الفرع الثاني

أدلة براءة يوسف عليه السلام

نسوق خمسة عشر دليلاً على براءة يوسف عليه السلام
الدليل الأول
لو أن يوسف عليه السلام قد مال إلي امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، فلماذا أعرض منذ البداية عندما راودته؟ ، ولماذا لم يحدث والطريق ممهد له بغلق الأبواب ؟ ، وامرأة العزيز في كامل زينتها، ولم يكن معهما أحد، وزيادة على ذلك أنها هي التي دعته إليها.
الدليل الثاني
لماذا ذكرها يوسف بالله، ثم بالرجل الذي رباه، ثم بسوء العاقبة بعد ذلك، أم أنه كان اعتراضا واهيا؟.
الدليل الثالث
لماذا كان همها هي سابقا لهمه للفعل؛ إن كان قد مال إليها وخارت قواه أمام إغراءاتها؟.
فالأولى إن كان ضعف أمامها أن يكون هو المبتدي بالهم، وتكون الآية (وهم بها وهمت به) لأن المرأة لها صفة الإغراء والدعوة، وتترك للرجل أن يبدأ هو بباقي الأمور من بداية الهم حتى النهاية.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤
المتأمل في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا، أي كان همها سابقا لهمه.
ونعود لسؤالنا: لماذا كان همها هي سابقا لهمه؟.
هناك سببان لهمها:
السبب الأول: أنها قد وجدت فيه ضعفا فأرادت أن تشجعه وتخرجه من حالة الضعف هذه.
السبب الثاني: أنها قد وجدت فيه إعراضا قويا فأرادت أن تجبره على الفعل بالقوة.
فإلي أي السببين نميل؟.
وهذه هي إحدى الدلائل القوية على براءة يوسف من الهم بها لعمل الفاحشة، وأن يوسف أصلا لم يمل إلى امرأة العزيز ولم تحدثه نفسه بعمل الفاحشة.
وعلينا أن نذكر هنا أيضا أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ، والمدقق في قوله تعالى يلاحظ أنه جل علاه لم يقل ] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]،..
فلماذا قال سبحانه وتعالى ] وَلَقَدْ]؟.
لأن كلمة ] وَلَقَدْ]، تأتى هنا لتعطى إحساسا بقوة الهم منها ولتأكيده.
أما قوله ﴿ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا،.. فقط، فتعطى انطباعا برعونة الهم بينهما وأنه من المحتمل أن يكون عليه السلام قد مال إليها بالفعل.
الدليل الرابع
تربية يوسف في بيت امرأة العزيز منذ صغره عندما عهد به العزيز إلى زوجته فكان عمره لم يتعدى أصابع اليد الواحدة، وتربى يوسف في بيت المرأة، وكبر يوسف وهو يجعلها مثل أمه، فهل إذا تربى أحد في بيت ما منذ صغره؟ فهل عندما يكبر سيميل شهوانيا إلى من ربته مهما كانت المغريات ؟، اللهم إلا إذا كانت تربيته كانت سيئة، وهذا البيت سيء، فقد يكون بيت العزيز سيئا، فهل كانت تربية يوسف عليه السلام سيئة ؟، إن يوسف عليه السلام قد تربى على أعين الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا قوله تعالى في يوسف 21:
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يوسف: ٢١.
وقوله تعالى 22: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف: ٢٢.
الدليل الخامس:
اعتصامه بالله وتذكيره لامرأة العزيز بأن ربه لا يرضى بهذا الفعل ولم يأمر به:
قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يوسف: ٢٣
ولك أن تتأمل قول يوسف عليه السلام في هذا المقام: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ..
ثم تذكيره لها بزوجها الذي له الفضل عليه وعليها ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ .
ثم وصل به الأمر إلى أن يهددها بعاقبة الأمور ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ .
كل هذا في وقت واحد، وموقف واحد، ولا يوجد فترة زمنية للتروي ومراودة النفس للفعل، ثم ينقلب الموقف فجأة وبدون مقدمات ليهم بها لعمل الفاحشة، كيف هذا؟ مع أن كل الذي قاله يوسف من أعذار شديدة، مقدمات لعدم الفعل.


الدليل السادس
حديث النفس للفعل يأخذ وقتا ومراودة مع النفس حتى يقتنع الإنسان بعمل الشيء، والموقف مع امرأة العزيز لم يأخذ وقتا حتى لمراودة النفس.
الدليل السابع
اختلاف العلماء والمفسرين في البرهان الذي أعطاه الله ليوسف ولم يدل حديث شريف على هذا البرهان، ولكنه اجتهاد علماء ومفسرين ليس له دليل قاطع.
والبرهان كما يقول الإمام الشعراوي في خواطره: هو الحجة على الحكم.
أو هو الإثبات بدليل، والدليل إما أن يكون بالقرآن واضحا، أو من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بالاستنباط من القرآن أو السنة النبوية الشريفة أو منهما معا، ونحن هنا نتكلم عن نبي له عصمته من الله سبحانه وتعالى فيجب أن يكون كلامنا مدعم بكل ما سبق.
فيقول رب العزة: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
﴿ كَذَلِكَ أي من أجل أن يوسف صبر على فتنة امرأة العزيز ولم يميل إليها وساق إليها الحجج لكيلا يفعل الفاحشة معها واعتصم بالله، فإننا سنصرف عنه سوء يصيبه من وراءها، وسنعود لهذه النقطة فيما بعد. ﴿ لِنَصْرِفَ لنبعد.
﴿ السُّوءَ هو وصم الإنسان بعمل شائن، أو بصفة تشينه، مثل انه (سارق ـ زان ـ كاذب ـ مرتش.... الخ)، أو أن نقول عنه أنه حاول أن يفعل كذا، مما يصيبه هذا السوء، كأن نقول مثلا أن هذا الشخص سرق أو حاول السرقة فإننا بهذا نكون قد أسأنا إليه، وذلك لينال عقوبة ما، إما في سمعته وهذه إساءة نفسية أو في بدنه.
﴿ وَالْفَحْشَاء هي فعلة الزنا حيث يقول رب العزة:
قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً الإسراء: ٣٢.
الدليل الثامن
علينا هنا أن نقرأ الآية جيدا: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
وعليه فإننا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أنزل الله الآية بهذا المنطوق وبهذا الترتيب؟، أي قدم صرف السوء على الفحشاء، وفي هذا ملمح مهم:
إن كان يوسف قد مال إلى امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، ثم رأى برهان ربه الذي منعه عن الفعل، فإن الله في هذه الحالة قد صرف عنه فعل الفاحشة.
ويكون منطوق الآية: ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ َالْفَحْشَاء) فقط.
وأما إذا كان الله يريد أن يصرف عنه الفحشاء كي لا يصيبه سوء بعد ذلك، فإن منطوق الآية يكون:
(لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْفَحْشَاء والسُّوءَ)، لأن الفحشاء هنا مقدمة في محاولة الفعل على السوء الذي كان سيصيبه بعد ذلك. ولأن الله هو المتكلم فإن كل أية، وكل كلمة، بل وكل حرف في القرآن الكريم موضوع بحساب وميزان دقيق، لكي يؤدى المعنى والغرض الذي يريده الله منه ويهدف إليه.
إذا فعلينا أن نعمل عقولنا، ولنقرأ الآية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
ونعود لسؤالنا لماذا قدم الله السوء على الفحشاء؟
والإجابة في الآية التالية والله تعالى أعلم.
قال تعالى: ﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف: ٢٥
فإن كان يوسف قد مال إليها، وحاول فعل الفاحشة، فإنه قد أراد بأهل العزيز سوءا بالفعل، ومحاولة خيانة العزيز في أهله، مهما كانت هي أغوته أو لم تغوه.
ولأنه لم تحدثه نفسه بهذا، فإن الله قد صرف عنه هذا السوء بإظهار براءته:
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يوسف: ٢٨
ويأتي تأكيد براءته في الآية التالية على لسان العزيز نفسه، قال تعالى: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يوسف: ٢٩
وعلى هذا فإن السوء الذي سيصيب يوسف يأتي من فرية تفتريها عليه امرأة العزيز في جريمة لم يرتكبها ولم يفكر فيها. هذا عن السوء، ولكن ماذا عن الفحشاء؟
الفحشاء يأتي ذكرها في الآية33من نفس السورة: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ يوسف: ٣٣
وذلك بعد أن تكالبت عليه النسوة، وهددته امرأة العزيز بالعقاب إن لم يفعل معها الفاحشة:
قال تعالى:
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢
ويأتي صرف الفحشاء في الآية 34حيث قال رب العزة :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف: ٣٤
لبى الله نداء يوسف واستغاثته به حيث يقول رب العزة في سورة النمل 62:
﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) النمل: ٦٢
وكأنني أشعر أن هذه الآية قد أنزلت في نبي الله يوسف خاصة لأنه فعلا كان في حالة المضطر المستغيث، ولأن يوسف عليه السلام لم يكن في حالة استغاثة أو اضطرار في قوله:
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف: ٢٣
لأنه كان في حالة تنبيه وتذكير لامرأة العزيز ، ولم يكن هناك اضطرار إلي الاستغاثة والركن الكامل ، ولكن كان أمامه خيارات كثيرة ، ووقت متسع ، وحيل للهرب من الموقف الذي كان فيه من قبل .
أما في هذا الموقف فان يوسف قد أحيط به، ولا يوجد مخرج له، فإما الفعل، أو السجن والصغار، ولا يوجد خيار أخر، فكان لابد من الركن إلي الله وهو مضطر.
وهنا يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن العبد يجب عليه أولا أن يعمل عقله الذي خلقه الله له في الأزمات للخروج منها ، فإذا ما استعمل الإنسان عقله ، فان الله سيهديه إلي برهان للخروج من مأزقه ، كما فعل يوسفu وهداه الله لحيلة الهروب إلي الباب ، ولكن إذا استنفذ العبد كل حيله وأحيط به ، فعليه أن يلجأ إلي من هو أقوى منه ومن الموقف الذي هو فيه ، فان الله سبحانه وتعالى سيخرجه منه بقدرته ولكن أن نركن إلي الدعاء فقط ولا نحاول أن نفكر للخروج من مما نحن فيه ، ونقول أن الله سبحانه وتعالى سيخرجنا مما نحن فيه ، فهذا يعتبر تواكلا .﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف: ٣٤
فصرف الله عنه ما كانت امرأة العزيز والنسوة يمكرون على فعله معه.
أما كيف صرف الله عنه كيد النسوة ، فهي من آيات الله التي لم يبين لنا أحد من المفسرين وعلمائنا الأجلاء كيف صرف الله هذا الكيد.
ظهر للعزيز وحاشيته أن يوسف بريء، وأن أخلاقه، وأدبه، ودينه لا غبار عليه، ولكن وجوده فيه فتنة على نسائهم، إذا فعليهم أن يتخذوا موقفا لدرء هذا الخطر.
وكان القرار حبس يوسف عليه السلام فترة من الزمن حتى تموت هذه الفتنة.
الدليل التاسع شهادة إبليس نفسه عليه اللعنة ليوسف عليه السلام.
قال تعالى في الآية التي نحن بصددها:
﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف: ٢٤، والمخلصين كما قال العلماء إما بفتح اللام، وهم من استخلصهم الله لنفسه أو بكسر اللام، وهم الذين اخلصوا دينهم لله.
