بسم الله الرحمن الرحيم

الشبهة :

قال تعالى في سورة المرسلات (( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34) هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) )

قال الطاعنون في القران ان هذه الاية تعارض غيرها من الايات الكثيرة التي تصرح بتكلم الكفار يوم القيامة كقوله تعالى ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31))) وقوله تعالى ((قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)) و قوله تعالى (( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21))) وقوله تعالى (( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)))

الرد :

نقول ان قوله تعالى (( هذا يوم لا ينطقون)) ليس وصفا لكل احوال يوم القيامة و انما هو وصف لبعض احواله واوقاته و هذا جائز في كلام العرب حيث تستخدم كلمة يوم في معنى كلمة "اذ" فالعرب اذا اضافت كلمة يوم الى فعل معين انما تريد جزءا او حالا من ذلك اليوم لا كله .

و لنا في هذا دليلان : اولهما لغوي و ثانيهما قرينة من القران الكريم .

اما اللغوي :
نقرا من معجم لسان العرب لابن منظور الجزء الخامس عشر :
((إِذَا : الْجَوْهَريُّ: إِذَا اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ إلَّا مُضافة إِلَى جُمْلَةٍ، تَقُولُ: أَجِيئُك إِذَا احْمَرّ البُسْرُ وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنها اسْمٌ وُقُوعُهَا مَوْقِعَ قَوْلِكَ آتِيكَ يومَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَهِيَ ظَرْفٌ، وَفِيهَا مُجازاة لأَنّ جَزَاءَ الشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَشياء: أَحدها الْفِعْلُ كَقَوْلِكَ إنْ تأْتِني آتِك، وَالثَّانِي الْفَاءُ كَقَوْلِكَ إِنْ تَأْتِني فأَنا مُحْسِنٌ إِلَيْكَ، وَالثَّالِثُ إِذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ))

و نقرا من نفس المصدر الجزء الثاني عشر :
(( وَسُئِلَ أَبو الْعَبَّاسِ أَحمد بْنُ يَحْيَى عَنْ قَوْلِ الْعَرَبِ اليَوْم اليَوْم، فَقَالَ: يُرِيدُونَ اليَوْم اليَوِمَ، ثُمَّ خَفَّفُوا الْوَاوَ فَقَالُوا اليَوْم اليَوْم، وَقَالُوا: أَنا اليَوْمَ أَفعلُ كَذَا، لَا يُرِيدُونَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الوقتَ الحاضرَ؛ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ؛ وَقِيلَ: مَعْنَى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أَي فَرَضْتُ مَا تَحْتَاجُونَ إِليه فِي دِينِكم، وَذَلِكَ حسَنٌ جَائِزٌ، فأَما أَن يكونَ دِينُ اللَّهِ فِي وقتٍ مِنَ الأَوقات غيرَ كَامِلٍ فَلَا. وَقَالُوا: اليَوْمُ يَوْمُك، يُرِيدُونَ التشنيعَ وَتَعْظِيمَ الأَمر. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّائِبَةُ والصدَقةُ ليَوْمِهما أَي ليومِ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي يُراد بِهِمَا ثوابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ..... حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ وَقَالَ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَبْنِيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُه إِلا فِي حَدِّ الْحَالِ أَو الظَّرْفِ. ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ الأَيَّام فِي مَعْنَى الْوَقَائِعِ، يُقَالُ: هُوَ عالمٌ بأَيَّام الْعَرَبِ، يُرِيدُ وقائعَها، وأَنشد:

وقائعُ فِي مُضَرٍ تِسْعةٌ، ... وَفِي وائلٍ كانتِ العاشِرهْ
فَقَالَ: تِسْعة وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُولَ تِسْع لأَن الوَقيعة أُنثى، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلى الأَيّام. وَقَالَ شَمِرٌ: جَاءَتِ الأَيَّام بِمَعْنَى الْوَقَائِعِ والنِّعم. وَقَالَ: إِنما خصُّوا الأَيّام دُونَ ذِكْرِ اللَّيَالِي فِي الْوَقَائِعِ لأَنَّ حُروبهم كَانَتْ نَهَارًا، وإِذا كَانَتْ لَيْلًا ذكرُوها كَقَوْلِهِ:
ليَلة العُرْقوبِ، حَتَّى غامرَتْ ... جَعْفَر يُدْعى ورَهْط ابْنِ شَكَل

وأَما قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
وأَيَّام لَنَا غُرّ طِوال
فإِنه يُرِيدُ أَيّامَ الْوَقَائِعِ الَّتِي نُصِروا فِيهَا عَلَى أَعدائهم، وَقَوْلُهُ:

شَرَّ يَوْمَيْها وأَغْواه لَهَا ... رَكِبَتْ عَنْزُ بِحِدْجٍ جَمَلا
أَراد شَرَّ أَيّام دَهْرِها، كأَنه قَالَ: شَرّ يَوْمَيْ دَهْرِها الشَّرَّيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِن فِي الشَّرِّ خِياراً، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَيْتُ مَعَ بَقِيَّةِ الأَبيات ))

و لهذا يقول الامام الطبري رحمه اله في تفسيره لسورة المرسلات :
(( فإن قال قائل: وكيف قيل: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) وقد علمت بخبر الله عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا وأنهم يقولون: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ في نظائر ذلك مما أخبر الله ورسوله عنهم أنهم يقولونه. قيل: إن ذلك في بعض الأحوال دون بعض.
وقوله: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) يخبر عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله.
فإن قال: فهل من بُرهان يعلم به حقيقة ذلك؟ قيل: نعم، وذلك إضافة يوم إلى قوله: ( لا يَنْطِقُونَ ) والعرب لا تُضيف اليوم إلى فعل يفعل، إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه، وذلك كقولهم: آتيك يومَ يقدمُ فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنى ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك ساعة يقدُم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله، لأن ذلك لو كان أخذ اليوم كله لم يضف اليوم إلى فعل ويفعل، ولكن فعل ذلك إذ كان اليوم بمعنى إذ وإذا اللتين يطلبان الأفعال دون الأسماء. ))

اما القرينة :
فقوله تعالى في سورة المعارج : (( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) ))

فان كان مقدار يوم القيامة خمسين الف سنة كما يصرح الله عز وجل في كتابه فلا شك اذا ان ذلك اليوم يحتوي على احوال و مواقف و تقلبات عديدة فتارة يخرس الكافر و تارة يصيح و يتحسر و تارة ينادي بالويل و الثبور على نفسه - ابعد الله ذلك عنا .

و لذا نقرا من تفسير عبد الرزاق لسورة المرسلات :
((590 - قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عِكْرِمَةَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {§هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] وَقَوْلَهُ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] قَالَ: «إِنَّهَا مَوَاقِفُ , فَأَمَّا مَوْقِفٌ مِنْهَا فَتَكَلَّمُوا وَاخْتَصَمُوا , ثُمَّ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ , فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُونَ» ))

و نقرا من الرد على الجهمية و الزنادقة للامام احمد رحمه الله في المسالة الثانية :
((وأما قوله عز وجل : { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [ 35: المرسلات] ثم قال في آية أخرى { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} [31 الزمر] فقالوا كيف يكون هذا من الكلام المحكم قال هذا يوم لا ينطقون ثم قال في موضع آخر ثم إنكم يوم القيامة ثم ربكم تختصمون فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضا فشكوا في القرآن
أما تفسير هذا يوم لا ينطقون فهذا أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون فذلك قوله : { ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا} [ 12 :السجدة] فإذا أذن لهم في الكلام فتكلموا واختصموا فذلك قوله : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) ثم الحساب وإعطاء المظالم ثم يقال لهم بعد ذلك (لا تختصموا لدي أي عندي وقد قدمت إليكم بالوعيد} [ 28: ق] فإن العذاب مع هذا القول كائن
وأما قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} [ 97: الإسراء] وقال في آية آخرى { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } [50 الأعراف] فقالوا كيف يكون هذا من الكلام المحكم ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ثم يقول في موضع آخر أنه ينادي بعضهم بعضا فشكوا في القرآن من أجل ذلك
أما تفسير : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [ 44: الأعراف] { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضا وينادون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [ 77: الزخرف] { ويقولون ربنا أخرنا إلى أجل قريب} [ 44 إبراهيم] { ربنا غلبت علينا شقوتنا} [ 106 المؤمنون] { فهم يتكلمون حتى يقال لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون} [ 108 المؤمنون] فصاروا فيها عميا وبكما وصما وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة من قول الله
وأما قوله : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [ 101 :المؤمنون]
وقال في آية أخرى : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [ 50: الصافات] فقالوا كيف يكون هذا من المحكم فشكوا في القرآن من أجل ذلك
فأما قوله عز وجل فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فهذا ثم النفخة الثانية إذا قاموا من القبور لا يتساءلون ولا ينطقون في ذلك الموطن فإذا حوسبوا ودخلوا الجنة والنار أقبل بعضهم على بعض يتساءلون فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة ))

و نقرا ما قاله ابن قتيبة رحمه الله في كتابه تاويل مشكل القران باب التناقض و الاختلاف :
((فأما ما نخلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] . وهو يقول في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] .
فالجواب في ذلك: أن يوم القيامة يكون كما قال الله تعالى: مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] ، ففي مثل هذا اليوم يسألون وفيه لا يسألون، لأنهم حين يعرضون يوقفون على الذنوب ويحاسبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة: انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] وانقطع الكلام، وذهب الخصام، واسودّت وجوه قوم، وابيضت وجوه آخرين، وعرف الفريقان بسيماهم، وتطايرت الصحف من الأيدي: فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار.
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] قال: هو موطن لا يسألون فيه.
ومثله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] .
وقوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق: 28] وقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات: 35، 36] ، وهو يقول في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر: 31] ويقول: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111، والنمل: 64] .
والجواب عن هذا كله نحو جوابنا الأول، لأنهم يختصمون ويدعي المظلومون على الظالمين، ففي تلك الحال يختصمون، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم قيل لهم:
لا تختصموا ولا تنطقوا، ولا تعتذروا، فليس ذلك بمغن عنكم ولا نافع لكم، فيخسؤون ))

هذا وصلى الله على سيدنا محمد و على اله وصحبه وسلم