في وثيقة تُعَدّ صياغتها نموذجًا مثاليًّا للتلاعب بالألفاظ والمعاني, أعلن الكرسي (الرسولي )عن مذكرة تفسيرية حول عدد من ملامح التبشير، صادرة عن لجنة عقيدة الإيمان (محاكم التفتيش سابقًا) ولجنة تبشير الشعوب، وتدور حول فكرة «أن التبشير بالإنجيل لا يعني المطالبة بتغيير الدين، وإنما هو واجب كنسي، وأن التعبير عن الإيمان المسيحى والإعلان عن الإنجيل لا يعني القيام بعملية تبشير غير مشروعة، وإنما هي من صميم المسيحية»!
وقد تم نشر الوثيقة يوم 14/12/2007م، بعد أن أقرها( البابا )يوم 3/12/2007م. وإن كان يقال: إن (البابا )كان قد بدأ صياغتها حينما كان يُدْعى الكاردينال راتزنجر، ويشغل منصب رئيس لجنة محاكم التفتيش. وتتكون الوثيقة من 19 صفحة: تتضمن 13 بندًا، منها المقدمة والخاتمة، وتدور كلها «حول مسائل حساسة وأساسية بالنسبة لمهمة الكنيسة التبشيرية، في الظروف الحالية، سواء التاريخية أو الثقافية»؛ إذ إنها توضح وتحدّد كيفية تنصير العالم، وأن ذلك حق كنسي لا رجعة فيه بل ولا نقاش!
وتتذرع الوثيقة بتلك الآيات المصاغة في القرن الرابع الميلادي، عن تأليه المسيح ومساواته بالله -عز وجل-، والمطالبة على لسان المسيح بتنصير العالم، والتي بمقتضاها تقول اللجنة التي أصدرتها: إنها تعتمد عليها لتبشير العالم. لذلك نراها منذ البداية تضع في الصدارة فكرة «أن كل النشاط الكنسي له بُعد تبشيري أساسي، ولا يمكن فصله أبدًا عن الالتزام بمساعدة كل البشر على لقاء يسوع في الإيمان».. ويا لها من مساعدة فرَّ منها الكثير من أتباعها، وينفر منها المسلمون الذين يؤمنون بأن الله -سبحانه وتعالى- ليس كمثله شيء، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد!
لذلك تشير الوثيقة إلى الخلط المتزايد في الثقافة المعاصرة التي تعتبر «أن كل محاولة لإقناع الآخرين بمسائل دينية (أي تبشيرية) تعد بمثابة تهديد لحرية الآخر!. وهو ما يتبعه توضيح لهدفها «الرامي إلى عدة ملامح تتعلق بأمر التبشير، الصادر عن يسوع، واحترام حرية العقيدة والحرية الدينية لكل فرد». ولا نفهم كيف يمكن أن يتم تبشير أو تنصير شخص ما مع مراعاة احترام عقليته وعقيدته وديانته؟! ..
وتنقسم الوثيقة إلى ثلاثة أجزاء، تتناول فيها التداخلات الإنسانية، والكنسية، وتوحيد الكنائس في المهمة التبشيرية للكنيسة. وهنا لا بد لنا من توضيح أن عبارة الكنيسة أو الكنيسة الأم تعني: الكنيسة الرومية الكاثوليكية الرسولية، فالكنائس الأخرى كلها تتفاوت قيمتها في نظرها، بل إن هناك كنائس لا تعتبرها الكنيسةُ الأم كنائسَ، بل وتصفها بأنها معيبة. وهو ما تم توضيحه بعد الخطاب الرسولي الأول للبابا بنديكت السادس عشر وما أثاره من زوابع.
ويعتمد الجزء الأول من الوثيقة على الخطاب الرسول للبابا يوحنا بولس الثاني حول «الإيمان والعقل» لذلك تحاول شرح كيف يمكن للفرد أن يدخل في الإيمان المسيحي، بل إن ذلك واجب أخلاقى عليه القيام به، إضافة إلى أنها بمثابة ضرورة لا يمكن إلغاؤها. وفي هذه النقطة تعتمد الصياغة على دور الحرية الشخصية، وعلى أنها نبع مفتوح مُهْدًى للإنسان من خالقه!. لذلك تنتقد الوثيقة كل الذين يعتبرون التبشير اعتداءً على حرية الغير، موضِّحة أن هذا الموقف لا يُلاحَظ في المجتمعات الغربية فقط، وإنما يلاحظونه في الشرق أيضًا.
ويرى كاتبو هذه الوثيقة أن التبشير في مجال التعايش المشترك بين البشر، يجب أن يأخذ في الاعتبار اليقين الأساسي بأن «الحقيقة لا تُفرض إلا بموجب نفس قوة حقيقتها»؛ لأن هذه القوة هي التي تحدد طريق النصر الذي يتعين على المرتد أن يسلكه «لأنه خُلق ليعرفها ويتبعها»، (أي: أن الله العلي القدير قد خلق كل البشر ليكونوا مسيحيين! ).. ومن هنا فإن «دعوة الشخص بصورة أمينة، مع مراعاة ذكائه وحريته، لكي يذهب طواعية للقاء المسيح وإنجيله، ليس تدخلاً في غير مكانه أو في غير حقه، وإنما هي خدمة شرعية وجليلة تُقَدَّم له بحيث تجعل العلاقات بين البشر أكثر ثراء»!!
