شهر شعبان شهر مبارك، يغفل عن فضل الصيام فيه الكثير من المسلمين؛ لوقوعه بين شهرين عظيمين: شهر رجب المحرم وشهر رمضان المبارك. صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، وفي صيامه من الفوائد والحكم ما ينبغي أن يحرص عليه كل مسلم.

وليلة النّصف من شعبان يكثر الحديث عن فضلها بين مثبت ونافٍ، يخصّها بعض المسلمين بمزيد عبادة على سائر الليالي، ويُصنع فيها من البدع ما لا ينبغي لورثة الأنبياء وفرسان المنابر والدعاة إلى الله السكوت عن إنكاره.

وبهذه المناسبة يضع المنبر بين أيديكم مجموعة من البحوث العلمية المتعلقة بهذا الموضوع.

شهر شعبان : أولاً: استحباب الإكثار من الصيام في شعبان:

1- كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان([1]).
http://www.alminbar.net/malafilmy/shabaan/1.htm#1
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان"([2]).

قال ابن رجب: "وأما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور"([3]).

وقال الصنعاني: "وفيه دليل على أنه يخصُّ شعبان بالصوم أكثر من غيره"([4]).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحبَّ الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبانُ ثم يصله برمضان([5]).

قال السبكي: "أي: كان صوم شعبان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صوم غيره من بقية الشهور التي كان يتطوع فيها بالصيام"([6]).

2- صيام شعبان كله:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله([7]).

وفي رواية: ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً([8]).

وقد استُشكل حديث عائشة رضي الله عنها هذا مع حديثها السابق الذي فيه: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان([9])، وفي رواية قالت: ما علمته صام شهراً كلَّه إلا رمضان([10])، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان([11]).

وللعلماء في الجمع بين الروايتين أقوال:

القول الأول: تفسير إحدى الروايتين بالأخرى:

روي عن ابن المبارك أنه قال في هذا الحديث: "وهو جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كلَّه، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعلَّه تعشَّى واشتغل ببعض أمره".

قال الترمذي: "كأن ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين، يقول: إنما معنى هذا الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر"([12]).

قال القاضي عياض في شرحه لرواية: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً: "الكلام الثاني تفسير للأول، وعبَّر بالكل عن الغالب والأكثر"([13]).

وصوَّب هذا القولَ الحافظ ابن حجر لدلالة الروايات عليه([14]).

القول الثاني: صيامه كاملاً مرة، وعدم الاستكمال مرة أخرى:

قال القاضي عياض: "وقد قيل: معناه ما استكمل شهراً قط بالصيام إلا رمضان، يعني معيَّناً، وأن ما ورد مما ظاهره استكمال شعبان أي: غير معين وملازم، بل مرة أكمله ومرة لم يكمله، وقد يحتمل هذا قوله: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً، أي: مرة كذا ومرة كذا، لئلا يتعيَّن بصومه غير رمضان"([15]).

ومال إلى هذا القول: الطيبي([16]).

القول الثالث: معنى صيامه كل شعبان صيامُه من أوله ووسطه وآخره:

قال القاضي عياض: "وقيل: يعني بصومه كلِّه أي: يصوم في أوله ووسطه وآخره، لا يخصّ شيئاً منه ولا يعمّه بصيامه"([17]).

الترجيح:

والقول الأول هو الصواب، لأنه تفسير للرواية برواية أخرى، وأولى ما تفسَّر به الرواية رواية أخرى، والله أعلم([18]).

قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظنَّ وجوبه([19]).

عن عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو يومين فقرّب غداءه فقال: (أفطروا أيها الصيام! لا تواصلوا رمضان بشيء وافصلوا)([20]).

قال ابن عبد البر: "استحب ابن عباس وجماعة من السلف رحمهم الله أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام، كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة بكلام أو قيام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان"([21]).

3- الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم الصيام في شعبان:

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))([22]).

قال ابن رجب في بيان وجه الصيام في شعبان: "وفيه معانٍ، وقد ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظنُّ أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك"([23]).

قال: "وفي قوله: ((يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان)) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقاً، أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوِّتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم"([24]).

والمعنى الثاني المذكور في الحديث هو أن شهر شعبان ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يُرفع عمله وهو صائم([25]).

وذكروا لذلك معنى آخر وهو التمرين لصيام رمضان، قال ابن رجب: "وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط"([26]).

4- سبب إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان دون المحرم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل))([27]).

استشكل العلماء إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان مع تصريحه بأن أفضل الصيام بعد رمضان صيام المحرم.

أجاب النووي عن ذلك فقال: "لعله لم يعلم فضلَ المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما"([28]).

([1]) أخرجه البخاري في الصيام، باب: صوم شعبان (1969)، ومسلم في الصيام (1156).

