وقد ذكر العلامة ابن القيم×في كتابه (شفاء العليل) أموراً عجيبة من هذا القبيل، فقد تحدث عن هداية النحل بما يأخذ بالألباب، ويزيد إيماناً برب الأرباب (1) .
حيث تحدث عن اتخاذها اليعسوبَ أميراً، وعن طريقة ولادتها، ورعيها، ودقة تنظيمها، وتوزيعها المهام على فرق شتى، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه، ومنها فرقة تهيِّيء الشمع وتصنعه، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل.
وإذا رأت النحل بينها نحلةً مهينةً بطالةً قطَّعَتْها، وقتلتها؛ حتى لا تفسد عليهن بقيةَ العمال، وتُعْديهِنَّ ببطالتها ومهانتها.
__________
(1) انظر شفاء العليل، ص144_164.
(1/12)
________________________________________
ثم تحدث×عن طريقة بنائها البيوت، فقال: ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية، كأنها سككٌ ومحالٌّ، وتبني بيوتها مسدسةً متساويةَ الأضلاع، كأنها قرأت كتاب =إقليدس+ حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضاً حتى يصير طبقاً واحداً محكماً، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناءَ المحكمَ+.
ثم تحدث عن طريقة خروجها للمرعى، وادخارها للكسب ثم قال: =وفي النحل كرامٌ لها سعيٌ وهمةٌ، واجتهادٌ، وفيها لئامٌ كسالى قليلةُ النفع مؤثرةٌ للبطالة؛ فالكرام دائماً تطردها وتنفيها عن الخلية+.
وفي ختام حديثه عنها قال: =ولما كانت النحل من أنفع الحيوانات وأبركها، قد خُصت من وحي الرب_تعالى_وهدايته بما لم يَشْرَكْها فيه غيرُها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام_كان أكثر الحيوان أعداءها، وكان أعداؤها من أقل الحيوانات منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم+.
ثم تحدث_أيضاً_عن هداية النمل (1) قائلاً: =وهدايتها من أعجب شيءٍ؛ فإن النملةَ الصغيرةَ تخرج من بيتها وتطلب قُوْتَها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته، وساقته في طرق معوجة بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ في غاية التوعر، حتى تصلَ إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقِهِ باثنتين فَلَقَتْه بأربع، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها.
ولا تتغذى منه نملة مما جمعه غيرها.
__________
(1) انظر شفاء العليل، ص147_151.
(1/13)
________________________________________
ويكفي في هداية النمل ما قاله الله_سبحانه_في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ] (النمل: 18) .
فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه مَنْ خاطبته، ثم بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس؛ إرادة للعموم، ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب الدخول؛ خشية أن تصيبهم معرةُ الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك.
والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل، ولها صدق الشم، وبعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائداً يطلب الرزق، فإذا أوقف عليه أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعاتٍ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحبها.
وهذا الهدهد من أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، ولا يراه غيره.
ومن هدايته ما قصه الله عنه في كتابه؛ مما قاله الهدهد لسليمان_عليه السلام_وقد فقده، وتوعده، فلما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هَيَّجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال: [أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ] وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفْتُهُ بحيث أُحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن؛ فلذلك قال: [وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ] (النمل: 22) .
والنبأ هو الخبر الذي شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لاشك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ اسْتَفْرَغَتْ قَلْبَ المُخبَر لتلقي الخبر، وأوْجَبَتْ له التشوقَ إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال، وخطاب التهييج.
(1/14)
________________________________________
ثم أخبر بباقي القصة عن بلقيس وقومها، وبين بطلان ما هم عليه من عبادة الشمس.
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، قال الشافعي: أعقل الطير.
وبُرُدُ الحمامِ هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره.
وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين، وهو موصوف باليمن والإلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه مسافات بعيدة، وربما صُدَّ فترك وطنه عشرَ حججٍ وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعةً عاد إليه.
أما طريقة سِفاده وجمعه عِشَّه، واعتنائه ببيضه وصغاره_فهي من أعجب العجب، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) أوجه شبه كثيرة بين الإنسان والحمام.
ومن عجيب هداية الديك الشاب أنه إذا أُلْقِيَ له حبٌّ لم يأكلْه، حتى إذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبَّاً ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرماً؛ فإن الديك الشاب يفرق الحب؛ ليجتمع الدجاج فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه.
ومن عجيب أمر الثعلب أن ذئباً أكل أولاده وكان للذئب أولاد، وهناك زبية، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سرداباً يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب، فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَتُه هرب قُدَّامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءه، فلم يجده ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.
ومن عجيب أمره أنه رأى رجلاً ومعه دجاجتان، فاختفى له، وخطف إحداهما، وفَرَّ ثم أعمل فكره في أخذ الثانية، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه ما يشبه الطائر، وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر، فظن الرجل أنها الدجاجة، فأسرع نحوها، فخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب.
(1/15)
________________________________________
ومن هداية الحمار_وهو من أبلد الحيوان_أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله في البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه.
ثم إنه يُفرِّق بين الصوت الذي يُسْتَوْقَفُ به، وبين الصوت الذي يُحث به على السير.
ومن عجيب أمر الفأرة أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة فَنَقَصَ، وعَزَّ عليها الوصولُ إليه_ذهبت وحملت في أفواهها ماءً وَصَبَّتْهُ في الجرة؛ حتى يرتفع الزيت فتشربه.
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.
وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال_تعالى_: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان: 44) .
قال أبو جعفر الباقر: =والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلاً منها+.
قيل لرجل: مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟.
قال: مَنْ علم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.
وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك السكونَ، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟.
فقال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وَثَبَتْ عليها كالأسد.
وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟.
قال: مَنْ علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلباً حثيثاً حتى تجيء الواحدةُ منهن، فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فَرَّقه ها هنا وها هنا وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود؛ فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.
(1/16)
________________________________________
ومَنْ علَّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقْتَفَى أثره ويُطلب؟ عَفَّى مِشْيَته بذنبه؟!.
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟ !.
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وَقْتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء، فتلدَ فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع، أو ينشق، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم؟ !.
ومَنْ علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟!.
ومَنْ علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَباً بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة حتى قيل فيه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي **** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

وهذا باب واسع جدَّاً، ويكفي فيه قوله_سبحانه وتعالى_: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] (الأنعام: 38) .
قال مجاهد: =أمم أمثالكم+ أصناف مصنفة تُعْرف بأسمائها. وقال الزجاج: =أمم أمثالكم+ في أنها تبعث، وقال ابن قتيبة: =أمم أمثالكم+ في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتَوَقِّي المهالك، وقال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم يعدو كعدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب لعافته، فإذا قام الرجل من رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ منها واحدة وإن أخطأ رجلٌ تروّاه وحفظه.
(1/17)
________________________________________
وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها_سبحانه وتعالى_وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته؛ فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل، وحسن التدبير، والتَّأتي لما تريده_ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته، ومعرفة حكمته، وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدىً، وأن له حكمةً باهرةً، وآيةً ظاهرة، وبرهاناً قاطعاً، يدل على أنه رب كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه المنفرد بكل كمالٍ دون خلقهِ، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (1) .
هـ _ دلالة الآفاق: