قال أحدُ المعترضين متسائلًا: لماذا لم يُدَوَّن القرآن في مصحف واحد في عهد رسول الإسلام....؟

أليس ذلك أدعى لحفظ القرآن الحقيقي من التحريف والتلاعب كي تكون هناك نسخة أصلية معتمدة من رسول الإسلام....؟!

الرد على الشبهة

أولًا: إن الله I تكفل بحفظ القرآن الكريم، وهذا يكفي؛ لأن اللهَ I هو خير الحافظين....

دلت على ذلك أدلة كثيرة منها ما يلي:

1- قوله I : ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) [ ( الحجر).

جاء في التفسير الميسر: إنَّا نحن نزَّلنا القرآن على النبي محمد r وإنَّا نتعهد بحفظه مِن أن يُزاد فيه أو يُنْقَص منه، أو يضيع منه شيء. اهـ

2- قوله I : ] إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) [ ( القيامة ).

جاء في تفسير الجلالين: { إن علينا جمعه } في صدرك { وقرآنه } قراءتك إياه أي جريانه على لسانك. اهـ

بينما ترك I الكتب السابقة لأهلها كي يحفظوها فحرفوها وبدلوها ....

دل على ذلك قوله I : ] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) [ (المائدة).

جاء تفسيرها كما بينتُ في الآتي :

1- { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } من الضلالة { ونور } بيان للأحكام { يحكم بها النبيون } من بني إسرائيل { الذين أسلموا } انقادوا لله { للذين هادوا والربانيون } العلماء منهم { والأحبار } الفقهاء { بما } أي بسبب الذي { استحفظوا } استودعوه أي : استحفظهم الله إياه { من كتاب الله } أن يبدلوه { وكانوا عليه شهداء } أنه حق { فلا تخشوا الناس } أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد r والرجم وغيرها { واخشون } في كتمانه { ولا تشتروا } تستبدلوا { بآياتي ثمنا قليلا } من الدنيا تأخذونه على كتمانها { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } به . اهـ

2- تفسير ابن كثير : نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، عز وجل { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله. وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: يستجيبون له، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد. وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي: يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }
قيل: نزلت في أقوام من اليهود، قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم و الإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي r قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله r ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله r : "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد، فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله r فرجما فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة .
وأخرجاه وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له: "فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟" قالوا: نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما. قال: { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك. فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فَرُجما. اهـ


ثانيًا: إن القرآن الكريم كاملًا كان محفوظاً في صدر النبي r وفى صدور أكثر أصحابهr وكتبة الوحي...
فهناك فارق بين القرآن والمصحف؛ فالقرآن: محفوظ في الصدور بالتواتر شفاهة من فم النبي r إلى صدورنا وألسنتنا ليومنا وهذا وهو أقوى أنواع الحفظ....

وأما المصحف: هو القرآن المكتوب بين الدفتين ، و كان القرآن مكتوبًا على الرِّقاع, والأكتاف, واللخاف, وكان مجموعاً في بيت النبي الله r....

دل على ما سبق أن الأصل هو حفظ القرآن في الصدور قبل السطور........
قول I : ] بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) [ ( العنكبوت).

جاء في تفسير الجلالين: { بل هو } أي القرآن الذي جئت به { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } أي : المؤمنون يحفظونه { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون } أي: اليهود وجحدوها بعد ظهورها لهم. اهـ


ثالثًا: كان من الصعب جمع القرآن كله مُرتبا في مصحف واحد بين دفتين في حياة النبي إلى وفاته، وذلك بسبب استمرار نزول الوحي عليه مُنجما فلا يُعرف أين ستوضع الآيات الجديدة عند كتابتها فلو أنه رتبه أولاً بأول وجمعه بين دفتي مصحف واحد، لأدى هذا إلى كثرة التغيير والتبديل كلما نزلت عليه آية...إلى أنْ رُتب تمامًا كاملًا في آخر حياته؛ تحديدا في العرضة الأخيرة مع جبريل القرآن مرتين....
كما لم تكن هناك ضرورة ملحة إلى كتابته كاملا مُرتبا بينما هو محفوظ في الصدور... بل كان يعمّ ويسود الأمنُ في ذلك الوقت، و كان لوجود النبي دورٌ هام في الحفاظ على الأمن حينها، أما بعد وفاته وبعد مقتلِ العديد من حفَظةِ القرآن، خاف الصّحابةُ عليه من ضياعه واندثاره بموت الحفظة... كما كُثرت الفتوحات ودخل أعاجم الإسلام مع اختلاف لهجاتهم... لذا كان لازمًا حفظه كتابة في مُصحفٍ واحد يُنشر في الأمصار...

رابعًا: إن كتب المعترض التي يؤمن بها؛ مكونة من توراة – العهد القديم- والأناجيل – العهد الجديد- لم تكتب هذه الكتب في حياة النبيين موسى وعيسى
-عليهما السلام-.

أبدأُ أولًا: بالعهد القديم وبالأسفار الخمسة فقط وأقول : إن موسى لم يكتب هذه الأسفار؛ لأن هناك نصوصًا تنفي أن يكون موسى كتب سفر التثنية مثلًا أو غيره في حياته ...

وأكتفي بنص واحد فقط، وهو ما جاء في سفر التثنية أصحاح 34 عدد 5-8 " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة حين مات ولم تكِلَّ عينه ولا ذهبت نضارته فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوماً. فكملت أيام بكاء مَناحة موسى ".

ويبقى السؤالُ الذي يطرح نفسه هو : هل كتب موسى هذه النصوص : فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفن في الجواء في أرض موآب ؟!

ثانيًا: العهد الجديد: فهو مكون من أربعة أناجيل أُخيرت من قرابة مائة إنجيل ورسائل وذلك في مجمع نقية سنة 325م.
بل يظن أن أقدم إنجيل كتب لم يكن في حياة يسوع المسيح بل بعد موته -بحسب إيمانهم- بسبعين عامًا وهو إنجيل مرقس... أما الباقين فكتبوا بعد موت المسيح - بمدة أطول من السالف ذكرها...

والأكثر عجبًا هو: أن رسائل بولس وضعت أولاً قبل الأناجيل في العهد الجديد ؛ وذلك في مجمع نقية الذي اعتبرها رسائل مقدسة مع العلم أن بولس لم يكن تلميذًا ليسوع المسيح فلم يعاصره البتة......!
كتبه/ أكرم حسن