قواعد من آيات الصوم

تكلم الله سبحانه وتعالى عن الصوم في كتابه العزيز في آيات متتابعة من سورة البقرة (183-187)، بداية من قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) إلى قوله تعالى: ((...كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)) وقد بيّن الله تعالى في هذه الآيات الكريمة العديد من القواعد التي ينبغي للمسلم أن يتوقف عندها بكثير من التأمل والتدبر، ليضئ بأنوارها قلبه، ويشع بإضاءاتها مجتمعه، وينطلق بمكنوناتها في الأرض، حيث البشرية في أمس الحاجة إلى توجيهات القرآن الكريم الخلقية والسلوكية والعقدية.

وحتى لا أطيل في المقدمة ألج إلى هذه القواعد العظيمة التي رسخها كتاب ربنا إيمانا وهداية ورشادا: . التقوى هي الغاية من العبادة: ابتدأت آيات الصوم بإثارة التقوى في النفوس واختتمت كذلك بها حيث يقول سبحانه بداية: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) ثم يختتم ذلك بقوله: ((...كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)) وبذلك يبين الله سبحانه وتعالى أن الغرض من العبادة –وهنا الصوم- هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقوى تعني أن لا يراك الله في معصيته ولا يفتقدك من طاعته، ومعنى ذلك أن الحياة بأكملها تتحول إلى مراقبة لله تعالى فلا يحيف الإنسان ولا يظلم ولا يتعدى على نفسه ولا مجتمعه ولا بيئته ولا الكون الذي يعيش فيه، فيعيش حياة موصلة بالله تعالى. والتقوى تدخل في كل مسارب الحياة لأنها هي لب العبادة وأساسها، والله تعالى يقول: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) فهي تبتدئ من إصلاح مفهوم العقيدة "لا إله إلا الله" وتنتهي بحركة الإنسان في الحياة والتي يأتي أدناها "رفع الأذى من الطريق"، مرورا بكل الجوانب الخلقية "والحياء شعبة من شعب الإيمان". .اليسر ورفع الحرج من مراد الله تعالى: يبين الله تعالى خلال هذه الآيات أن من مراده تعالى في تشريع الأحكام الإلهية للبشر هو رفع الحرج عنهم وتيسير أمر العبادة عليهم، وأن هذه العبادة ما شرعت لإعسار البشر وإنما لمصلحتهم الدنيوية والأخروية، ولذلك عندما يحصل للإنسان ما يحول بينه وبين أداء العبادة بسلب الله تعالى لشيء من طاقاته التي يتركب عليها مناط هذه العبادة فإن الله تعالى جعل له المخرج، كما بين سبحانه هنا بقوله تعالى: ((ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)). ومن الخطأ البين تصور البعض أن العبادة كلما كانت أشق كانت أعظم أجراً، بل العبادة هي ذاتها فرضت لرفع الإصر الإنساني الذي قد يركّبه الإنسان على نفسه، فعلى الإنسان أن لا يتجاوز النهج الرباني والهدي النبوي، فالله تعالى بين لنا أنه ما أرسل رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام إلا ليرفع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم قال تعالى: ((الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)) الأعراف/157. ومن عدة المصلح الاجتماعي المسلم أن يفعّل هذه القاعدة الربانية، وأن يدرس أبعادها من خلال كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. . الدعاء قرب من الله تعالى: في وسط آيات الصوم وبين حافتي التقوى يأتي الأمر الإلهي للتوجه إليه تعالى بالدعاء، فهو من العلاقات الرابطة بين العبد وربه، والدعاء من أهم العُدد في التقرب إلى الله تعالى، وقد وعد سبحانه وتعالى بأنه يستجيب لعباده إن هم دعوه، فما على المؤمن إلا أن يتوجه بحق إلى مولاه عز وجل بمسألته فيجيبه سبحانه وتعالى؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)). لكن هذه العلاقة المتبادلة بين الخالق وخلقة من خلال وشيجة الدعاء لابد أن يتحقق فيها أمران وهما التسليم المطلق لله تعالى، بحيث يشعر الإنسان أن لا شيء يحدث في هذا الكون إلا بأمر الله تعالى، وأنه لابد أن يخلص الدعاء له سبحانه، وذلك حتى يستجيب له، فلا بشر ولا حجر ولا أي قوة أخرى، ولا وهم وأسطورة تستجيب له، بل هو وحده جلت قدرته من يستجيب للداع إذا دعاه، والأمر الآخر هو الأخذ بالأسباب، والأسباب قسمان؛ أسباب سلوكية خلقية وهي تطهير النفس من كل المخالفات الشرعية والأمراض النفسية، وأسباب عملية وذلك بالعمل