بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين



الربا في ضوء الكتاب والسنة
الشيخ عبدالله خياط

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 11 - ذو القعدة 1404هـ - صفر1405هـ.



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278،279].


تقديم:

الإسلام دين العمل والكد، وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ، وبقدر ما يغرس يحظى بالثمار، أما التَّبطُّل والقعود عن الكسب المشروع اتكالاً على مجهود الغير، أو اعتداداً بغنيمة باردة تصل إليه دون عناء وبذل جهد فليس ذلك من دين الإسلام، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام وحض عليه ورغب فيه، ألا ترى كيف توحي الآية الكريمة التالية وأمثالها بمزاولة العمل بعد أداء فريضة الله ابتغاء رزق الله ودفعاً للتبطل؛ يقول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9،10].



فالأمر بالانتشار في الأرض قرنه سبحانه بالفريضة التي هي عماد الدين، وفتح الأنظار للاتجاه إليه والأخذ به كمقوم للحياة ترتركز عليه، وجاء في الحديث: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً له من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) [1]، وفي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفقير جاء يطلب مدداً من المال: (لأن يحتزم أحدكم حُزمة من حطب، فيحملها على ظهره، فيبيعها خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه) [2].


هذه مقدمة وضعناها بين يدي بحث اليوم؛ لنرْكُز في الأذهان أن الربا تبطُّل، وقعود عن الكسب المشروع، واسمتراء لحياة رتيبة لا نَصَب فيها ولا كدّ ولا عناء أو جهد، بل يعيش صاحبها على حساب الآخرين، يأكل كسبهم، ويمتص نشاطهم، ويجعلهم كالأجراء يعملون له، وليتهم يأخذون أجراً على عملهم، وإنما يأكلون من فتات المائدة لو فضل من المائدة فتات، وسوف نسير إن شاء الله في كتابة هذا البحث على المخطط الذي رسمناه له على ضوء الكتاب والسنة فنبدأ أولاً بتعريف الربا لغة وشرعاً (2) الربا في آي الكتاب العزيز (3) الربا في السنة (4) حكم الربا في الإسلام، ويشتمل هذا المبحث على: -

أ - مضارّ الربا.

ب - تحريم الربا.

ج - أنواع الربا وحكم كل نوع.



د - وسائل القضاء على الربا، وبتفرع عنه ما يأتي:

1 - القرض الحسن.

2 - الحض على التعاون لصالح الفرد والمجتمع، وهذا التعاون يترجم عنه؛ التعاون الصناعي، والتعاون الزراعي، والتعاون الاجتماعي.

3 - خطر الربا الاستهلاكي والإنتاجي.

4 - خاتمة.


تعريف الربا لغة وشرعاً:

أما التعريف اللغوي فهو: الزيادة على الشيء، ومنه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه، وربا الشيءُ إذا زاد على ما كان عليه فعظم، فهو يربو ربواً.

وإنما قيل للرابيةِ رابيةٌ لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في رباوة قومه. يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا الأناقة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان؛ أي: أناف ماله حين صيره زائداً.

وإنما قيل للمربي مرب؛ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً، أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130].

وأما تعريف الربا في الشرع: فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى النسأ ربا في حديث أسامة بن زيد، فقال: (إنما الربا في النسيئة)[3]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة.

فثبت بذلك أن الربا قد صار اسماً شرعياً، لأنه لو كان باقياً على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالماً بأسماء اللغة؛ ولأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة نسأ ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان: وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الإسلام موضوعاً لها في اللغة نحو: الصلاة، والصوم، والزكاة، فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك[4].
مبحث الربا في الكتاب العزيز:

ننتقل بعد هذا البسط في مدلول الربا لغة وشرعاً إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الربا موضحاً؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 275 - 281].


تفسير الآيات:
يقول الحافظ ابن كثير يرحمه الله: "لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين للنفقات المخرجين للزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات - شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق"؛ رواه ابن أبي حاتم، ونقل - أي ابن كثير - عن بعض مفسري السلف نحو هذا المعنى، ثم استمر يرحمه الله في نقل الروايات عن مفسري السلف في أن قيامهم على الوضع المذكور يكون يوم القيامة ونقل عن ابن جرير بالسند إلى ابن عباس رضي الله عنه ما قال: "يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]؛ الآية.