إن الدعوة إلى ضرورة التنصير صريحة لا لَبْس فيها؛ إذ تقول: «إن الإعلان عن المسيح، ابن الله الذي تجسَّد بشرًا، وأنه المنقذ الوحيد، بصراحة وإخلاص تبشيري، دون خشية مخاوف لا أساس لها، اعتمادًا على قوة الحق الناجم عن الرب شخصيًّا؛ سيساند الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تنغرس في قلوب البشر» .. ويواصل النص موضحًا: «لا بد من الفهم بوضوح أن الانضمام كاملاً إلى المسيح، الذي هو الحق، والدخول في كنيسته، لا يقلل من الحرية الإنسانية وإنما يرفع من شأنها» !
وهنا توضح الوثيقة «أن منهج وأسلوب التبشير عظيم الشأن، اعتمادًا على الإعلان عن الكنيسة، وعلى الصداقات الشخصية، فإن كانت المسيحية هي لقاء مع حدث ما ومع شخص ما، فذلك يعطي الحياة أفقًا جديدًا؛ اعتمادًا على الإدارة الحاسمة. فصداقة يسوع بحوارييه التي تتواصل إلينا حتى اليوم، هي منهج التبشير الذي يصل الإله-الإنسان بالإنسان، ومن شخص إلى شخص، حتى تعمَّ الإنسانية بأسرها» ..
ثم تتناول الوثيقة معنى كلمة الارتداد، والتي «تتضمن ضرورة إدخال الوثنيين في الكنيسة، (وهنا تجدر الإشارة إلى أن كلمة وثني، في هذا النص، تشير إلى كل من هو ليس مسيحيًّا)، وضرورة قيادتهم إلى التوحد المتزايد بيسوع؛ لأن ذلك يعني الدخول في شبكة صداقة مع المسيح، الذي يربط السماء بالأرض، والقارات المختلفة، وكل العصور الزمانية؛ لأن ملكوت الله هو قبل كل شيء إنسانٌ له وجه واسم: يسوع الناصرة» !
وتوجز الوثيقة عملية التبشير «بأنها واجب لا يمكن للمسيحيين التخلي عنه، وفي نفس الوقت هي أحد حقوقهم التي لا نقاش فيها، وتعبير عن الحرية الدينية التي لها أبعادها الموازية للقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وأن أية شهادة مسيحية تظل عاجزة ما لم يمكنها الإعلان بوضوح وبلا مواربة عن ربنا يسوع» . أي أن المسيحي الذي لا يشارك في عملية التبشير، التي فرضها مجمع الفاتيكان الثاني على كافة الأتباع، يُعَدّ إيمانه بمسيحيته ناقصًا!
وتنتهي الوثيقة بما له مغزاه الواضح؛ إذ تقول: «لقد آن الأوان لنتخطى المفاهيم الخاطئة التي بمقتضاها يقال: إن غير المؤمن بالمسيحية، والذي يعيش حياة مستقيمة، ليس عليه احترام واجبات أخرى؛ إذ إن الوصية الأولى لا تزال سارية إلى الأبد ولكل البشر، وخطيئة غير المسيحي هي -تحديدًا- عدم الإيمان بهذه الوصية التي تقول: «ولن يكون لك إله غيري» ..
ولا يسع المجال هنا لنتناول بالتفصيل أن البابا بنديكت السادس عشر أصبح يتبنى تعاليم العهد القديم، الخاص باليهود، على أنها تعاليم عامة للجميع، فهذه الوصية هي من الوصايا العشر الخاصة باليهود ..
وتشير الوثيقة إلى أن عملية توحيد الكنائس المختلفة أو المنشقة، والحوار بين الديانات الأخرى لن توقفه عملية التبشير بالإنجيل وبيسوع، بل على العكس من ذلك فإنها توضيح للهوية وللنية، إنها مواجهة حرة للأفكار المسبقة وقادرة على عرض الأسباب المتبادلة التي تميز هذا الحوار الحرّ الشديد الضرورة للتقدم الفعلي للمعرفة المتبادلة للطريق المشترك.
وتنتهي الوثيقة بمقولة للبابا بنديكت السادس عشر توضح أن التبشير يمثل «أول خدمة يمكن للمسيحيين أن يقدموها لكل إنسان وللإنسانية جمعاء» !!
ويعقبها الدعاء القائل: «نطلب من الروح القدس أن يعطي القوة للجميع، الأتباع العلمانيين والرعاة الكنسيين؛ للإعلان عن المسيح بذكاء وسخاء وفاعلية جديرة بأصدقاء الرب وبشجاعة الشهداء، وهو المقياس الوحيد الحقيقي والواقعي للتبشير» ..
وتبقى الإشارة إلى أن سبب إصدار هذه الوثيقة هو الاعتراضات الرسمية التي تقدم بها بابا الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، ضد عمليات التبشير التي يقوم بها الكاثوليك هناك، منذ أن سُمح لهم بغرس أربع أسقفيات في روسيا ..
والموضوع برُمَّته مرفوع إلى كافة المسلمين الذين يشاركون -بجهل أو عن عمد- في مهزلة الحوار بين الأديان، التي لا ترمي ولا تهدف إلا إلى كسب الوقت حتى تتم عملية التنصير التي تدور رحاها.


كتبه: الدكتورة زينب عبد العزيز

المصدر: http://www.shareah.com/index.php?/re...n/view/id/333/