فهل عبد مخلص لله، أو استخلصه الله لنفسه، يقع بالتفكير في معصية أو فاحشة ويقع في براثن الشيطان، مع أن الله يقول في كتابه الكريم على لسان الشيطان في سورة ص:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ص: ٨٢ - ٨٣
فاستثنى لعنة الله عليه عباد الله المخلصين من مجرد الغواية فيقول القرطبي:
فمعنى: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ لاستدعينهم إلى المعاصي.
ويقول الإمام الشعراوي:
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغواية، فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عن غوايته ولا يجرؤ على الاقتراب منه. والغواية هي وقوع المعصية في النفس وإن لم يفعل.
ويوسف عليه السلام نبي أخلص الدين لله، واستخلصه الله لنفسه، فكيف يقع في براثن الشيطان ويميل إلى امرأة العزيز ويهم بعمل الفاحشة معها.
الدليل العاشر عصمة الأنبياء
إن الله قد عصم الأنبياء جميعا من مجرد الوقوع في الخطيئة، أو الاقتراب منها، أو التفكير فيها ، ولكن جل تفكيرهم في عظمة الله سبحانه وتعالى ، واخذ الأشياء بحلالها وليس بحرامها مهما كانت المغريات ، لأن الله جعلهم قدوة وأسوة للبشر في أفعالهم ليقتاد بهم الناس ، فإن كان يوسف عليه السلام قد حدثته نفسه بفعل الفاحشة ، فإن هذا يكون دليلا لكل إنسان ضعيف الإيمان تحدثه نفسه بالفاحشة ويذعن لها ثم يجعل لنفسه حجة بأن الله لم يريه دليلا أو برهانا للكف أو الابتعاد عنها كما أرى يوسف برهان ربه فارتدع وابتعد .
وبعد كل ما ظهر من الأدلة السابقة واللاحقة في أن يوسف عليه السلام لم يهم بعمل الفاحشة مع امرأة العزيز ولم يفكر فيها.
إذا فعلينا أن نعرف ما الذي حدث أو على الأقل نتصوره، وقبل هذا علينا أن نحلل البرهان بعد أن عرفنا معناه.
قلنا من قبل أن البرهان هو كما قال الإمام الشعراوي، هو الحجة على الحكم، أو هو إثبات الشيء بدليل، أي أن البرهان هو دليل إثبات لقضية أو لحكم.
فإما أن يأتي ماديا ليثبت هذه القضية.
أو أن يأتي عقليا: كأن تنشغل بقضية ما تهمك ولا تجد لها حلا، فتهم بعمل ما قد يكون فيه ضرر لك، ولكن تأتى إليك فكرة أخرى للخروج من هذا المأزق أو هذه القضية، فتقول لقد كدت أن أفعل كذا، لولا أن الله ألهمني لأبتعد عن هذا الفعل وأفعل غيره.
ونقول كما قال العلماء والمفسرين، لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكن هم بماذا؟
فإن الهم هنا، هو القضية التي تباحث فيها العلماء، وأدت إلي الفهم بأن هم يوسف هو لفعل الفاحشة.
ولنتصور ما حدث على ضوء الأدلة:
اشتد إلحاح امرأة العزيز على يوسف عليه السلام وزاد سخطها وغضبها، فماذا تفعل مع هذا الرجل الواقف أمامها، وتطلب منه فعل لو طلبته من الملوك لأجابوها إليه، ولكن أمامها نوع آخر من الرجال لم يرفض طلبها وحسب، ولكنه يناطحها بالحجج التي تمنعه من الفعل.
