الحمد لله وهو الحميد الحكيم ..
والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .. وبعد ..
فقد لايكون مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد العالم اليوم !! اذ أنّ هذا الاقتصاد يقوم عصبه .. وأساسه .. على مبدأ الحرية المطلقة ويتغذى على الربا !! ...
ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن بقيم نبيلة في البيع والشراء .. كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم .. أما المسلم الحق فقد تعلم منذ أكثر من 14 قرنا أنه لا توجد في السوق حرية مطلقة .. وأن الربا – الإقراض بفائدة - كبيرة من الكبائر .. وأنه لا يجر إلا الدمار وخراب الديار والويلات .. وأنه محق للمال والبركات، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ..
بل تعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كتبهم المنزلة من السماء كما أشار إليه الخالق سبحانه في قوله : وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ...
إن مبدأ الرأسمالية قائم على احترام رأس المال بغض النظر عن الحلال والحرام ..
ولهذا جوزوا مثلا للشركات الزراعية أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ؟!! ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعا !! بل وضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين .. ولأن هذه المبادئ والمثل من وضع البشر وليست من خالق البشر فقد تراجع دعاتها وحماتها اليوم عما كان له صفة القداسة أمس ..
ولهذا نجد أن الإسلام قد قيد الحرية التي لا ترعي بالاً للفقير والمسكين .. أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكل .. فحرم الربا .. ومنع من الإقراض بالفائدة .. لما يؤديان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء وعلى الاقتصاد العام .. وسمح بالدَين ولكن في حدود الحاجة .. وبضوابط شرعية تمنع من وقوع أزمات أو حدوث انهيارات تضر بأصحاب الأموال أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام ..
إن ارتفاع الأسعار .. وغلا المواد .. وقلة البركة في الرواتب .. وقحط الديار كل ذلك بسبب أكل الحرام .. هذه هي عاقبة الربا والتعامل به سبب لحلول العقوبات والمثلات .. سبب لسخط الرب جل وعلا، وسبب لحصول الكساد والإفلاس والعياذ بالله .. يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ.. وأخبر أن الربا ممحوق البركة: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .. وقال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ، فسمى الله الربا ظلماً .. نعم إنه ظلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى ..
إنه ظلم لمن تعامله فتأخذ منه أكثر مما تعطيه .. إنه ظلم للإنسانية .. ظلم للبشر. وأي ظلم أعظم من ظلم الربا؟! إنه يقسي القلب .. ويقطع أسباب الخير وفعل الخير .. ويسبب محق البركة .. وذهاب الرزق، يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ .. إنه ينشر الجريمة .. ويكثِّر البطالة .. ويجعل الأنانية في قلوب العباد .. إنه ليس [بيعاً] ولكنه ظلم وعدوان .. تتكون طبقة غنية إلى آخر الحدود، وطبقة فقيرة مدقعه، ..
ولهذا نجد أن رسول الله يلعن آكل الربا، ويلعن موكل الربا، ويلعن كاتب الربا، ويلعن الشاهدين على عقود الربا، كل أولئك ملعونون على لسان محمد .
لأنه عملية ظلم وامتصاص للأموال .. وأكل لها بالباطل.. وقضاء على معنويات الناس، وتحطيم لقيمهم ومعنوياتهم .. كم جرت الأموال الروبية والمعاملات المحرمة من ويلات على الناس ؟؟ّّ!! وجعلت كثيراً من الناس يعيش قهراً وكمداً ...
بل صرنا اليوم نسمع عن أناس انتحروا بسبب خسارتهم .. ؟؟!!..
وهذا هو نظام الرأسمالية التي يحكم العالم اليوم .. فالقاعدة في هذا النظام أن تجمع المال بأي طريق ولو من من دماء الناس .. فهذا النظام .. أقام الحروب .. وانتهك الأعراض .. وخرب الديار .. ودمر اقتصاد الناس .. نظام " يهلك الحرث والنسل " !! ومن أجل من ؟! من أثرياء العالم .. وهو يقوم على الفائدة ؟؟!! .. يعطيك المال ثم يضاعفه عليك أضعافا مضاعفة ..
والسؤال هنا .. أما آن لنا أن نستفيد من هذه الأزمة ؟!
إن الفوائد من هذه الأزمة كثيرة .. وكثيرة جداً ..
إن من أهمها .. أن يعلم الكل أنّ ما أصابنا وما يصيب العالم هو بسبب المعصية والبعد عن الله ..
إن السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة اليوم .. هو : لماذا ؟ ولاشي؟ وما هو السبب؟ لماذا وما السبب ؟! لم لا نبحث عن أسباب ما نحن فيه اليوم .. من غلاء .. وتضخم .. وقلة بركة في الأموال والأولاد ؟! بل ما أصاب هذه العالم وتسلط الأعداء .. بل هل أذكاها عوج خلقي ؟! أو خلل سياسي ؟! اواقتصادي أم غش ثقافي ؟! أو انحراف عقدي ؟ أم هو مزيج متفاوت من هذه العلل جميعا ؟!
