفعله ( سبق ذكره ) ما يدل على مشروعية الصوم وفضيلته فلا يقدح في ذلك عدم الفعل. والله أعلم.
سابعاً: إحياء شعيرة من شعائر الإسلام، وتذكيراً بسنة أبينا إبراهيم بما وقع في قصة الذبح والفداء مع ابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لقوله تعالــى : {وفديناه بذبح عظيم}(5)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) نقلاً من زاد المعاد 1/21بتصرف
(2) انظر فتح الباري 6/4
(3) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، انظر
صحيح الجامع 2/747 حديث رقم 4044
(4) أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود انظر صحيح سنن أب داود حديث رقم 2129 وجامع

الأصول 6/320 حديث رقم 4460
(5) الآية رقم 107 من سورة الصافات