فما كان عليها إلا أن تجبره على الفعل ولو بالقوة، فهمت بالانقضاض عليه لتمسكه من قميصه مِنْ قُبُلٍ (أي من الإمام) لتشده إليها أو لتجذبه نحوها، (وعندما نقول همت معناه أنها لم تصل إليه بعد ولم تمسكه)، فما كان من يوسف إلا أن هم ليردها عنه، ويدافع عن نفسه، وكاد أن يلمسها من قميصها، عندما وجد في وجهها هذا الهم ولكن جاءه إلهام رباني (البرهان):
أن يا يوسف لا تمدن يدك عليها لتدفعها عنك، ولا تلمسها، ولكن أدر لها ظهرك بسرعة، واهرب من أمامها، واتجه إلى الباب، فإنا منجوك من سوء يلحقك إن لمستها، ودليل ذلك القميص وسيأتي شرحه وتوضيحه في الآية التالية 25:
قال تعالى:
﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف: ٢٥
بسرعة أدار يوسف ظهره لامرأة العزيز وولى هاربا إلى الباب ليفتحه، فوجدت امرأة العزيز نفسها في موقف لا تحسد عليه، إن خرج يوسف من هذا المكان سيفتضح أمرها، ولن يفعل ما تأمره به وهي في هذه الحالة من السعار، ولن يكون لها القدرة بعد ذلك في التعامل معه.
إذا ماذا تفعل؟ عليها أن تمنعه من الهرب، وعليه أن يفعل ما تأمره به، لكيلا يستطيع بعده إفشاء سرها.
بسرعة جرت وراء يوسف لتمنعه من الخروج، وتمنعه من الباب، فأمسكت بقميصه من الخلف لتجذبه إلى الوراء، ولكن يوسف شاب وقوى، فمع اندفاع يوسف وجذبها للقميص من الخلف، انحنى ظهر يوسف للأمام ليعطى نفسه قوة في الاندفاع للهرب ومعالجة الباب لفتحه، انقطع القميص من الخلف وتمكن يوسف من فتح الباب.
وكانت المفاجأة، فإذا بزوجها أمام الباب.
أدركت امرأة العزيز أنها في ورطة وإن لم تخرج منها بسرعة فسوف يدرك زوجها ما حدث.
رجل يفتح الباب، وهذا الرجل ليس ككل رجال القصر، إنه يوسف الذي رباه ويعرف أخلاقه.
وامرأته وراءه وليست أمامه، والمنظر العام ليس حسنا.
إذا فعليها أن تخرج بسرعة من هذه الورطة، فكان لابد من استحضار مكر المرأة وخداعها، واستثماره في هذه اللحظة لتبعد عنها الشكوك ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، يوسف 25.
ألقت على يوسف تهمة هو بريء منها فألحقت به سوءًا، باتهامه بمحاولة فعل الفاحشة معها.
وأرادت به سوءًا بأن يسجن أو يعذب.
وهذه قدرة عجيبة في الخروج من المأزق الذي صنعته هي، ثم تلحق التهمة بالبريء، ثم تحدد العقوبة، بل وتفرضها على زوجها لكيلا يتحقق مما حدث، ولتجعله يصدقها.
الشاهد
قال تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِيوَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) يوسف: ٢٦
وجد يوسف نفسه قد تورط في قضية لم يكن هو السبب فيها، فلم يفعلها، أو يسعى إليها، أو يفكر فيها أصلا.
ذهل يوسف من القدرة الغريبة في لي الحقيقة، وهذا ما نقابله ونعيشه في هذه الأيام من لي في الحقائق، فأصبح البريء متهما ، والمجرم بريئا، وأكل الحقوق افتخارا، وضاعت الحقوق بين الناس ، وامتلأت المحاكم بالقضايا ومحامون درسوا القانون ليتلاعبوا به وبألفاظه ، وليس للدفاع عن المظلوم وإعطاء الحق لأصحابه ، وهم يعلمون الحقيقة من موكليهم ، فماذا يا ترى سيفعل الله بهم يوم القيامة ، أفيقي يا أمة الإسلام .
فلم يكن أمام يوسف من دفاع عن نفسه إلا جملة واحدة ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي
إننا نجد هنا أن يوسف قد بدأ كلامه بكلمة ﴿ هِيَ
أي بضمير الغائب كأنها غير موجودة ولم يزد أو يسترسل في حديث طويل لا طائل من ورائه، وفيه أدب، ووجه كلامه إلي من اتهم عنده، ومن يهمه الأمر، ولم يلتفت إلي المرأة، لأنها ابتدأت الحديث بالكذب، فلم يوبخها، أو يؤنبها، أو يكذبها، ولم يقسم بأنه لم يفعل هذا الأمر ولكنه أوجز في الحديث
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي .
صمت العزيز ولم يتكلم، إنه في موقف صعب، هناك تعارض في القول، فكلا الطرفين عزيز عنده.
المرأة: زوجته.
ويوسف هو من رباه ويعرف أخلاقه.
وكلاهما قريب من نفسه، فماذا يفعل؟.
إن صدق زوجته في اتهامها ليوسف، وأصدر حكمه كما أمرت زوجته، ثم تظهر براءة يوسف بعد ذلك فقد يندم على حكمه الظالم، ولكن الموقف الذي رآه فيه شك من كلام زوجته.
وإن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه، قد تكون زوجته صادقة في اتهامها.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) يوسف: ٢٦
فكان لابد من عرض الأمر على شخص قريب منه، على درجة عالية من الحكمة والعقل، ويزن الأمور بميزان الحق والعدل ويطمئن إلي حكمه.
ليس هذا فحسب ولكن يجب أن يكون قريبا لزوجته أيضا، أي من أهلها، لأنه سيكتم فضيحتها إن كانت هي المخطئة، وإن كان يوسف هو المخطئ فسوف يحكم عليه وينتهي الأمر.
تم عرض الأمر على الشاهد أو من سيعطى حكمه في هذه القضية.
فماذا قال الرجل: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) يوسف: ٢٦
أي أن القميص الذي يرتديه إن كان قطع من الأمام، فإنها تكون صادقة في كلامها، لأنه في هذه الحالة تكون المواجهة، ويكون هو مقبلا عليها ومحاولا الاعتداء عليها، وتكون هي مدافعة عن نفسها ، فتدفعه عنها ، فيقطع القميص من الإمام ، ويكون هو كاذبا في هذه الحالة.
الدليل الحادي عشر الشاهد مرة أخرى
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) يوسف: ٢٧
أي وإن كان القميص قطع من الخلف، فإنها تكون كاذبة في ادعائها، وكان هو صادقا في كلامه، وبرهان ذلك أن ظهره كان لها وهي وراءه.
فما الذي دفعها لتقطع قميصه من الخلف.
اللهم إلا إذا كانت هي الطالبة له، وهو في حالة فرار منها، مما أدى إلى قطع القميص من الخلف من شدة اندفاعه وفراره منها.
أليس هذا دليل دامغ وبرهان ما بعده برهان، على أن برهان ربه هو إيحاء من الله إلى يوسف، بعدم الدفاع عن نفسه، وألا يلمس المرأة، ولكن عليه أن يعطى لها ظهره بسرعة ليهرب من أمامها.
لأنه في هذه الحالة كان ستحدث مواجهة بين الاثنين (يوسف وامرأة العزيز)، فكانت ستمسك به من الأمام وسيحاول هو الإفلات منها مما كان سيؤدى إلى قطع القميص من الأمام.
وعلينا أن نتصور ما كان سيحدث إن كان يوسف قد مال إليها وهم بالمعصية:
فهل كانت ستتركه بعد هذا الهم، وأصبح في متناول يديها ؟.
أم أنها كانت ستقبض عليه بسرعة قبل أن يذهب من أمامها، وتمسك بقميصه من أمام ويكون هناك مشادة بينهما وتكون مواجهة، وكان سيقطع القميص من قبل.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى، أن يضع برهان البراءة في آية منفصلة، ولم توصل بالآية السابقة، لنتدبر آياته سبحانه، ولا نمر عليها مر الكرام.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى علمنا كيفية استنباط الأحكام بالأدلة المادية والعقلية.
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يوسف 28.
