تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

لمسات بيانية الجديد 10 لسور القرآن الكريم كتاب الكتروني رائع » آخر مشاركة: عادل محمد | == == | الرد على مقطع خالد بلكين : الوحي المكتوم المنهج و النظرية ج 29 (اشاعة حول النبي محمد) » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | قالوا : ماذا لو صافحت المرأة الرجل ؟ » آخر مشاركة: مريم امة الله | == == | () الزوجة الصالحة كنز الرجل () » آخر مشاركة: مريم امة الله | == == | مغني راب أميركي يعتنق الإسلام بكاليفورنيا » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | الإعجاز في القول بطلوع الشمس من مغربها » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | الكاردينال روبيرت سارا يغبط المسلمين على إلتزامهم بأوقات الصلوات » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | لمسات بيانية الجديد 8 لسور القرآن الكريم كتاب الكتروني رائع » آخر مشاركة: عادل محمد | == == | الرد على شبهة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنهما بعمر السادسة و دخوله عليها في التاسعة » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | المصلوب بذرة ( الله ) ! » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == |

مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ

صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 53

الموضوع: تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي


    المطلب الأول

    مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)
    هناك مبدأ قانوني في شرائع من قبلنا، ومُقرٌّ في شريعتنا، ومازال معمولاً به في الأنظمة العقابية.. وهو:
    (شخصية العقوبة)
    أي: لا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني … (قال معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعا عنده إنّا إذا لظالمون) يوسف / 79 ..
    وهذا أصل من أصول الشريعة الغرَّاء، ورد في شريعتنا متفِقاً مع ما ورد على لسان سيدنا [يوسف]..
    يقول تعالى :
    (ولا تكسب كلّ نفسٍ إلاّ عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) المائدة / 164 .
    ويقول تعالى :
    (وكل إنسان ألزمنـاه اليوم طائره في عنقيه ونخرج له يوم القيـامة كتاباً يلقاهُ منشورا، إقرأ كتابك بنفسك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) الإسراء / 14 ..
    فهذا أحسن تعبير عن [ شخصيَّة العقوبة ] !!..
    ويتجلى هذا الأمر بوضوح في شخصية (شخصيَّة العقـــــوبة) والتي تتجلى في قول الملك اثناء التحقيق:
    (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ)...
    (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
    (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
    لا تنس أن يوسف عليه السلام كان رهن الاعتقال ولم توجه له تهمة..
    (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
    وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
    (1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر.
    وقد ورد في الصحيحين مرفوعا « ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي »، وفي رواية أحمد « لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر ».
    (2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
    (3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
    (4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
    (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى: « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
    (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا.
    انتبه للإجابة الدبلوماسية منهن..إن الملك لم يسألهن عن اخلاق يوسف عليه السلام حتى تكون تلك الإجابة ولكنه سألهن عن تصرف بدر منهن تجاه يوسف وهو اتهام مباشر لهن..
    هنا قامت امرأة العزيز وبكل شجاعة قالت:
    (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
    (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى، بل استعصم وأعرض عني.
    (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله حين افتريت عليه: هي راودتنى عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يعرض لشأنها.
    وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
    (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم إني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
    (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكربا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
    وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
    مذكرة بدفاع
    دائـرة جنح مستأنف ممفيس مدينة الاله رع - منف اول عاصمة مركزية وموحده يعرفها التاريخ والتي تعرف اليوم بميت رهينه جنوب مركز البدرشين - .

    نبي الله يوسف عليه السلام / متهم

    ضــــــــــد
    النيابة العامة ممثلة الاتهام
    في القضية رقم .......... لسنة جنح مستأنف (....) والمحدد لنظرها جلسة يوم الثلاثاء الموافق 24 / 12/ 2019 .
    بأسباب الطعن بالاستئناف على الحكم الصادر بتاريخ / / 1900 ق.م عصر سونسرت الثاني من الأسرة الثانية عش من محكمة جنح
    فى القضية رقم (بدون)/ جنح المقضى فيها غيابيا بحبس المتهم تسع سنوات .
    االوقائع والموضوع
    إيمانا من الدفاع ببراءة ساحة المتهم من ثمة ما يشوبها من عمل مخالف والثابت علي ما جري عليه قرار الاتهام وحرصا منا كذلك علي ثمين وقت عدالة المحكمة نعرض للوقائع بإيجاز في نقاط عدة :-

    إن المتأمل في سيرة يوسف عليه السلام وإخوته يلاحظ أمورا متعددة وعلوما كثيرة وبالأخص أن هناك مجموعة من القمصان المنسوبة ليوسف.

    أحدها الذي جاء به إخوته وعليه دم كذب.

    وقمصان أخرى كان يرتديها يوسف حين كان عند أبيه وفي بيت العزيز.

    ولعل القميص الأهم من بينها هو الذي ألقوه على وجه أبيه فارتد بصيرا.

    علاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل..
    1- رأيناه يوم أن كاد له إخوته بسوء..
    (وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) يوسف: ١٨.
    وطبعاً هذا القميص احتفظ به أبوه..
    2- ومع امرأة العزيز
    (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يوسف: ٢٥.
    وطبعاً هذا القميص احتفظت به هيئة المحكمة كدليل إدانة..
    3-ومع أبيه
    (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) يوسف: ٩٣.
    وطبعاً هذا القميص من الواضح أنه هو القميص الذي كان يرتديه ساعتها فهو بمثابة البشارة..
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي

    المطلب الثاني
    علاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل..
    هناك قضية هامة يجب الانتباه لها في معرض استعراضنا لأهمية القميص، وهي اقتصار استخدام مفردة (قميص) في هذه السورة فقط وحين الحديث عن يوسف تحديدا، بينما في القرآن استخدمت مفردات أخرى لأنواع المرتديات كالجلباب واللباس والثياب وغيره، هذا إذا اعتبرنا أن القميص صنف من الثياب.