والسعي لأجل ما يطلبه من الله تعالى في السؤال، فطالب العلم مثلا، لا يؤتيه الله تعالى العلم بمجرد الدعاء، وإنما تتحقق الإجابة –إن شاء الله تعالى- بتطهير النفس من أمراضها وتزكيتها بالمطالب الشرعية مع الأخذ بالسبب في تحصيل العلم واستذكاره ودراسته. هذان سببان لابد منهما، وأما من يظن أن الإجابة تتحقق بمجرد مد الأيدي ولقلقة اللسان وهو ينأى عن الله تعالى أو يهمل الأسباب التي وضعها سبحانه لبلوغ المطالب فهذا الإنسان على وهم من أمره، وهذا أخذا من قوله تعالى: ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)) فالإيمان هو التسليم والاستجابة تكون بالعمل. . القرآن الكريم هدى للناس وبينات: القرآن الكريم الذي أنزل في شهر رمضان المبارك جعله الله سبحانه وتعالى هدى للناس وبينات لهم يقول سبحانه: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) ولا يكون كذلك إلا بتلاوته وتدبره وتدارسه وتفعليه في الحياة، وهو مهيمن على ما سواه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيتوجب على المسلمين أن يتحركوا في الحياة وفق هذا الكتاب وعلى ضوء مقاصده وغاياته. . الترابط بين العبادة والحركة الاجتماعية: جاءت الإشارة إلى هذا الترابط في آيات الصوم على مسارين؛ مسار عمودي ومسار أفقي، أما المسار العمودي فقد جاء في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) ففي هذا دلالة واضحة أن الحركة الاجتماعية للبشر متتابعة، ولكن لابد أن تكون منضبطة بأحكام الله تعالى، فالبشر في أي وقت محتاجون إلى ما ينير لهم الدرب من التعاليم الإلهية، فهي حركة اجتماعية وإن تغيرت من حقبة لأخرى لكنها تبقى متواصلة، وبذلك يجب أن ترعى تغيراتها لا أن يفصل بعضها عن بعض. هذا من جهة ومن جهة أخرى، على المسلمين أن يتحملوا تبعتهم تجاه الأقوام الأخرى فيواصلوا ذلك البناء الحضاري الذي سار عليه الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم ختموا به عليه الصلاة والسلام، فما تعيشه البشرية من ضلال وانحراف وظلم وكفر فعلى المسلمين تبعة تخليصهم منه، وهو دور حضاري لا يتأتى إلا بتمكننا في الأرض والأخذ بزمام قيادة البشرية. وأما المسار الأفقي فقد جاء بيانه من خلال المساواة في الحكم الشرعي فكل الناس على درجة واحدة في تحمل التبعة الشرعية، فهم يمسكون ويفطرون في نفس الوقت ويمتنعون عن نفس اللذة، وأيضا من خلال تلك الآصرة الاجتماعية التي بين الرجل والمرأة والتي تجعل كل طرف منهما لباسا للآخر، وهو قمة التمازج وغاية التآلف، قال تعالى: ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث على نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)). وكذلك يظهر لنا هذا البعد الاجتماعي في جبر التقصير الذي يحدث للإنسان في الصوم نتيجة قصوره البشري، بأن جعل الله تعالى فدية من لا يطيق الصيام إطعام مسكين وجعل التصدق أيضا مقابلا للصيام قال تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية إطعام مسكين ومن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)). إنه التلاحم الوثيق بين العبادة والحركة الاجتماعية بين البشر، وحقيقة أن من أهم مقاصد الشريعة هو الإصلاح الاجتماعي للبشر، حتى يتحقق الاستخلاف وفق منهج الله تعالى. . الاعتكاف صلة بالله ومراجعة للذات: قال تعالى: ((ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)) وقد كان اعتكافه عليه الصلاة والسلام في رمضان، وبالأخص في العشر الأواخر. إن الاعتكاف ليس رهبنة ولا هروبا من الدنيا ولا ترفا عباديا، بل هو منحة ربانية وسنة نبوية لأجل أن يعيش الإنسان في حضرة ربه القدسية متجردا من مشاغل الدنيا؛ ولو كانت هذه المشاغل في درجة اللباس الذي لا غنى عنه وهو الزوجة، وذلك حتى يكثف الإنسان من لحظات الاتصال بربه جل وعلا، يقف بين يديه مصليا أو تاليا لكتابه المجيد، أو متدبرا في آلاء الله تعالى أو سابحا في ملكوته، أو دارسا للعلوم التي تقربه من الله زلفى. إن هذا التجرد لحظة لابد منها حتى لا ينجرف الإنسان في مادية مجدبة ويعيش حياة جافة لا طراوة فيها ولا نداوة. أكتفي بهذه القواعد العظيمة، ويبقى علينا العمل بمقتضاها. والله الموفق لكل خير

عن موقع المكتبة