وجد العزيز نفسه أمام موقف يجب أن ينسى، ولا يذكر مرة أخرى، وإلا سينتشر الأمر، وستكون فتنة، وتلوك الألسن سيرة زوجته، وسيرته وقد يفقد منصبه جراء ذلك، فأراد أن تموت هذه الفتنة في مهدها، وليحمى سمعته من القيل والقال، بحيث تكون الأمور طبيعية وهذا من طبيعة علية القوم دائما.
من هنا اتخذ العزيز موقفه لكيلا يفتضح بيته، فقال ليوسف بصيغة الأمر:
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) يوسف: ٢٩
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا، أي عليك يا يوسف أن تنسى هذا الأمر نهائيا ولا تحدث به أحد.
ثم وجه حديثه لامرأته موبخا إياها: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ أي اطلبي الصفح والعفو والغفران لأنك أذنبت ذنبا شديدا.
لأنه ما كان لك وأنت امرأة العزيز أن تقعي في مثل ما تقع فيه سائر النساء.
الدليل الثاني عشر
قول الإمام الشعراوي تعقيبا على الآية السابقة:
وبهذا القول من الزوج أنهى الحق سبحانه هذا الموقف عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يقر أن امرأته قد أخطأت ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر ليكتمه.
مكر النسوة
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) يوسف: ٣٠
انتشر الخبر في المدينة بالكيفية التي أخبر بها العلماء، وبدأت النسوة تتكلم وتلوك سيرة امرأة العزيز
﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ
وكلمة ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ هي إكبارا لها وتصغيرا لفعلها.
إكبارا لها لكونها امرأة العزيز، وتصغيرا، لأنها وهي في هذه المكانة العالية، وتطلب فعل الفاحشة مع أحد الخدم في القصر.
ولأن فعلها هذا يضعهن في موضع الحرج أمام خدمهن وعلى هذا قلن:
﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ أي أنها لا يمكن أن تفعل هذا الفعل، إلا إذا كان حبه قد تمكن منها، ووصل هذا الحب إلى شغاف قلبها، وحبها هذا قد أوصلها إلى الضلال، ولم تعد تدري ما تفعل.
يقول فضيلة الشيخ الشعراوي في خواطره: وما قلناه هو الحق، لكنهن لم يقلن ذلك تعصبا للحق أو تعصبا للفضيلة، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
وأردن أيضا شيئا آخر، أن ينزلن امرأة العزيز من كبريائها، وينشرن فضيحتها فأتين بنقيضين، لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
وقالت النسوة: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً .
وقسم فضيلته الحب إلى منازل:
(الهوى ـ التعلق ـ الكلف ـ العشق ـ التدله ـ الهيام ـ الجوى) وقد شرحها فضيلته بإسهاب في خواطره.
قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) يوسف: ٣١
وصل إلى امرأة العزيز ما تناقلته نسوة كبار القوم، وعلمت أنهن يمكرون بها ويسيئون إليها في أحاديثهن.
ويستمر الإمام الشعراوي في قوله:
المكر هو ستر شيء خلف شيء، كأن الحق ينبهنا على أن قولتها ليس غضبة للحق ولا كرها للضلال الذي قامت به امرأة العزيز ولكنهن أردن شيئا آخر، وهو أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها وينشرن فضيحتها.
وعلى هذا بدأت امرأة العزيز تفكر في مكر أقوى وأشد، لتظهر ما في أنفسهن وفى نفس الوقت يكون ردا عليهن ودفاعا عن نفسها.
أرسلت إليهن، وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا مجهزا بالمفارش ومخاد ومساند ليستندن إليها ويكن في حالة استرخاء تام.
الدليل الثالث عشر
مازال المتحدث هو الإمام الشعراوي
وهذا دليل براءة آخر على لسان إمام الدعاة لنبي الله يوسف عليه السلام حيث يقول رضي الله تعالى عنه:
وكان الاعتراف: ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ وكلمة ﴿ حَاشَ هي للتنزيه، هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي، أو أنهن قد نزهن صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز.
