قضايا و اراء

42329‏السنة 126-العدد2002اكتوبر28‏22 من شعبان 1423 هـالأثنين
من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
‏(71)‏ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق
الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها‏...*‏
بقلم: د.‏ زغـلول النجـار




هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع النصف الثاني من سورة الأنعام‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها‏165‏ بدون البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود ذكر الأنعام فيها في أكثر من موضع‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية‏,‏ وقصص عدد من الأنبياء والمرسلين السابقين علي بعثة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وقصص عدد من الأمم البائدة‏,‏ وعدد كبير من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية‏;‏ ويمكن إيجاز ذلك في النقاط التالية‏:‏

أولا‏:‏ من العقائد الإسلامية‏:‏
‏(1)‏ الإيمان بالله الخالق‏,‏ الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور‏,‏ الإله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد‏,‏ ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفوا أحد‏;‏ الإله الحق‏,‏ الذي لا إله غيره‏,‏ ولا معبود سواه‏,‏ مالك الملك‏,‏ ومحصي أعمال الخلق‏,‏ فاطر السماوات والأرض وقيومهما‏,‏ خالق الإنسان من طين‏,‏ ومحدد الأجل والرزق له‏,‏ وجامع الناس ليوم لا ريب فيه‏,‏ السميع العليم‏,‏ كاشف الضر‏,‏ ومنزل الخير‏,‏ القاهر فوق عباده‏,‏ الذي يطعم ولايطعم‏,‏ والذي لايشبهه أحد من خلقه‏,‏ ولاينازعه أحد في ملكه‏,‏ ولايشاركه أحد في سلطانه‏,‏ الباعث الشهيد‏,‏ البر الودود‏,‏ الغفور الرحيم‏,‏ بديع السماوات والارض‏,‏ رب كل شيء ومليكه‏,‏ خالق كل شيء ومبدعه‏,‏ والعليم بكل شيء من السر والعلن‏,‏ والقادر علي كل شيء مهما عظم‏;‏ عالم الغيب والشهادة‏,‏ الحكيم الخبير‏;‏ فالق الإصباح‏,‏ وفالق كل من الحب والنوي‏,‏ مخرج الحي من الميت‏,‏ ومخرج الميت من الحي‏;‏أحكم الحاكمين‏,‏ وأعدل العادلين‏,‏ وخير الفاصلين الذي لايرد بأسه عن القوم المجرمين‏,‏ الغني‏,‏ ذو الرحمة الواسعة التي لاتضيق بشيء‏;‏ منزل الكتاب‏;‏ ومرسل الأنبياء والمرسلين‏;‏ الذي يدرك الأبصار‏,‏ ولاتدركه الأبصار‏,‏ وهو اللطيف الخبير‏.‏

‏(2)‏ الإيمان بملائكة الله‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وبخاتمهم أجمعين‏,‏ وبأنهم ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بعوالم الغيب التي أخبرنا بها‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ دون الخوض في هذه العوالم الغيبية بغير علم‏.‏

‏(4)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ بجوده‏,‏ وكرمه‏,‏ وإحسانه يجازي الحسنة بعشر أمثالها‏(‏ إلي سبعمائة ضعف‏)‏ ولايجازي السيئة إلا بمثلها‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة التوبة وحسن الاستغفار‏.‏

‏(5)‏ الإيمان بحتمية البعث‏,‏ وبحتمية الحساب والجزاء في الآخرة‏,‏ التي هي خلود بلا موت‏,‏ إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ ومن هنا كان وصف ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ للحياة الدنيا بأنها لعب ولهو كما جاء في قوله‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون‏.‏
‏(‏ الأنعام‏:32)‏

‏(6)‏ اليقين بأن من عمل سوءا بجهالة ممن يؤمنون بالله وبآياته ثم تاب من بعده وأصلح فإن الله غفور رحيم‏.‏

‏(7)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أتم وحيه‏,‏ في القرآن الكريم‏,‏ رسالته الخاتمة‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ قد أكمل دينه الذي أنزله لعباده‏(‏ علي فترة من الرسل‏)‏ في هذه الرسالة الخاتمة‏,‏ ولذلك تعهد‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بحفظها من التبديل والتحريف الذي تعرضت له كل الرسالات السابقة‏.‏