([2]) فتح الباري (4/253).

([3]) لطائف المعارف (ص247).

([4]) سبل السلام (2/342).

([5]) أخرجه أحمد في المسند (6/188)، وأبو داود في الصوم، باب في صوم شعبان (2431)، والنسائي في الصيام، باب: صوم النبي صلى الله عليه وسلم (2350)، وقال الحاكم (1/599): "صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2124).

([6]) المنهل العذب المورود (10/188).

([7]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صوم شعبان (1970).

([8]) هذه الرواية عند مسلم في الصيام (1156).

([9]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صوم شعبان (1969)، ومسلم في الصيام (1156).

([10]) هذه إحدى روايات مسلم: كتاب الصيام (1156).

([11]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم إفطاره (1971)، ومسلم في الصيام (1157).

([12]) جامع الترمذي (3/436 ـ تحفة الأحوذي ـ).

([13]) إكمال المعلم (4/120).

([14]) انظر: فتح الباري (4/252).

([15]) إكمال المعلم (4/120)، وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (8/37) وفتح الباري (4/252).

([16]) انظر: شرح المشكاة (4/176).

([17]) إكمال المعلم (4/120).

([18]) انظر: فتح الباري (4/252).

([19]) شرح صحيح مسلم (8/37).

([20]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/158).

([21]) الاستذكار (10/328).

([22]) أخرجه أحمد في المسند (5/201)، النسائي في كتاب الصيام، باب: صوم النبي صلى الله عليه وسلم (2357)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1022).

([23]) لطائف المعارف (ص250-251).

([24]) لطائف المعارف (ص251).

([25]) هذا الكلام مأخوذ من تتمة الحديث، ولم يذكر ابن رجب هذا المعنى في لطائف المعارف.

([26]) لطائف المعارف (ص252).

([27]) أخرجه مسلم في الصيام (1163).

([28]) شرح صحيح مسلم (8/37).



ثانياً: تفسير قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم}: الصفحة السابقة الصفحة التالية



1- أقوال المفسرين في الآية:

اختلف المفسرون في المراد بالليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم على أقوال:

القول الأول: المراد بهذه الليلة ليلة القدر التي في رمضان:

وبه قال ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة وأبو الجوزاء وأبو نضرة وقتادة وعمر مولى غفرة.

1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: (يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان)([1]).

وقال أيضًا رضي الله عنه: (إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى)، ثم قرأ: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4]، قال: (يعني ليلة القدر، ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل، موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها من قابل)([2]).

2- وعن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كل رمضان؟ قال: "إي والله، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها"([3]).

3- وعن مجاهد بين جبر المكي في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: "في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت يقدّر فيها المعايش والمصائب كلها"([4]).

وعن منصور قال: سألت مجاهدًا فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان اسمي في الأشقياء فامحه منهم، واجعله بالسعداء؟ فقال: حسن. ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك فسألته عن هذا الدعاء، قال: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ % فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4]، قال: "يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يتغير"([5]).

4- وعن أبي عبد الرحمن السلمي في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: "يدبر أمر السنة في ليلة القدر"([6]).

5- وعن عكرمة مولى ابن عباس قال: "يؤذن للحاج ببيت الله في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر تلك الليلة أحد ممن كتب"، ثم قرأ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، "فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم"([7]).

6- وعن أبي الجوزاء في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: "هي ليلة القدر، يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة، فيغفر الله عز وجل لمن يشاء، ألا ترى أنه قال: {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ}"([8]).

7- وعن أبي نضرة في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: "يفرق أمر السنة في كل ليلة قدر، خيرها وشرها ورزقها وأجلها وبلاؤها ورخاؤها ومعاشها، إلى مثلها من السنة"([9]).

8- وعن قتادة في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ} قال: "ليلة القدر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، كنا نحدّث أنه يفرق فيها أمر السنة إلى السنة"([10]).

9- وعن عمر مولى غفرة قال: "ينسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها، وذلك لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ}، وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}"، قال: "فنجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغرس واسمه في الأموات"([11]).

القول الثاني: المراد بهذه الليلة ليلة النصف من شعبان:

وهو قول عطاء، وقول آخر لعكرمة.

1- عن محمد بن سوقة عن عكرمة في قول الله تبارك وتعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: "في ليلة النصف من شعبان يبرم فيه أمر السنة، وتُنسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد"([12]).

2- وعن عطاء بن يسار قال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة، فيقال: اقبض من في هذه الصحيفة، فإن العبد ليفرش الفراش وينكح الأزواج ويبني البنيان وإن اسمه قد نسخ في الموتى"([13]).

2- الراجح من القولين:

والذي يترجح أن المراد بالليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان، والأدلة على ذلك ما يأتي:

1. الضمير في قوله تعالى: {فِيهَا} يعود إلى الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن، قال ابن جرير: "اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله: {فِيهَا} عائدة على الليلة المباركة"([14]).

والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي ليلة القدر على الصحيح.

قال قتادة في قوله تعالى {فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ}: "هي ليلة القدر"([15]).

وقال ابن زيد: "تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أم الكتاب في ليلة القدر"([16]).

قال ابن جرير: "والصواب من القول في ذلك قول من قال: عنى بها ليلة القدر"([17]).

2. أن قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ} وقوله هنا: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ} يوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض([18]).

وتقدم أن مرجع الضمير في قوله: {فِيهَا} يعود لليلة المباركة فتكون هي ليلة القدر.

3. أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} وقال هنا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهو يناسب قوله: {تنزل الملائكة والروح فيها}، وكذا قوله هنا: {أمرًا من عندنا}، وفي سورة القدر: {بإذن ربهم من كل أمر} فيه تناسب، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بإن إحدى الليلتين هي الأخرى([19]).

4. أن معنى قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ} أي: في ليلة التقدير لجميع أمور السنة من رزق وموت وحياة وولادة ومرض وصحه وخصب وجدب وغير ذلك من جميع أمور السنة، وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}([20]).

5. قال ابن الجوزي: "وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: ليلة القدر وعلى هذا المفسرون"([21]).

3- أقوال العلماء في تأييد القول الراجح:

1. قال ابن جرير: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر، لما تقدم من بياننا أن المعنى بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ} ليلة القدر، والهاء في قوله: {فِيهَا} من ذكر الليلة المباركة"([22]).

2. قال ابن العربي: "وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر، ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شهر رمضان الذي أنزل فيها القرآن} فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عبر عن زمانية الليل ها هنا بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ} فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعوَّل عليه، لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها"([23]).

3. قال ابن رجب: "وقد روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أنها ليلة النصف من شعبان، والجمهور على أنها ليلة القدر وهو الصحيح"([24]).

4. قال الرازي: "وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية هي ليلة النصف من شعبان فما رأيت لهم فيه دليلاً يعوَّل عليه، وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس، فإن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كلام فلا مزيد عليه، وإلا فالحق هو الأول"([25]).

5. قال الواحدي: "{إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ} يعني: ليلة القدر.. {فِيهَا يُفْرَقُ} أي: في تلك الليلة المباركة"([26]).

6. وقال ابن كثير في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: "أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيه إلى آخرها... ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان"([27]).

7. وقال الشوكاني: "والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها وبينها في سورة البقرة بقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن القرآن}، وبقوله في سورة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ} فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه"([28]).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) أخرجه محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 399).

([2]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 487) وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 321)، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 400).

([3]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/ 8) وعبد بن حميد ومحمد بن نصر كما في الدر (7/ 400).

([4]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/9) وسعيد وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (7/ 399).

([5]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/ 10).

([6]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/9) والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 321) وعبد بن حميد ومحمد بن نصر كما في الدر المنثور (7/ 400).

([7]) أخرجه ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر وابن المنذر كما في الدر المنثور (7/ 399).

([8]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 322).

([9]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 322) وعبد بن حميد ومحمد بن نصر كما في الدر المنثور (7/ 401).

([10]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/9) والبيهقي في الشعب (3/ 322) وعبد الرزاق وعبد بن حميد ومحمد بن نصر كما في الدر المنثور (7/ 400).

([11]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/9).

([12]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/ 10) وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدرر (7/ 401) وابن الدبيثي في جزء: ليلة النصف من شعبان وفضلها ص 128-129 وضعف إسناده محقق الكتاب: عمرو بن عبد المنعم بن سليم.

([13]) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الدرر (7/ 402).

([14]) جامع البيان (22/ 8).

([15]) جامع البيان (22/7).

([16]) جامع البيان (22/ 7).

([17]) جامع البيان (22/ 7).

([18]) جامع البيان (22/ 7).

([19]) التفسير الكبير (27/ 238).

([20]) أضواء البيان (7/ 321) وانظر: الحوادث والبدع ص 265.

([21]) زاد المسير (7/ 112).

([22]) جامع البيان (22/ 10 ـ 11).

([23]) أحكام القرآن (4/ 1690).

([24]) لطائف المعارف ص 268.

([25]) التفسير الكبير (27/ 238).

([26]) الوسيط في تفسير القرآن المجيد (4/ 85).

([27]) تفسير القرآن العظيم (4/ 148).

([28]) فتح القدير (4/ 811).

http://www.alminbar.net/malafilmy/shabaan/2.HTM

اترككم مع الموضوع الأصلى وابحروا فى الهايبر لينكسhyper-links الهامة للمعرفة الكاملة


اروع المواقع العلمية - موقع المنبر جزاهم الله عن امة محمد كل خير