الدليل الرابع عشر
اعتراف امرأة العزيز
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢
وجدت امرأة العزيز ما حدث للنسوة فقالت لهن معاتبة، وشامتة في النسوة، ومعترفة، ومصرة على الفعل، في آن واحد. أي أن هذا هو من قلتن فيه: ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) يوسف: ٣٠، ولقد وصلني ما قلتن في، عنى وعنه فأردت أن أريكن إياه، فإنكن ومن نظرة واحدة، تاهت عقولكن ولم تدرين ما تفعلن وقطعتن أيديكن انبهارا لجماله، فما بالي أنا التي أعيش معه ليل نهار.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة للانقضاض عليهن والاعتراف بل والتباهي بما حدث منها:
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وذلك خلافا لما قالت من قبل:
﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )25) يوسف: ٢٥
الدليل الخامس عشر:
يقول رب العزة على لسان امرأة العزيز ﴿ فَاسَتَعْصَمَ وهذا دليل أخر من الأدلة الدامغة، على أن يوسف لم يمل إلى امرأة العزيز شهوانيا ولم يهم بعمل الفاحشة.
لأنه باعترافها هي قالت: ﴿ فَاسَتَعْصَمَ لم تقل ] ولكنه استعصم]، فهناك فرق كبير بين الكلمتين لأن الفاء هنا تعطى سرعة رد فعل يوسف بالرفض لفعل الفاحشة وشدته، وأن اعتصامه ورفضه لم يأخذ وقتا للمراودة مع النفس يفعل أو لا يفعل.
ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف، فأعلنت تحديها له: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢.
فأصبح الطلب مكشوفا، ومفضوحا، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره، إلى السجن، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة.
وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد، وهو من اختبار الله له، واختبار لإيمانه وصبره، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد.
فالمرأة مازالت مصرة على الفعل، وهذه المرة ليست كسابقتها، فإن لم يفعل فالسجن أمامه، وليس السجن فقط، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغدة، إلى منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة، وهو غير معتاد على هذا.
أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز، وينزل إلى منازل الصاغرين، هل من أجل ليلة مع امرأة، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها.. ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف: ٢٤.
أصبح يوسف في موقف صعب، وهو على مفترق طريقين.
أحدهما فيه هناء الدنيا وردغها ونعيمها، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة، ولكن فيه غضب الله سبحانه، والآخر فيه السجن، والشقاء، والعذاب، والتصغير من الشأن في الدنيا، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى، ونعيم الآخرة..
والكيد: هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن.
ولكن يوسف له رأى أخر: وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
حسم يوسف أمره، واتجه إلي الله بالدعاء حيث قال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف: ٣٣.
هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه، ولم يتكلم عن امرأة العزيز على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢ .
وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى، ولكن تكالب النسوة عليه، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يوسف: ٣٣.
أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له، ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه؛ فقال: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف: ٣٣.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن؛ لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور.
إلي هنا تنتهي علاقة يوسف مع امرأة العزيز، ولكنه لم يبرأ التبرئة الكاملة، فلقد دخل السجن ظلما، ولكن الله سبحانه له تصريف آخر.فكان تعبير رؤيا الرجلين اللذان كانا معه في السجن هي مفتاح النقلة الأخرى له، فجاءت رؤيا الملك التي لم يستطع أحد أن يعبرها، لتنقل يوسف نقلة أخرى، ويتم عن طريقها كشف ما حاول العزيز وحاشيته أن يطمسوه، ولتبرئ يوسف براءة كاملة من محاولة فعل الفاحشة مع امرأة العزيز.
فبعد أن عبر رؤيا الملك، أدرك الملك أن من يعبر تلك الرؤيا بهذا التأويل لا يمكن أن يكون مثله في السجن، فطلبه الملك.