وذلك حين يقوم من قبره"[5]، وجاء في "فتح القدير" عند تفسير هذه الآية: "وليس المراد بقوله هنا ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275] اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا؛ فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم؛ فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل، وقوله: ﴿ لَا يَقُومُونَ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود: "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشطان من المس يوم القيامة"؛ وبهذا فسره جمهور المفسرين، قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر. وقيل: المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون؛ لأن الحرص، والطمع، والرغبة في الجمع قد استفزته، حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جُنَّ؛ ومنه قول الأعشى:

وَتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرى وَكَأَنَّها ♦♦♦ أَلَمَّ بِها مِنْ طائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ

فجعلها أي ناقتهبسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله: ﴿ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه؛ والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء، وهو المصروع، والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق، وهو متعلق بقوله: ﴿ يَقُومُونَ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: لا يقومون من المس الذي بهم ﴿ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ﴾ [البقرة: 275] أو متعلق ب-﴿ يَقُومُ ﴾ [البقرة: 275]؛ وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مس، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان.

كما أخرجه النسائي وغيره، قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 275] إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله؛ فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: أن الله أحل البيع وحرم نوعاً من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا، والبيع: مصدر باع يبيع، أي: دفع عوضاً وأخذ معوَّضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب.

قوله: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي؛ ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا ﴿ فَانْتَهَى ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن المنهي عنه، وهو معطوف - أي: قوله: ﴿ فانْتَهى ﴾[البقرة: 275] - على قوله ﴿ جاءه ﴾ [البقرة: 275].

وقوله: ﴿ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 275]، متعلق بقوله: ﴿ جاءه ﴾ [البقرة: 275] أو بمحذوف وقع صفة لموعظة أي كائنة ﴿ مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ ما سَلَفَ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا.
وقوله ﴿ فأَمْرُهُ إِلى اللهِ ﴾ [البقرة: 275]؛ قيل: الضمير عائد إلى الربا؛ أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده، واستمرار ذلك التحريم. وقيل: الضمير يرجع إلى المرابي؛ أي: أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية، ﴿ ومَنْ عادَ ﴾ [البقرة: 275] إلى أكل الربا، والمعاملة به ﴿ فأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيْها خالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]، والإشارة إلى ﴿ مَنْ عادَ ﴾ [البقرة: 275]، وجمع ﴿ أَصْحابُ ﴾ [البقرة: 275] باعتبار معنى ﴿ مَنْ ﴾ [البقرة: 275]. وقيل: إن معنى ﴿ مَنْ عادَ ﴾ [البقرة: 275] هو أن يعود إلى القول ب-: ﴿ إِنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ﴾ [البقرة: 275]، وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب: مُلْكٌ خالدٌ - أي طويل البقاء - والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.

قوله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 276]؛ أي: يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيراً فلا يبقى بيد صاحبه. وقيل يمحق بركته في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ قوله: ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ ﴾ [البقرة: 278]؛ أي: قوا أنفسكم من عقابه، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً.

قوله تعالى: ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة. وقيل: أن ﴿ إِنْ ﴾ [البقرة: 278] في هذه الآية بمعنى (إذ)، قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة؛ فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.

قوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ [البقرة: 279]؛ يعني: ما أمرتم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا ﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: فاعلموا بها، من أَذِن بالشيء إذا علم به. وقيل: هو من الإذن بالشيء: وهو الاستماع؛ لأنه من طرق العلم، وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزةُ: ﴿ فآذِنُوا ﴾ [البقرة: 279] على معنى: فأعلموا غيركم أنكم على حربهم، وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته.

قوله: ﴿ فِإِنْ تُبْتُمْ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: من الربا ﴿ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ ﴾ [البقرة: 279] تأخذونها ﴿ لا تَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 279] غرماءكم بأخذ الزيادة ﴿ ولا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279] أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية، وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.

قوله: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [البقرة: 280] لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنَّظِرة إلى يسار. والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنَّظِرة: التأخير. والمَيْسَرة: مصدر بمعنى اليُسْر. وارتفع ﴿ ذو ﴾ [البقرة: 280] بكان التامة، بمعنى وُجِد، واستمر في شرحه لِرفع ﴿ ذو ﴾ [البقرة: 280] ثم أورد رواية للمعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان {إن كان ذا عسرة}.

