بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم )والصفا والمروة جبلان صغيران، . وهذان الجبلان كانت سيدتنا هاجر أم إسماعيل قد ترددت بينهما لتطلب الماء لولدها بعد أن تركهما إبراهيم عليه السلام عند بيت الله الحرام.
هنا قالت هاجر قولتها الشهيرة:
ـ إلى من تكلنا؟ الله أمرك بذلك؟فقال سيدنا إبراهيم: نعم.
فقالت: إذن لن يضيعنا، لقد استغنت بالخالق عن المخلوق،
ولم تنطق مثل هذا القول إلا بوحي من المسبب، وهذه أول قضية إيمانية مع ملاحظة الأرضية الإيمانية التي وجدت عليها، حينما دعا إبراهيم عليه السلام ربه قائلا
{ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة}
(من الآية 37 سورة إبراهيم)

وإذا قرأت "غير ذي زرع" فاعلم أنه غير ذي ماء، فحيث يوجد الماء؛ يوجد الزرع، فالماء هو الأصل الأصيل في استبقاء الحياة، وعندما يغيب الماء عن أم ووليدها، فماذا يكون حالهما؟ لقد عطش ولدها وأرادت أن تبحث عن نبع ماء أو طير ينزل في مكان لتعلم أن فيه ماء، أو ترى قافلة تسير ومعها ماء؛ لذلك خرجت إلى أعلى مكان وتركت الوادي، وصعدت إلى أعلى جبل الصفا فلم تجد شيئا، فنظرت إلى الجهة الأخرى؛ إلى المروة، وصعدت عليها فلم تجد شيئا. وظلت تتردد بين الصفا والمروة سبعة أشواط. ولنا أن نتصور حالتها، امرأة في مثل سنها، وفي سنها، وفي مثل وحدتها، وفي مثل عدم وجود ماء عندها، ولابد أنها عطشت كما عطش وليدها، وعندما بلغ منها الجهد، انتهت محاولاتها، وعادت إلى حيث يوجد الوليد.
ولو أن سعيها بين الصفا والمروة أجدى، فرأت ماء لقلنا: إن السعي وحده قد جاء لها بالماء، لكنها هي التي قالت من قبل: "إذن لن يضيعنا"، وهي بهذا القول قد ارتبطت بالمسبب لا بالسبب، فلو أنه أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن الماء لما كان عندها حجة على صدقها في قولها: "إذن لن يضيعنا". ويريد الحق أن ينتهي سعيها سبع مرات بلا نتيجة، وتعود إلى وليدها؛ فتجد الماء عند قدم الوليد. وهكذا صدقت هاجر في يقينها، عندما وثقت أن الله لن يضيعها، وأراد الله أن يقول لها: نعلم لن أضيعك، وليس بسعيك؛ ولكن بقدم طفلك الرضيع؛ يضرب بها الأرض، فينبع منها الماء. وضرب الوليد للأرض بقدمه سبب غير فاعل في العادة، لكن الله أراده سببا حتى يستبقى السببية ولو لم تؤد إلى الغرض.

وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقا أن الله لم يضيعها. وظل السعي شعيرة من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام، استدامة لإيمان المرء بالمسبب وعدم إهماله للسبب، وحتى يقبل الإنسان على كل عمل وهو يؤمن بالمسبب. ولذلك يجب أن نفرق بين لتوكل والتواكل. إن التوكل عمل قلب وليس عمل جوارح، والتوكل تعطيل جوارح. ليس في الإسلام تواكل، إنما الجوارح تعمل والقول تتوكل. هكذا كان توكل هاجر، لقد عملت وتوكلت على الله؛ فرزقها الله بما تريد بأهون الأسباب، وهي ضربة قدم الوليد للأرض،
وبقيت تلك المسألة شعيرة من شعائر الحج وهي سبعة أشواط بين الصفا والمروة. وعندما غفل الناس عن عبادة الله،ودخلت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية أوجدوا على جبل الصفا صنما أسموه سافا" وعلى المروة صنما أسموه "نائلة". وكانوا يترددون بين إساف ونائلة، لا بين الصفا والمروة، لقد نقلوا العبادة من خالصية التوحيد إلى شائبية الوثنية.

فلما جاء الإسلام أراد الله ألا يوجه المسلمين في صلاتهم إلى البيت المحرم إلا بعد أن يطهر البيت ويجعله خالصا لله، فلما ذهب بعض المؤمنين إلى الكعبة تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأن "إسافا" و"نائلة" فوق الجبلين، فكأنهم أرادوا أن يقطعوا كل صلتهم بعادات الجاهلية، واستكبر إيمانهم أن يترددوا بين "إساف" و"نائلة"، فأنزل الله قوله الحق: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهم ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم"، أي لا تتحرجوا في هذا الأمر لأنكم ستسعون بين الصفا والمرة؛ لا بين إساف ونائلة كما كان يفعل المشركون الوثنيون، إذن فالعمل هنا كان بالنية.

لقد كانت نية السعي الأولى عند هاجر هي الإيمان بالله والأخذ بالأسباب، لكن الوثنية قبلت قمة الإيمان إلى حضيض الكفر، وكان لابد أن يستعيد المسلمون نية الإيمان الأولى عند زيارة البيت المحرم بالسعي بين الصفا والمروة، فنحن في الإسلام نرضخ لأمر الآمر،
قال لنا: "قبلوا الحجر الأسود"، وفي الوقت نفسه أمرنا أن نرجم الحجر الذي يرمز إلى إبليس، هكذا تكون العبرة بالنية؛ وليس بشكل العمل، وتكون العبرة في إطاعة أمر الله. وكأن الحق بهذه الآية يقول للمؤمنين: إن المشركين عبدوا "إسافا" و"نائلة"، لكن أنتم اطرحوا المسألة من بالكم واذهبوا إلى الصفا والمروة، فالصفا والمروة من شعائر الله، وليستا من شعائر الوثنية، ولكن ضلال المشركين هو الذي خلع عليهما الوثنية في إساف وفي نائلة.

لقد أراد الوثنيون بوضع "إساف" على الصفا "ونائلة" على المروة أن يأخذوا صفة التقديس للأوثان، فلولا أن الصفا والمروة من المقدسات سابقا لما وضعوا عليهما أحجارهم ولما جاءوا بأصنامهم ليضعوها على الكعبة، هذا دليل على أن قداسة هذه الأماكن أسبق من أصنامهم،
لقد حموا وثنيتهم بوضع "إساف" و"نائلة" على الصفا والمروة. وبعد أن بين الحق للمؤمنين أن الصفا والمروة من شعائر الله، ينبه على أن المكين ـ ساكن المكان ـ لا ينجس المكان، بدليل أن الإيمان عندما كتبت له الغلبة، كسر الأصنام وأزالها من الكعبة وأصبح البيت طاهرا،
وعندما كان المؤمنون يتحرجون عن أن يفعلوا فعلا من أفعال الجاهلية طمأنهم الحق سبحانه وتعالى،
وقال لهم: "إن الصفا والمروة من شعائر الله".
المصدر: تفسير الشيخ الشعراوى