ثانيا‏:‏ من التشريعات الإلهية في سورة الأنعام‏:‏
‏(1)‏ تحريم الشرك بالله‏.‏

‏(2)‏ تحريم وقتل الأولاد من إملاق‏(‏ أي من فقر‏)‏

‏(3)‏ الأمر بالإحسان إلي الوالدين‏.‏

‏(4)‏ تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق‏.‏

‏(5)‏ تحريم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده‏.‏

‏(6)‏ الأمر بالتزام صراط الله المستقيم وعدم اتباع السبل الملتوية فتتفرق بالناس عن سبيله‏,‏ فيضيعون في الدنيا‏,‏ ويذلون ويهلكون في الآخرة‏.‏

‏(7)‏ الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة‏,‏ وبتقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ في جميع الأحوال‏.‏

‏(8)‏ تحريم الاقتراب من الفواحش ماظهر منها وما بطن‏.‏

‏(9)‏ الأمر بوفاء الكيل والميزان بالقسط‏,‏ وتحريم كل إخلال بذلك‏.‏

‏(10)‏ الأمر بالعدل في القول‏,‏ وبالإخلاص في العمل‏;‏ وبالوفاء بعهود الله‏.‏

‏(11)‏تحريم أكل كل ما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به‏;‏ وكذلك تحريم أكل الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير إلا من اضطر غير باغ ولاعاد فإن الله غفور رحيم‏.‏

ثالثا‏:‏ من قصص الأمم البائدة‏.‏
‏(1)‏ جاء ذكر عدد من أنبياء الله ورسله السابقين علي بعثة النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ وهم‏:‏ نوح‏,‏ إبراهيم‏,‏ لوط‏,‏ اسماعيل‏,‏ اسحاق‏,‏ يعقوب‏,‏ داود‏,‏ سليمان‏,‏ أيوب‏,‏ يوسف‏,‏ موسي‏,‏ هارون‏,‏ زكريا‏,‏ يحيي‏,‏ عيسي‏,‏ إلياس‏,‏ اليسع‏,‏ ويونس‏(‏ علي نبينا وعليهم جميعا من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏).‏

‏(2)‏ وصف عناد الأمم الكافرة الباغية‏,‏ ورفضها لآيات ربها‏,‏ وإعراضها عنها‏,‏ علي الرغم من إهلاك أمثالها من الأمم السابقة عليها‏,‏ وقد استمرت البشرية في تكرار أخطائها إلي زمن خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولاتزال مستمرة في ذلك إلي زماننا الراهن‏,‏ وحتي قيام الساعة دون استخلاص للعبر‏,‏ وأخذ للدروس‏.‏

‏(3)‏ أكدت سورة الأنعام تحريف اليهود للتوراة‏,‏ وانحرافهم عن منهج الله‏,‏ كما أكدت تكامل كل رسالات السماء في القرآن الكريم الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي خاتم أنبيائه ورسله لينذر به أهل مكة المكرمة ومن حولها أهل الأرض جميعا‏.‏

‏(4)‏ استنكار افتراء الكذب علي الله‏,‏ والادعاء الباطل من قبل بعض المشعوذين بتلقي شئ من الوحي‏,‏ أو بالقدرة علي الإتيان بشيء من مثل القرآن الكريم‏,‏ وهي افتراءات وادعاءات صاحبت مسيرة الكفر والشرك وغيرهما من الانحرافات البشرية عبر التاريخ‏,‏ إلي زماننا الراهن‏,‏ وحتي قيام الساعة‏.‏

الآيات الكونية التي استعرضتها سورة الأنعام‏:‏
‏(1)‏ خلق السماوات والأرض بالحق‏.‏

‏(2)‏ خلق الظلمات والنور‏.‏

‏(3)‏ خلق الإنسان من طين‏,‏ وتحديد أجله‏(‏ زمانا ومكانا‏).‏

‏(4)‏ خلق كائنات تسكن بالليل وأخري تسكن بالنهار‏.‏

‏(5)‏ إثبات أن كل خلق من خلق الله يشكل أمة مثل أمة بني الإنسان‏.‏

‏(6)‏ الإخبار من قبل ألف وأربعمائة سنة مضت بالتقدم العلمي والتقني المذهل الذي تحققه اليوم الأمم الكافرة‏,‏ وأن هذا التقدم دون التزام ديني‏,‏ وأخلاقي وروحي سوف يكون وبالا عليهم‏,‏ ومن أسباب إفنائهم والقضاء عليهم‏,‏ ونحن نري بوادر ذلك الانهيار واضحة في مختلف أرجاء الأرض‏.‏