قال النحاس، ومكي، والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ﴿ ذُو ﴾ [البقرة: 280] فهي عامة في جميع مَن عليه دين، وإليه ذهب الجمهور.

قوله ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا ﴾ [البقرة: 280] بحذف إحدى التائين، وقرئ بتشديد الصاد؛ أي: وأن تصدقوا على معسر غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أَعْسَر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره. قاله السدي.

ونقل ابن جرير الطبري في "تفسيره": أن المراد التصدق برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم، قال: "وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: وأن تصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم؛ لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين، وإلحاقه بالذي يليه أحب إلى من إلحاقه بالذي بَعُد منه"[6].

قوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280] جوابه محذوف؛ أي: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. قوله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾ [البقرة: 281] هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف.

قوله: ﴿ تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ﴾ [البقرة: 281] وصف له، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت. وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة، كما تقدم. قوله: ﴿ إِلى اللهِ ﴾ [البقرة: 281] وفيه مضاف محذوف تقديره: إلى حكم الله ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ﴾ [البقرة: 281] من النفوس المكلفة ﴿ ما كَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 281]؛ أي: جزاء ما عملت من خير أو شر، وجملة ﴿ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281] حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب.
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس؛ وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 278]؛ قال: "نزلت في العباس بن عبدالمطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلة يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. فأنزل الله هذه الآية"، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: "كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكان بنو المغيرة يُرْبُون لهم في الجاهلة، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 278]. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، وقال: (إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب)؛ وبسند ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ﴾ [البقرة: 279] قال: "من كان مقيماً على الربا، لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه". وأخرجوا أيضاً عنه في قوله: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ﴾ [البقرة: 279] قال: "استيقنوا بحرب".

وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا وإن كل ربا في الجاهلة موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، وأول رباً موضوعٍ ربا العباس).

وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾ [البقرة: 279]". وبالسند عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [البقرة: 280] قال: "نزلت في الربا".

وأخرج عبدالرزاق بالسند عن ابن جريج عن الضحاك في الآية قال: "وكذلك كل دين على مسلم".
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه، وقد وردت أحاديث صحيحة في "الصحيحين" وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره. وبالسند عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت من القرآن ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]". وعن ابن عباس أيضاً: "كان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوماً". وعن سعيد بن جبير: "أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليالٍ"؛[7] أ.ه-.

خلاصة التفسير:
تلخص من مجموع ما أوردناه في تفسير الآيات ما يأتي:

1 - المراد بأكل الربا جميع التصرفات، وعبَّر عن ذلك بالأكل؛ لأنه الغرض الرئيس وغيره من الأغراض تبع له.
2 - تشبيه المرابي بالمصروع؛ لأن المصروع يتخبط في سيره، فينهض ويسقط، وكذلك آكل الربا يوم القيامة.
3 - تشبيه البيع بالربا مبالغة في جعل الربا أصلاً في الحل والبيعِ فرعاً، والعكس هو الصحيح.
4 - الْمَحْقُ يشمل ما يأتي:
أ - المحق بالكلِّية، بحيث يذهب المال من يد المرابي دون أن ينتفع به.
ب - محق بركة المال مهما كثر، فإن عاقبته إلى قُلٍّ.
5 - إسدال الستر على ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه، فلا يلحق المرءَ تبعتُه.
6 - الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله لها.
7 - الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم.
8 - للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه.
9 - الترغيب في إنظار المعسر، أو إبراء ذمته من الدين.
10 - توجيه الأنظار ليوم القيامة، والتذكير بالوقفة فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال.


مبحث الربا في السنة النبوية:

قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا فيما تقدم من هذا البحث للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة النبوية في موضوع الربا، ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها بما يلي:

1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)؛ رواه البخاري ومسلم.


الشرح:

قوله: ﴿ اجْتَنَبُوا ﴾ [الزمر: 17]؛ أي: ابعُدوا وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151].

قوله: (الموبقات)؛ أي: المهلكات، وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، وفي حديث ابن عمر عند البخاري في "الأدب المفرد"، والطبري في "التفسير"، وعبدالرزاق مرفوعاً، وموقوفاً قال: (الكبائر تسع). وذكر السبعة المذكورة، وزاد (الإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين). إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تَعداد الكبائر.