ماهي المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية.. التي ارتكبها أهل الإسلام خآصة .. وأهل العالم عآمة .. فأصابهم ما أصابهم بسببها ؟!
أمة الإسلام : لقد حام حول هذا الموضوع الكثير ..
فممن مقّرب ومن مبّعد .. كثرت الأقوال .. وارتفعت الشعارات .. وعقدت المؤتمرات .. وسطّرت الكتابات .. ولكن لم نرى شيئاً مع هذا كله !!
إذاً.. ماهي العلة وأين العلاج ؟!
أتريد أن تعرف العلة والعلاج ؟! تأمل في هـــاذين الحديثين ..... روى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت ..
وعند أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذ تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرّع وتركتم الجهاد ، سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم " .
- فهذا هو السبب .. وهذه هي العلة وذلك هو الوهن ... حب الدنيا ... كراهية الموت ....ترك الجهاد ....أن يعيش الناس عبيداً لدنياهم عُشاقاً لها.. تحركهم شهواتها وتسيرهم رغباتُها ..
وان كان أتباع الرأسمالية لايوعون عن أكل الربا .. فمبال كثير من المسلمين هم كذلك يأكلون المال دون نظر الى حلٍ أو حرمة ؟!!
فالأسهم الربوية .. والأسهم المختلطة ..وكثير من بيوع التورق .. والتورق المنظم ..
كل ذلك دليل على تهافت فئام من المسلمين على الحرام وأكله دون خوف من الله تعالى ..
وقد يصاحب ذلك بعض الفتاوى المسوغة المتساهلة ؟!!
والمعصية لها شؤمها خاصة أكل الحرام .. وماذكرت هنا هو صورة من صور البعد عن الله ..
إن سبب ضعف المسلمين وما بهم من هوان .. وسبب كلّ بلاء وفتنة .. هو حب الدنيا والحياة وكراهية الجهاد والموت .. وهذا يوّلد الذنوب والمعاصي والبعد عن الالتزام بأوامر الله وتحكيم شرعه ودينه ...
لما تركنا الهدى حلت بنا محنُ *** وهاج للظلم والإفســـاد طوفانُ ....
في أُحــــد شُج النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وقتل حمزة أســد الله وأنقلب النصر إلى هزيمة ... كل ذلك بسبب مخالفة واحـــدة لأمر من أوامر الرسول وبتأويل واجتهاد ..
إن الواقع يثبت أن الكثير اليوم يحب الدنيا .. ويكره الموت ولم يستعد للجهاد ... حال المسلمين اليوم إلا من رحم الله ليا لٍ حمراء .. سهرٌ وغِناء .. فضائيات ومسلسلات .. ونساء متبرجات ..
- وإن كان أصحاب المنهج الرأسمالي لايفقه هذا الكلام .. بل لايقتنع به أصلاً ..
فالواجب على الأمة المسلمة أن تعلم علم يقين ..أن الذنوب والمعاصي يا عباد الله سبب لكــل بلاءٍ وشـــر ومحنة ... فبالمعصية.. تبدل إبليس بالإيمان كفراً ، وبالقرب بعداً ، وبالرحمة لعنة ، وبالجنة ناراً تلظى ، وبالمعصية .. عم قوم نوحٍ الغرق ، وأٌهلكت عـــاداً بالريح العقيم ، وأخــذت ثمود بالصيحة ، وقلبت على اللوطية ديارهم ..
" فكلاً أخـــذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حــاصباً ومنهم من أخــذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ..
إنها الحقيقة الصارخة ..." فكلاً أخذنا بذنبه " تلكم الذنوب يا عباد الله وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين ببعيد ... ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها .. ولا فشت في أمــة إلا أذلتها ... فلا تفارقها حتى تدع الديار بلا قـــــع ...
أيها المسلمون : إن للمعاصي شؤمها ، ولها عواقبها في النفس والأهل .. فـي البر والجــو .. تضّلِ بها الأهــواء .. وتفسد بها الأجــواء .. بالمعاصي يهون العبد على ربــه فيرفع مهابته من قلوب خلقه " ومن يهن الله فما له من مكرم " .
قال الحسن رحمه : " هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم " بسبب الذنوب والآثام والمعاصي والإجــرام يكون الهم والحــزن والذل والهوان ... بالمعاصي تزول النعم ، وتحل النقم ، وتتحول العافية ويستجلب سخط الجبار .
إذا كنت في نعمة فأرعــــها *** فإن المعاصي تُزيل النعم
وحِطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت *** فظلم العباد شديد الوخـــم
وسافر بقلبك بين الورى *** لتبصر آثار من قــد ظلم
إن من حكمة الله وعدله .. أنّ الله تعالى لا بد وأن يعاقب العباد على ظلمهم وجرأتهم على معصيته .. سبحانه وتعالى ..
فهل لنا من توبة ؟!!
" الم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق .."
نسأل الله أن يعفوا عنا .. وأن يتوب علينا ..


وكتبه : عبد الله بن راضي المعيدي

نقلاً عن صيد الفوائد