‏(7)‏ التأكيد علي أن بالكون غيوبا مطلقة لايعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏

‏(8)‏ التأكيد علي حقيقة أن النوم صورة من صور الوفاة‏,‏ وأن اليقظة من النوم صورة مصغرة عن البعث بعد الموت‏.‏

‏(9)‏ التأكيد علي ظلمات كل من البر والبحر‏,‏ بمعني أن الظلمة هي الأصل في الكون‏,‏ وأن النور نعمة يمن بها الخالق علي خلقه‏.‏

‏(10)‏ الإشارة إلي توسط موقع مكة المكرمة بالنسبة إلي اليابسة‏.‏

‏(11)‏ التلميح إلي معجزة فلق كل من الحب والنوي لحظة الإنبات‏.‏

‏(12)‏ استخدام تبادل الليل والنهار في الإشارة اللطيفة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏.‏

‏(13)‏ تشبيه طلوع الصبح من ظلمة الليل بفلق الحبة أو النواة لإخراج السويقة والجذير منها لحظة الإنبات‏.‏

‏(14)‏ الإشارة إلي الحكمة الإلهية من جعل الليل للسكن‏,‏ وجعل النهار لعمارة الأرض وللجري وراء المعايش‏.‏

‏(15)‏ التأكيد علي أن الشمس والقمر يجريان بنظام محكم دقيق يمكن الإنسان من حساب الزمن‏,‏ والتأريخ للأحداث‏,‏ وأداء العبادات والحقوق‏.‏

‏(16)‏ خلق النجوم ومن فوائدها للإنسان الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر‏.‏

‏(17)‏ الإشارة إلي خلق السلالة البشرية كلها من نفس واحدة‏.‏

‏(18)‏ إخراج الحب المتراكب من الخضر الذي يخلقه الله‏(‏ تعالي‏)‏ في داخل كل نباتات الحبوب‏.‏

‏(19)‏ إخراج القنوان الدانية‏(‏ وهي العراجين المتدلية من النخل‏,‏ جمع قنو‏,‏ وهو العذق أو عنقود التمر‏)‏ من طلوع النخل وهو أول مايبدو من ثمر النخل وهو يخرج كالكيزان‏.‏

‏(20)‏ كذلك إخراج جنات من أعناب‏,‏ ومن الزيتون والرمان‏,‏ مشتبها وغير متشابه وذلك بإنزال الماء من السماء إلي الأرض‏,‏ واعتبار ثمره إذا أثمر وينعه من الآيات لقوم يؤمنون‏.‏

‏(21)‏ إثبات أن التصعد في السماء‏(‏ بغير وقاية حقيقية‏)‏ يجعل صدر الصاعد ضيقا حرجا‏.‏

‏(22)‏ إخراج جنات من المعروشات وغير المعروشات‏,‏ والنخل والزرع مختلفا أكله‏,‏ والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه مما يؤكد طلاقة القدرة الإلهية الخلاقة‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي مدارسة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة العاشرة فقط في القائمة السابقة ألا وهي توسط موقع مكة المكرمة لليابسة المستنتج من خطاب الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ الموجه إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله‏(‏ عز من قائل‏):..‏ ولتنذر أم القري ومن حولها‏...‏ وهو المبعوث رحمة للعالمين‏;‏ وقبل الدخول إلي ذلك لابد من الرجوع إلي أقوال عدد من كبار المفسرين‏,‏ من القدامي والمعاصرين‏,‏ في تفسير هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏)‏

وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون‏(‏ الأنعام‏:92)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:(‏ وهذا كتاب‏)‏ يعني القرآن‏(‏ أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري‏)‏ يعني مكة‏(‏ ومن حولها‏)‏ من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم‏,‏ كما قال في الآية الأخري‏:(‏ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا‏),‏ وقال‏:(‏ لأنذركم به ومن بلغ‏),‏ وقال‏:(‏ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏),‏ وقال‏:(‏ تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا‏),‏ وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال‏:(‏ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏)‏ وذكر منهن‏:(‏ وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة وبعثت إلي الناس عامة‏),‏ ولهذا قال‏(‏ ربنا تبارك وتعالي‏):(‏ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به‏)‏ أي كل من آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن‏,(‏ وهم علي صلاتهم يحافظون‏)‏ أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها‏).‏

‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏:(‏ وهذا‏)‏ القرآن‏(‏ كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه‏)‏ قبله من الكتب‏(‏ ولتنذر‏)‏ بالتاء والياء‏,‏ عطف علي معني ما قبله‏,‏ أي‏:‏ أنزلناه للبركة والتصديق ولتنذر به‏(‏ أم القري ومن حولها‏)‏ أي‏:‏ أهل مكة وسائر الناس والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون خوفا من عقابها أي خوفا من عقاب تاركها‏,‏ وخص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات وأفضلها بعد الإيمان‏.‏
‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما نصه‏:...‏ إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل‏,‏ وأن ينزل الله عليهم الكتب‏,‏ وهذا الكتاب الجديد‏,‏ الذي ينكرون تنزيله‏,‏ هو كتاب مبارك‏..‏ وصدق الله‏..‏ فإنه والله لمبارك‏...(‏ مصدق الذي بين يديه‏)‏ فهو يصدق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عند الله ـ في صورتها التي لم تحرف‏,‏ لا فيما حرفته المجامع وقالت‏,‏ إنه من عند الله ـ‏....‏

فأما حكمة إنزال هذا الكتاب‏,‏ فلكي ينذر به الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ أهل مكة ـ أم القري ـ وما حولها‏(‏ ولتنذر أم القري ومن حولها‏)..‏ وسميت مكة أم القري لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك‏,‏ وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا‏,‏ ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض‏,‏ ولم تكن دعوة عامة من قبل‏;....‏
‏*‏ وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:(‏ مبارك‏)‏ القرآن‏,(‏ أم القري‏)‏ مكة والمراد أهلها‏;‏ وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القري ومحجهم‏.(‏ ومن حولها‏)‏ من أهل المشارق والمغارب‏;‏ لعموم بعثته صلي الله عليه وسلم للناس كافة‏.‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏ وهذا القرآن كتاب أنزلناه ـ كما أنزلنا التوراة ـ كثير الخير‏,‏ باق إلي يوم القيامة‏,‏ مصدق لما تقدمه من الكتب المنزلة‏,‏ مخبر عن نزولها‏,‏ لتبشر به المؤمنين‏,‏ وتخوف الكفار من أهل مكة ومن حولها في جميع أنحاء الأرض من غضب الله‏,‏ إذا لم يذعنوا له‏,‏ والذين يصدقون بيوم الجزاء يحملهم رجاء الثواب والخوف من العقاب علي الإيمان به‏,‏ وهم لذلك يحافظون علي أداء صلاتهم كاملة مستوفاة‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبه خيرا‏)‏ ما نصه‏:...‏ أي وهذا القرآن الذي أنزل علي محمد صلي الله عليه وسلم مبارك كثير النفع والفائدة‏(‏ مصدق الذي بين يديه‏)‏ أي يصدق أصول كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل ـ في أصولهما الصحيحة ـ‏(‏ ولتنذر أم القري ومن حولها‏)‏ أي لتنذر به يا محمد أهل مكة ومن حولها وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس‏;(‏ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به‏)‏ أي والذين يصدقون بالحشر والنشر يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوي عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد‏(‏ وهم علي صلاتهم يحافظون‏)‏ أي يؤدون الصلاة علي الوجه الأكمل في أوقاتها‏,‏ قال الصاوي‏:‏ خص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات‏....‏