قوله: (الشرك بالله) هو: أن يجعل لله نداً يدعوه، ويرجوه، ويخافه كما يخاف الله؛ بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، كما في "الصحيحين" عن ابن مسعود: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله. قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)؛ الحديث. وأخرجه الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال ثم أورد الحديث بتمامه وقال: صحيح.

قوله: (السحر)؛ السحر في اللغة: هو ما خفي ولطُف سببه، وقال في "الكافي": "السحر عزائم، ورقى، يؤثر في القلوب والأبدان؛ إلى آخر ما أفاض فيه الشارح - يرحمه الله.

قوله: (وقتل النفس التي حرم الله)؛ أي: حرم الله قتلها: وهي نفس المسلم المعصوم (إلا بالحق)؛ أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها.

قوله (وأكل الربا)؛ تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ الآيات من سورة البقرة، قال ابن دقيق العيد: "وهو مجرب لسوء الخاتمة - نعوذ بالله من ذلك.

قوله: (وأكل مال اليتيم)؛ يعني: التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع.

قوله: (والتولي يوم الزحف)؛ أي: الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة، أو غير متحرِّف لقتال، كما قيد به في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾؛ [الأنفال: 15، 16].

وقوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)؛ أي: المحفوظات من الزنا، والمراد الحرائر العفيفات[8].
2 - حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه"؛ رواه الخمسة، وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: "آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه، إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة".
3 - حديث عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)؛ رواه أحمد.
الشرح:

حديث ابن مسعود أخرجه أيضاً ابن حبان، والحاكم وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: (هم سواء).



وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند النسائي، وعن أبي جحفة، وحديث عبدالله بن حنظلة أخرجه أيضاً الطبراني في "الأوسط" و"الكبير". قال في "مجمع الزوائد": ورجال أحمد رجال الصحيح. ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: (الربا اثنان وستون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه)؛ وهو حديث صحيح. وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه). وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبدالله ابن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه). وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عِرْض الرجل المسلم)؛ وهو حديث صحيح.



وقوله: (آكل الربا ومؤْكله)؛ بسكون الهمزة بعد الميم، ويجوز إبدالها واواً؛ أي: ولعن مُطْعِمه غيرَه، وسمي آخذ المال آكلاً ودافعه مؤكلاً؛ لأن المقصود منه الأكل وهو أعظم منافعه، وسببه إتلاف أكثر الأشياء.



قوله: (وشاهديه)؛ رواية أبي داود بالإفراد، والبيهقي (وشاهديه - أو شاهده).



قوله: (وكاتبه)؛ دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب، أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد.



قوله: (أشد من ست وثلاثين)؛ إلخ يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم؛ ولهذا جعله الشارع أربى الربا، فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة، ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم مَن زنى ستاً وثلاثين زنية، هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل[9].


4 - حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه، فقال: (هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا). فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه، فيقول فيها ما شاء الله، فسأَلَنا يوماً (هل رأى أحد منكم رؤيا). فقلنا لا. قال: (ولكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى أرض مستوية - أو فضاء - فمررنا برجل جالس، ورجلٌ قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقة فيشقه حتى يبلغ فاه، ثم يفعل بشدقة الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به مثل ذلك، قال: قلت: ما هذا؟! قالا: انطلق - واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سرد رؤيته إلى أن قال - فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل قائم بين يديه حجارة، فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج منه رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرده حيث كان، فقلت لهما: ما هذا؟! قالا: انطلق)؛ الحديث أخرجه البخاري، نعرض بعد هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين:

(قالا: أما الرجل الذي رأيت يشق شدقه: فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتُحمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فهو يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة، وأما الرجل الذي رأيته يشدَخ رأسُه: فإن ذلك رجل علَّمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل بما فيه بالنهار، فهو يُعمَل به ما رأيت إلى يوم القيامة، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا)؛ وهذه الفِقرة هي المقصودة من إيراد هذا الحديث[10].



وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا الحديث أو على الفِقرة التي جاء فيه الوعيد لآكل الربا بقوله: "إن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر، الذي هو مثل الدم، ويلقم بالحجارة، وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار، كما ابتلع الحرام في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له، كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها؛ مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه، إلا أن يتوبوا)؛ أخرجه الحاكم، وأبو الشيخ، والمقدسي في "المختارة"، وقد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا، كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضاً تقع فيها يوم السبت فيأخذونها يوم الأحد، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير. وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين[11]؛ أه-.



