لا يستطيع كذب الحاقدين أن يغطي تلك المساحة الهائلة، التي ينتشر فيه ضياء الإسلام، ومهما أثار الحاقدون من غبار فلن يستطيعوا أن يُعموا على تاريخ الإسلام المشرق، لذلك كان التلفيق الرخيص، واستغلال جهل الدنيا بديننا هو البديل الذي يحاول الحاقدون تقديمه؛ تفسيرًا لهذا الانتشار الهائل للإسلام، ومن أكثر ما يثيره هؤلاء الكذبة، هو أن الجزية كانت السبب الأساس في دخول أهل الكتاب الإسلام لعجزهم عن سدادها.

وهي فرية واهية لا تصمد لبسط حقائق التاريخ، فالإسلام لم يكن أول من أخذ الجزية، فهي قانون عند كل الأمم بمن فيهم اليهود والنصارى.

فالعهد القديم، الذي يؤمن به اليهود والنصارى يشرع شرعة الجزية، ويذكر أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، حين غلبوا على بعض الممالك، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيدًا تحت الجزية" (يشوع 16)، وقد جمع لهم بين العبودية والجزية.

ويذكر إنجيل متّى 22،أن المسيح سُئل: "أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه".

ويعد العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقًا مشروعًا، بل ويعطيه قداسة، ويجعله أمرًا دينيًا، إذ يقول بولس في رومية 13: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، .. فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام".

وقد كان الكاثوليك يفرضون الجزية على أرثوذكس مصر قبل أن يفتحها المسلمون، فما سمعناهم يقولون: إن الأرثوذكس تركوا طائفتهم إلى الكاثوليكية؛ هربًا من الجزية بل العكس، نجدهم يتفنون في ذكر صبر وصمود الأرثوذكس على عقيدتهم وفرارهم إلى الصحاري والكهوف، وأنهم كانوا يفضلون الموت على ترك طائفتهم.

كذلك يؤلف النصارى الحكايات الطوال عن بسالتهم في مواجهة عصر الاستشهاد، حين ألقاهم الرومان للأسود الجائعة وأحرقوهم في الميادين، وذبحوهم تحت أقدام أصنامهم، ومع هذا لم نسمع منهم أن أحدًا قد ارتدَّ عن دينه، لكنهم لما عجزوا عن تبرير دخول النصارى واليهود في الإسلام عن رضا وقناعة، ولم يجدوا في الإسلام أسودًا جائعة أو نارًا تحرق المخالفين، حاولوا تبرير هذا الفتح بالجزية.

نسي هؤلاء أن الجزية في الإسلام لم تزد في كل تاريخها عن أربع دنانير، وتراوحت في أغلب أحوالها بين دينار ودينارين.

يقول المؤرخ بنيامين كما نقل عنه آدم متز في الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري: "إن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون دينارًا واحدًا".

ويقول دربير في كتابه "المنازعة بين العلم والدين": "إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئًا ضئيلاً من المال لا يقارن بما كانت تتقاضاه منهم حكوماتهم الوطنية".

ويذهب مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع" إلى أبعد من هذا فيرى أن بساطة الجزية عجلت بانتشار الفتوحات الإسلامية فيقول: "إن هذه الإتاوات المفروضة كانت سببًا لهذه السهولة الغريبة، التي صادفها المسلمون في فتوحاتهم، فالشعوب رأت ـ بدلاً أن تخضع لسلسلة، لا تنتهي من المغارم التي تخيلها حرص الأباطرة ـ أن تخضع لأداء جزية خفيفة يمكن توفيتها بسهولة، وتسلمها بسهولة كذلك".

الأجمل من كل هذا، أن الجزية هذه لم تكن تؤخذ من كل أهل الكتاب، بل من الشباب القادر على حمل السلاح والقتال، وقت الحرب، والعمل والكسب وقت السلم، ولم تؤخذ قط من النساء أو الأطفال أو الشيوخ أو حتى الرهبان.

قال القرطبي في تفسيره: "قال علماؤنا: الذي دلَّ عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين ... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".

قال الإمام مالك في الموطأ: "مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب، ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم، وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة".

ويشهد آدم متز في كتابه الحضارة الإسلامية فيقول: " فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار".

وبمثله، شهد ول ديورانت في قصة الحضارة بقوله: "ويُعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديد الفقر"، ليس هذا فحسب، بل تسقط الجزية عند العجز عن سدادها.

يقول ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة: "تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء".

قال القاضي أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية: "وتسقط الجزية عن الفقير، وعن الشيخ وعن الزَمِن".

وكل هذا يبطل كذب الحاقدين، ويبرز نور الإسلام، وعدله، ورحمته، ويكشف للجميع السبب الحقيقي لدخول الملايين في الإسلام، أنه الرحمة الإلهية، التي جعلها الله ـ سبحانه ـ أحد أهم مميزات شريعته السمحة، ولا يغفل عن هذا الدين إلا من رضي لنسفه بالعبودية للبشر، والخزي والعذاب في الآخرة.

كتبه: سيد محمود

المصدر:http://www.shareah.com/index.php?/re.../view/id/1133/