توسط مكة المكرمة لليابسة يفسر دلالة النص القرآني أم القري ومن حولها‏.‏
كانت حركة الاستشراق في جذورها حركة استخبارية‏,‏ تجسسية حقيرة‏,‏ معادية للإسلام والمسلمين‏,‏ حريصة علي تصيد كل فرصة لمهاجمة دين الله الخاتم بدون وجه حق‏,‏ ومن القضايا التي أثاروها زورا اقتطاع هذا النص الكريم الذي نحن بصدده ولتنذر أم القري ومن حولها من القرآن كله وقصره علي أهل مكة وبعض القري من حولها‏,‏ واعتباره معارضا للعديد من النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد عالمية الرسالة الخاتمة من مثل قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏(‏ الأنبياء‏:107)‏ وقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏(‏ سبأ‏:28).‏

وقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏...‏ وذكر منهن‏:...‏ وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة وبعثت إلي الناس عامة‏.‏
وفي محاولة علمية جادة لتحديد الاتجاهات الدقيقة إلي القبلة‏(‏ أي إلي الكعبة المشرفة‏)‏ من المدن الرئيسية في العالم باستخدام الحاسوب‏(‏ الكمبيوتر‏)‏ ذكر الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله برحمته الواسعة‏,(‏ الذي شغل درجة الأستاذية لمادة المساحة بكلية الهندسة في عدد من الجامعات والمعاهد العليا مثل جامعات القاهرة‏,‏ وأسيوط‏,‏ والرياض‏,‏ وبغداد‏,‏ والأزهر الشريف‏,‏ والمعهد العالي للمساحة بالقاهرة‏)‏ أنه لاحظ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات‏,‏ أي أن اليابسة علي سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما‏,‏ وأن هذه المدينة المقدسة تعتبر مركزا لليابسة‏,‏ وصدق الله العظيم إذ يقول‏:‏

وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القري ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير
‏(‏الشوري‏:7).‏

وقد ثبت علميا أن القارات السبع التي تكون اليابسة علي أرضنا في هذه الأيام كانت في الأصل قارة واحدة ثم تفتتت بفعل الصدوع والخسوف الأرضية إلي تلك القارات السبع التي أخذت في التباعد عن بعضها البعض ولا تزال تتباعد‏,‏ وبمتابعة جهود الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله برحمته الواسعة وجدت أنه في كل الحالات واليابسة قطعة واحدة‏,‏ وبعد تفتتها إلي القارات السبع مع قربها من بعضها البعض وفي كل مراحل زحف هذه القارات ببطء شديد متباعدة عن بعضها البعض حتي وصلت الي اوضاعها الحالية‏,‏ في كل هذه الحالات كانت مكة المكرمة دائما في وسط اليابسة‏.‏
وقد ثبت علميا أيضا ان أرضنا في مرحلة من مراحلها الابتدائية كانت مغمورة غمرا كاملا بالماء‏,‏ ثم فجر الله‏(‏ تعالي‏)‏ قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية عارمة عن طريق تصدع وخسف هذا القاع‏,‏ وأخذت الثورة البركانية تلقي بحممها فوق قاع هذا المحيط لتبني سلسلة من سلاسل جبال أواسط المحيطات‏,‏ ومع ارتفاع أعلي قمة في تلك السلسلة فوق مستوي سطح ماء هذا المحيط الغامر تكونت أول مساحة من اليابسة علي هيئة جزيرة بركانية تشبه العديد من الجزر البركانية المتكونة في أواسط محيطات اليوم كجزر اليابان‏,‏ الفلبين‏,‏ أندونيسيا‏,‏ هاواي‏,‏ وغيرها‏.‏

ويروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏ كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض‏;‏ وهذا الحديث ذكره الهروي في غريب الحديث‏(362/3)‏ وذكره الزمخشري في الفائق في غريب الحديث‏(371/1),‏ وذلك لأن مدلوله العلمي سابق لزمانه بألف وأربعمائة سنة‏;‏ والخشعة هي الأكمة المتواضعة‏;‏ فهل يمكن أن تكون أرض الكعبة المشرفة أول جزء من اليابسة ظهر فوق سطح المحيط الذي غمر الأرض في مراحلها الأولي؟ هذا سؤال لم تكتمل الإجابه عليه بعد‏.‏
خصوصية انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة

أضاف الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ في بحثه القيم المعنون إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة والمنشور في العدد الثاني من المجلد الأول لمجلة البحوث الاسلامية الصادرة بالرياض سنة‏1396/1395‏ هـ‏(‏ الموافق‏1976/1975‏ م‏)‏ أن الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول‏(39,817‏ شرقا‏),‏ تقع جميعها في هذا الاسقاط علي خط مستقيم‏,‏ هو خط الشمال الجنوب الجغرافي المار بها أي ان المدن التي تشترك مع مدينة مكة المكرمة في خط الطول يكون اتجاه الصلاة فيها الي الشمال او الجنوب الجغرافي تماما والمدن التي تتجه في الصلاة الي الجنوب الجغرافي تبدأ من القطب الشمالي للأرض إلي خط عرض مكة المكرمة‏(437‏ و‏21‏ شمالا‏)‏ واما المدن التي تقع علي خطوط العرض الممتدة من جنوب مكة المكرمة الي القطب الجنوبي فان اتجاه القبلة فيها يكون ناحية الشمال الجغرافي تماما‏.‏
وكذلك الحال علي خط الطول المقابل لخط طول مكة المكرمة‏,‏ وهو خط الطول المرقم‏(183‏ و‏140‏ درجة غربا‏)‏ فان المدن الواقعة عليه تصح الصلاة فيها نحو الشمال الجغرافي أو الجنوب الجغرافي تماما حسب موقع خط عرض كل منها بالنسبة الي خط عرض مكة المكرمة‏.‏ فالمدن الواقعة الي الجنوب من خط العرض المقابل لخط عرض أم القري أي من خط عرض‏21,437‏ جنوبا إلي القطب الجنوبي تتجه في صلاتها الي الجنوب الجغرافي تماما‏,‏ والمدن الواقعة شمالا من خط العرض ذلك الي القطب الشمالي تتجه في صلاتها الي الشمال الجغرافي تماما‏.‏

أما المدينة الواقعة علي خط الطول المقابل لمكة المكرمة تماما وعلي خط عرضها تماما فإن الصلاة تجوز فيها نحو أي من الشمال أو الجنوب الجغرافيين تماما‏,‏ كما تجوز في كل الاتجاهات الأخري شرقا وغربا‏,‏ وذلك لوقوع تلك المدينة علي إمتداد قطر الكرة الارضية المار بمكة المكرمة‏.‏
معني هذا الكلام أنه لايوجد انحراف مغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة‏.‏
وعند جميع الخطوط الموازية له‏,‏ باستثناء حالة واحدة‏.‏

والسبب في ذلك ان قطبي الأرض المغناطيسيين في تجوال مستمر حتي يتم انقلابهما فيصبح القطب الشمالي جنوبا والقطب الجنوبي شمالا‏,‏ وعند ذلك يحدث الكثير من الكوارث الطبيعية واندثارات الحياة‏,‏ وقد ثبت حدوث مثل هذه الانقلابات المغناطيسية في تاريخ الارض عدة مرات‏.‏
وتعلل المغناطيسية الارضية بوجود مغناطيسي كبير يمر بمركز الأرض‏,‏ ويميل محوره حاليا بمقدار‏11,5‏ درجة بالنسبة للمحور القطبي الجغرافي للكرة الأرضية‏,‏ ويعتقد بأن هذا المجال المغناطيسي ناتج عن حركة لب الارض المائع مع دوران كوكبنا حول محوره‏.‏