وحسبنا الأحاديث التي أوردناها عن الربا وبشاعته وعقوبة المرابين ننتقل بعد ذلك إلي:
مبحث حكم الربا في الإسلام:

وقد تقدم من آي الكتاب العزيز، والسنة النبوية ما يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالاً للتردد في ذلك، أو التأويل، ولم يحرِّم الإسلام شيئاً إلا لحكمة واضحة، أو منفعة تعود على العباد، وتبعاً لتحريمه حرم الوسائل المفضية إليه؛ سداً للذريعة؛ فمثلاً حرم بيع العِينة - بكسر العين، وفتح النون - وهي: أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عِينة لحصول العين - أي: النقد - فيها؛ ولأنه يعود إلى البائع عين ماله، واستُدِل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تُراجِعوا دينكم).



ففي هذا الحديث دليل على تحريم هذا البيع، وذهب إليه مالك، وأحمد، وبعض الشافعية قالوا: لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا، وسد الذرائع. قال القرطبي: "لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، وبكون الثمن لغواً"[12]؛ أ ه-. نعود إلى الحديث - المذكور آنفاً (إذا تبايعتم بالعينة)؛ الحديث - لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سندُه يهبط به عن درجة الصحة.



يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة": "هو حديث صحيح؛ لمجموع طرقه، وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً؛ الأولى: عن إسحاق أبي عبدالرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر قال فذكره - أي الحديث - إلى أن قال - أي الشيخ الألباني - روى ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث - وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما وهو الطريق الثانية عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أخرجه أحمد. الثالثة: عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد.



ثم وجدنا له شاهداً من رواية بشير بن زياد الخراساني: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره - أي الحديث - أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير هذا من "الكامل"، وهو غير معروف، في حديثه بعض النكارة. وقال الذهبي: ولم يترك[13]. وجاء في "معالم السنن" توجيه الخطابي لوجهة نظر المحرِّمين للعِينة: قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه؛ أحدها: أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إليه، بل هي من أقرب وسائله، الوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان؛ أحدهما: بيان كونها وسيلة، والثاني: بيان الوسيلة إلى الحرام حرام. فأما الأول فيشهد له النقل، والعرف، والنية، والقصد، وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة إلى أن قال: وأما شهادة العُرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقداً يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال، وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول، مئة بمئة وعشرين وإدخال تلك السلعة تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها مورداً للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العُرْفِ لا يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهِدُ لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة، وإنما القصد الأولُ مئة بمئة وعشرين فضلاً عن علم المتعاقدين ونيتهما؛ ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يُحضِران تلك السلعة تحليلاً لما حرم الله ورسوله.



وأما المقام الثاني: وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام فبانت بالكتاب، والسنة، والفطرة، والمعقول؛ فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم، وقال أيوب السختياني: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل". والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أم شرعية، والخداع حرام، وهذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نَقْلُ الملك فيه أصلاً. وإنما قصده حقيقة الربا.



والطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بأختها أصلاً؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لابد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعاً فتعين الأول.


وليعلم أن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم الفساد والضرر، فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل[14]؛ أه-.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله جملة فتاوى في مسألة بيع العينة؛ منها أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومئتي درهم، فباعه فرساً أو قماشاً بألف درهم واشتراه منه بألف ومئتي درهم إلى أجل معلوم.



فأجاب: "لا يحل له بذلك، بل هو رباً باتفاق الصحابة والعلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأَجْلِ زيادة درهم. فقال: "دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة". وسئل عن ذلك أنس بن مالك. فقال: "هذا مما حرم الله ورسوله". وقالت عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك: "بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب". فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل؛ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.



فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أَوْكَسُهما أو الربا). وفيها أيضاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). وهذا كله بيع العينة. وهو: بيعتان في بيعة، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)؛ قال الترمذي: حديث صحيح. فحرم صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل شيئاً ويقرضه مع ذلك؛ فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض؛ حتى ينفعه، فهو ربا.



وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه رباً، سواء كان يبيع ثم يبتاع، أو يبيع ويُقرض، وما أشبه ذلك، والله أعلم[15].