وعلي ذلك فان الاتجاه المغناطيسي الذي يحدد بالبوصلة أو بغيرها من الاجهزة المساحية التي تستخدم الابرة الممغنطة تختلف عن الاتجاه الحقيقي بزاوية تعرف باسم زاوية الانحراف المغناطيسي‏,‏ وهي تحدد علي جميع انواع الخرائط لكي يحسب الاتجاه الحقيقي بمعرفة كل من الاتجاه المغناطيسي وزاوية الانحراف المغناطيسي‏.‏
ومن الثابت تاريخيا ان خط طول جرنيتش قد فرضته بريطانيا بالقوة ابان هيمنتها علي العالم في سنة‏1884‏ م أثناء مؤتمر عقد في واشنجطن‏/‏ كولومبيا لتحديد خط طول الاساس وكان اختبارا سيئا فرضته الهيمنة البريطانية الغاشمة في العقود المتأخرة من القرن التاسع عشر الميلادي لأن زاوية الإنحراف المغناطيسي في الجزر البريطانية كما قيست في سنة‏1972‏ كانت في حدود‏8,5‏ درجة الي الغرب من الشمال وهذه القيمة تتناقص بمعدل نصف درجة تقريبا كل اربع سنوات اذا بقيت تلك المعدلات ثابتة‏.‏ يظهر ذلك خصوصية خط طول مكة المكرمة با نطباق الشمال المغناطيسي علي الشمال الحقيقي‏,‏ ومن هنا كان اختيار الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله لخط طول مكة المكرمة كخط طول أساسي للكرة الأرضية واعادة اسقاط خطوط طول الكرة الارضية بدءا منه اي بالنسبة الي مكة المكرمة لتماثل خطوط الطول حول خط طول تلك المدينة المقدسة تماثلا مذهلا وتذكر المراجع العلمية ان هناك خطا من خطوط الطول يمر بمدينة سنسنائي اوهايو تتضاءل عنده زاوية الانحراف المعناطيسي الي قرابة الصفر ويعرف باسم خط انعدام زاوية الانحراف المغناطيسي‏(TheAgonicline
)‏ وعلاقة هذا الخط بخط طول مكة المكرمة لم تدرس بعد‏.‏
مكة المكرمة مركز الكون
استقراء لآيات القرآن الكريم ولاحاديث خاتم الانبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم يتضح بجلاء توسط مكة المكرمة بين السماوات السبع والارضين السبع وهي حقيقة دينية لا يمكن للعلم الكسبي ان يصل اليها وذلك لأن الانسان لا يستطيع ان يري من فوق سطح الارض الا شريحة صغيرة من السماء الدنيا ووسيلته في ذلك هي النجوم التي تزين السماء الدنيا وحدها لقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح‏...‏
‏(‏الملك‏:5)‏

ومن مبررات ذلك ما يلي‏:‏
‏(1)‏ ورود ذكر الأرض في مقابلة السماء في عشرات الآيات القرآنية علي ضآلة حجم الارض اذا ما قورنت بالسماء مما يشير الي تميز موقع الارض بالنسبة الي السماء‏.‏

‏(2)‏ اشارة القرآن الكريم الي البينية الفاصلة للسماء او السماوات عن الارض‏,‏ في عشرين اية صريحة‏,‏ وهذه البينية لا يمكن ان تتم مع تناهي الارض في الضآلة وتناهي السماوات في الضخامة الا اذا كانت الارض في المركز بين السماوات السبع والارضين السبع‏.‏

‏(3)‏ اشارة القرآن الكريم في سورة الرحمن الي اقطار السماوات والأرض وقطر اي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفين من اطرافه مرورا بمركزه‏,‏ واذا كانت اقطار السموات والارض واحدة فلابد وان تكون ارضنا في المركز من السماوات السبع‏.‏

‏(4)‏ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يرويه مجاهد‏(‏ رحمه الله‏)‏ عنه بقوله إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والارضين السبع ولفظة‏(‏ مناء‏)‏ معناها القصد في الاتجاه والاستقامة مع كل من السماوات السبع والارضين السبع اي التواجد بينهما‏,‏ وعلي استقامة مراكزها وتأكد ذلك بإثبات توسط الكعبة المشرفة للأرض الأولي اي اليابسة‏.‏

‏(5)‏ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم المروي عنه بقوله‏:‏ البيت المعمور منا مكة ووصف ذلك البيت المعمور في حديث آخر يروي عنه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله هو بيت في السماء السابعة علي حيال الكعبة تماما حتي لو خر لخر فوقها‏.‏
من ذلك كله تتضح ومضة الاعجاز القرآني في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون فتتضح وسطية أم القري ليابسة الأرض ومن هنا يكون المنذرون هم جميع اهل الارض بلا استثناء‏,‏ ويتضح وضع الكعبة المشرفة في وسط الارض الأولي وهي اليابسة ودونها ست اراضين‏,‏ ويحيط بذلك كله سبع سماوات وفوق الكعبة المشرفة البيت المعمور زادها الله تشريفا وتعظيما‏.‏

والحمد لله علي نعمة الإسلام والحمد لله علي نعمة القرآن وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم الذي تلقاه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