    وهنا تبرز أمامنا تساؤلات هامة:
    ما هو السر الذي لا نعرفه عن قميص يوسف هذا؟ ولماذا لم يستخدم يوسف أنواعا أخرى من الثياب خلاف القمصان؟ ألم تجد امرأة العزيز غير القميص لتقده؟ ولماذا أستخدم الشاهد القميص في شهادته وليس شيئا آخر؟ وكيف يكون قد القميص من قبل دليل كذب وإدانة، بينما قده من دبر دليل صدق وبراءة؟ وكيف يمكن ليوسف أن يقد قميصه من قبل؟ وهل واجهة القميص الأمامية تسمى قبل وواجهته الخلفية تسمى دبرا؟.
    وهل القميص المستخدم في الشهادة هو نفس القميص الذي أرسله يوسف لأبيه؟ ولماذا لم يرسل يوسف لأبيه أي قطعة أخرى خلاف هذا القميص؟.
    وهل القميص له علاقة حين قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل؟ هل الريح هي الرائحة؟ غريب أمر هذا القميص! ما سره؟ هل معنى مفردة قميص في السورة هو ذات المعنى المتداول بين الناس أم أن السورة تشير إلى شيء آخر لا علاقة له بما نعرف؟ تساؤلات عديدة أحاول من خلالها الإجابة في ضوء ما يسر الله لي من تدبر لآيات القرآن العظيم.
    دعونا نفتح قضية يوسف مع امرأة العزيز من جديد ونضع تحت المجهر إن لي صح التعبير أول دليل جنائي في القضية وهو قميص يوسف ، فلعل هناك أمر ما قد فات علينا ، فهو ليس كأي قميص آخر ، فقد لعب دورا هاما في قصة يوسف عليه السلام. ورد ذكره ست مرات في ست آيات ولم يرد ذكره خارج سورة يوسف. استخدمه إخوته كدليل على أكل الذئب يوسف.
    استخدمه الشاهد كدليل براءة يوسف. وأخيرا كسبب في ارتداد البصر!.
    أهمية قميص يوسف:
    الفرق بين مفردتي (قميص) و (لباس): في البداية لنعود إلى آيات القرآن العظيم محاولة التعرف على بعض معاني مفردة (لباس)، فقد وردت هذه المفردة في آيات عديدة من القرآن ولكني سأقتصر على هاتين الآيتين من سورة الأعراف لارتباطهما بالموضوع من ناحية الهدف من اللباس.
    قال تعالى في الأعراف: آية 26 و27 (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) و (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)، الهدف واضح من خلال الآيتين، ألا وهو أن اللباس يقصد به ستر العورة أو السوأة وهي تقع في الجزء الأدنى من الجسد، فإذا كان الهدف من اللباس هو تغطية أسفل الجسد، إذن يمكننا الاستنتاج منه أن القميص يستخدم لتغطية الجزء الأعلى منه.
    الفعلين (قمص) و(لبس) ليسا فعلين حركيين يتطلبان من الفرد الانتقال من مكان لآخر.
    الفرق بين الفعلين (نزع) و (قد) وارتباطهما بالقميص:
    لنتدبر الآن الفرق بين الفعلين (نزع) و (قد). ورد الفعل (نزع) في أكثر من آية من سور القرآن العظيم وهو في مجمله يشير إلى إخراج شيء من شيء أو سلب شيء عن شيء، سواء كان المنزوع ماديا أو معنويا! كنزع الملك ونزع ما في الصدور ونزع اليد ونزع الرحمة ونزع العتاة ونزع الشهداء ونزع الناس ونزع اللباس. وصف القرآن الفعل الذي قام به الشيطان لإزالة اللباس بمفردة (ينزع) والهدف من النزع هو (ليريهما سوآتهما) ، بينما وصف الفعل الذي قامت به امرأت العزيز بمفردة (قدت) ولكن الهدف من القد ليس مصرحا به في الآيات وإنما هو من بنات أفكارنا. حتى ولو كان كذلك ، فالنتيجة هي ظهور الجزء العلوي من جسد يوسف! ولو كان الهدف هو إظهارها سوأة يوسف لكانت صياغة الفعل أظنها ستكون (ونزعت قميصه) مما لا يتناسب معه استخدام فعل النزع ، فهو استخدام في غير موضعه فجاء التعبير الأمثل بمفردة (قدت) ، كما أنها لو كانت كما ظنناها لاتجهت مباشرة نحو لباس يوسف لتنزعه وليس قميصه لتقده! مما يشير إلى أن الفعل الذي قامت به امرأة العزيز لا ينطوي على شبهة الوقوع أو نية الشروع في علاقة مشبوهة. وإذا كان كشف الجزء الأعلى من الجسم يعتبر عورة أو شروع في نية مشبوهة ، إذن فما أكثر من تبدوا أكتافهم وصدورهم بل وبطونهم أثناء نسكي الطواف أو السعي!! (نزع) و (قد) ليسا فعلين حركيين يتطلبان من الفرد الانتقال من مكان لآخر!.
    الفرق بين مفردتي (قبل) و (دبر):
    (قبل) و (دبر) مفردتين متناظرتين تشيران إلى الناحية الأمامية والناحية الخلفية من القميص.
    فإذا كانت الآية الكريمة تشير إلى أن امرأة العزيز (قدت قميصه من دبر) بمعنى شقت قميصه من الخلف كما قالوا لنا ، فقد يكون تبريرا مقبولا فقط في حالة واحدة وهي إذا افترضنا ان الفعل (قدت) يعني (شقت) ، ولكن هذه الفرضية لا تصمد طويلا ، فحينما نتدبر الفعل (شق) في القرآن العظيم نجد أنه فعل يشير إلى المباعدة بين شيئين أو جعل الشيء يصبح جزئين كقوله تعالى (وانشق القمر) و (ثم شققنا الأرض) فلو كان الفعلان يحملان نفس المعنى لكانت صياغة الآية أظنها ستختلف فقد تكون على سبيل المثال (وشقت قميصه من دبر) ، ولكن هذا المفهوم لمعنى الفعل (شق) أيضا لا يستقيم في حالة يوسف ، إذ كيف يمكن ليوسف أن يشق قميصه من الأمام إن كان راغبا في استئناف هذه العلاقة المشبوهة ، فقد كان يكفيه مجرد خلع قميصه بكل يسر وسهولة بدل أن يشقه!..
    إن الفعل (قدت قميصه) فعل ماضي ترتيبه جاء بعد أن همت به وهم بها أي بعد أن فرغت امرأت العزيز من مراودة يوسف دون أن تصل معه إلى نتيجة، فبعد الفراغ من أمر كهذا تعاد الأمور لمكانها والثياب لوضعها، وهو حسب ظني يعني “أغلقت” ولا يعني شقت. وإليك الدليل: (إن كان قميصه قد من قبل) أي إن كان قميصه أغلق من الأمام، فهو دليل كذب يوسف وصدق امرأت العزيز و (إن كان قميصه قد من دبر) أي إن كان قميصه أغلق من الخلف فهو دليل صدق يوسف وكذب امرأت العزيز لأنه لا أحد يمكنه أن يغلق قميصه من الخلف إلا بمساعدة من طرف آخر.
    ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَٰذَا
    يقول تعالى في سورة يوسف 93 : (ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)..
    ارجو التأمل في الكلمتين (يَأْتِ بَصِيرًا)......و (وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)..
    ألم يدخل يعقوب عليه السلام ضمن قول يوسف لإخوته : (وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)..
    فما دلالة الفعل (يَأْتِ) هنا؟. ..
    من أين يأتي؟!..
    دققوا..
    إن المقصود أنه يعود مبصرا في التو واللحظة.
    ولكن الفعل (يأتي) يظل له إيحاؤه .. فما دلالته؟.
    إن يعقوب عليه السلام لم يكن غائبا فيأتي! فهو جالس مكانه لا يريم! ولكنه كان كالغائب.. فحين فقد بصره لم يكن (حاضراً) فيما حوله، يراه، ويتفاعل معه كما يتفاعل المبصرون! إنما كان (غائبا) ببصره عنه.. وحين يرتد بصيرا فإنه (يأتي).. يأتي من غيبته التى كان فيها، ويصبح (حاضراً) فيما يحيط به من أشخاص وأشياء..
    وكلمة واحدة تعطى هذا المعنى العميق كله، وتجعل المشهد يتحرك بحركة (المجيء) بعد (الغياب)!..
    ألا إنه إعجاز .
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي

    المطلب الثالث
    القرائن
    من الدرس السابق (البند سادساً) نستطيع التوصل إلى بعض من قواعد القانون الجنائي والتي منها القرائن.
    اختلف الفقهاء في اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات إلى فريقين، وليس المجال هنا لاستعراض الأراء حيث أنني أميل إلى الفريق الذي يرى أن القرائن وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعًا، سيما أن هذا الراي ينسب إلى جماهير العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
    وردت أدلة كثيرة في القرآن الكريم، تُشير بوضح إلى اعتماد القرائن الواضحة، وسيلة من وسائل الإثبات، ومنها:
    أ- قوله تعالى: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18].

    وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
    تُفيد الآية الكريمة أن إخوة يوسف عليه السلام أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم، لكن سيدنا يعقوب عليه السلام، لم يَقتنِع بدعواهم، وذلك لوجود قرينة أقوى، وهي عدم تمزق قميص سيدنا يوسف عليه السلام، وكيف يأكله الذئب، دون أن يمزِّق قميصه؟! وهذه قرينة قاطعة، تدل على بطلان دعواهم، ولهذا استدل سيدنا يعقوب عليه السلام على كذبهم، بصحة القميص، وهذا دليل على اعتماد القرائن، وسيلة من وسائل الإثبات، وشرع من قبلنا شرع لنا، إذا جاء في شرعنا، ولم يرفع أو يرد في شرعنا ما يغيره.
    ب- قال تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف: 26 - 28] .

    وجه الاستدلال:

    تفيد الآيات بوضوح اعتماد قدِّ القميص وسيلة لمعرفة الصادق منهما من الكاذب في دَعواه، وهذا دليل واضح على اعتماد القرائن القاطعة وسيلة من وسائل الإثبات، وشرْع مَن قبلَنا شرعٌ لنا إذا جاء في شرعِنا ولم يَرِدْ في شَرعِنا ما يغيره.
    ويستفاد مما سبق ما يلي:
    أ- القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وهي تُغني عن الوسائل الأخرى وتقوم مقامها، كالشَّهادة سواء بسواء.
    ب- القرينة وسيلة من وسائل دفع الدعوى.
    جـ- يُعطى القاضي سلطة تقديرية في استِنباط القرائن، وخاصَّةً عند وزْنِ البيِّنات، وتكوين القناعة بشهادة الشهود.
    وعليه فللقاضي أن يستنبطَ قرائن أخرى للإثبات، وذلك في الأحوال التي يَجوزُ فيها الإثبات بشهادة الشهود.
    كما أن القرينة تعدُّ بيِّنة؛ لأنَّها تُظهِرُ الحقَّ وتبيِّنه؛ ولهذا تَندرِجُ تحت مفهوم قولِه - عليه الصلاة والسلام - البيِّنة على مَن ادَّعى؛ ويكونُ حجَّة القائلين باعتِماد القَرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وبناءً على ذلك، وتَحقيقًا لمقاصد الشارع في تحقيق العدالة وحفظ الحقوق، فإنِّي أميلُ إلى اعتِماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق الشخصية والمدنية والجزائية، إذا كانت قاطعةً ومشروعةً، ولا يتطرَّق إليها الاحتِمال للأَسباب التاليَة:
    1- قوَّة أدلَّة القائلين بها.
    2- ضَعفُ أدلَّة المانِعين.
    3- تَحقيق مقاصد الشارع بإقامة العدْل وحفظ الحقوق.
    4- ولأنَّها بيِّنة تندرِجُ تحت مَفهوم قوله عليه السلام: ((البيِّنة على من ادعى)).
    5- ولأنَّ القوانين المستمَدَّة من الفقه الإسلامي اعتمدتْها وسيلة مِن وسائل الإثبات.
    إن الاعتماد على الأدلة والتي بناءً عليها أصدرت محكمة الدرجة الأولى حكمها قد ينسفه محامي الاستئناف بعدما حكمت المحكمة بإدانة يوسف عليه السلام اعتمادا على القرائن وليس الأدلة. إذ أن القرائن لها دور قوي في الاستئناس والتَّرجيح، كما أن القرينة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل قناعة القاضي عند وزن البينات، وهذا أمر لا خلاف فيه؛ لأنه يستند إلى منطق العقل.

    مشروعيَّة إعمال القرينة في الأحكام
    وأمَّا مشروعيَّة إعمال القرينة، فإن القرينة مشروعة في الجملة؛ لِما ورَد في قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18]، قال القرطبي في تفسيره: "إنهم لَمَّا أرادوا أن يَجعلوا الدم علامة صِدقهم، قرَن الله بهذه العلامة علامةً تُعارِضها، وهي سلامة القميص من التمزيق؛ إذ لا يُمكن افتراسُ الذئب ليوسفَ وهو لابِسٌ القميصَ، ويَسلم القميصُ، وأجْمَعوا على أن يعقوب - عليه السلام - استدلَّ على كذبهم بصحَّة القميص، فاستدلَّ العلماء بهذه الآية على إعمال الأَمَارات في مسائل كثيرة من الفقه".
    كما استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26 - 27].
    على جواز إثبات الحُكم بالعلامة؛ إذ أثبَتوا بذلك كذبَ امرأة العزيز فيما نسَبته ليوسف - عليه الصلاة والسلام.
    ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في صحيحه: ((الأَيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكر تُستأمر، وإذنها سكوتُها)).
    فجعَل صُماتها قرينة دالة على الرِّضا، وتَجوز الشهادة عليها بأنها رَضِيت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن.
    كما سارَ على ذلك الخلفاء الراشدون والصحابة في القضايا التي عرَضت، ومن ذلك ما حكَم به عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعثمان - رضي الله عنهم، ولا يُعلَم لهم مخالفٌ - بوجوب الحدِّ على مَن وُجِدت فيه رائحة الخمر، أو قاءَها؛ وذلك اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
    ومن أدلة إعمال القرينة في القضاء، ما أورَده النسائي في سُننه، قال - رحمه الله تعالى -: "باب السعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يَفعله: أفْعَل؛ ليَستبين الحقُّ"، ثم ساقَ الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((خرَجت امرأتان معهما صبيَّان لهما، فعدا الذئبُ على إحداهما، فأخَذ ولدها، فأصبَحتا تَختصمان في الصبي الباقي إلى داود - عليه السلام - فقضى به للكبرى منهما، فمرَّتا على سليمان، فقال: كيف أمركُما، فقصَّتا عليه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّ الغلام بينهما، فقالت الصغرى: أتشقُّه؟ قال: نعم، فقالت: لا تَفعل، حظي منه لها، قال: هو ابنك، فقَضى به لها))، وصحَّحه الألباني.

    قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -:
    "قال العلماء: يُحتمل أن داود - عليه السلام - قضى به للكبرى لشَبَهٍ رآه فيها، أو أنه كان في شريعته ترجيحُ الكبرى، أو لكونه كان في يدها، فكان ذلك مُرجَّحًا في شرْعه، وأمَّا سليمان - عليه السلام - فتوصَّل بطريقٍ من الحِيلة والملاطفة إلى معرفة باطنة القضيَّة، فأوْهَمها أنه يُريد قطْعَه؛ ليَعرف مَن يَشُقُّ عليها قطْعُه، فتكون هي أُمَّه، فلمَّا أرادَت الكبرى قطْعَه، عرَف أنها ليستْ أُمَّه، فلمَّا قالت الصغرى ما قالت، عرَف أنها أُمُّه، ولَم يكن مُراده أنه يَقطعه حقيقةً، وإنما أرادَ اختبار شَفَقتها؛ ليتميَّز له الأمَّ"، ثم قال النووي: "قال العلماء: ومثلُ هذا يَفعله الحاكم؛ ليتوصَّل به إلى حقيقة الصواب".
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي


    المطلب الرابع
    التنازع الدولي من حيثُ الاختصاص التشريعي.
    إن امتداد العلاقات القانونية بين الأفراد عبر الحدود يفرز جملة أوضاع منها حق الأفراد بالتمتع بالحقوق، واستعمالها، وأخيرا الحماية القضائية لها عند أثارة نزاع بين أطرافها.
    وإذا كان التمتع بالحقوق عن طريق الجنسية أو الموطن، فان استعمال هذه الحقوق يثير موضوع التنازع الدولي بين القوانين ذات الصلة بهذه الحقوق، وهذا الاستعمال ترافقه ضمانات تتمثل بالحماية القضائية لهذه الحقوق والذي بأثرها يطرح تنازع آخر يصطلح علية بتنازع الاختصاص القضائي الدولي الذي يمثل الجانب الإجرائي لمشكلة تنازع القوانين.
    ومثلما توجد قواعد حلول تنازع القوانين توجد قواعد لحلول التنازع بين المحاكم، كما أن تلك القواعد تمارس من خلالها المحكمة صلاحيتها في تسوية النزاع، مما يثر ذلك التساؤل عن أنواع الاختصاص القضائي الدولي، وطبيعة القواعد والإجراءات المتبعة في كل منهم، ولأجل الإحاطة بالموضوع سنبحث ذلك من خلال مبحثين:
    فالأول: يتعلق ببيان المحاكم المختصَّة، بالنظر في القضايا التي تخصُّ المواطنين والأجانب، والحالات التي تُعتبر فيها المحاكم الوطنيَّة هي المعنيَّة بالنظر فيها، ولو كان حدوثها خارج البلد.
    والثاني: يتعلق ببيان القانون الواجب التنفيذ، في حالة النظر في قضيَّةٍ لها علاقةٌ بأجنبيٍّ، أو وقعت في بلدٍ أجنبيٍّ، ولكن تمَّ النظر فيها في محكمة وطنيَّة .
    وبناء عليه هناك نظريتان [ولهما تفصيلات] خلاصتهما:
    1- إنَّ الأغلب أخذ [بإقليمية القوانين]، أي تطبيق قانون الإقليم الذي وقعت فيه الجريمة، وإن كان الفاعلون من الأجانب. مثل إخوة يوسف عليه السلام.
    (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)
    (دِينِ الْمَلِكِ) أي شرع الملك وقانون الدولة.. فما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
    ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله - بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال:
    (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
    2- والبعض يأخذ [ بشخصية القوانين] … وخاصة في الدول التي للغير فيها امتيازات مفروضة ، أو ما كانت فيها امتيازات لأعضاء الهيئات الدبلوماسية والقنصلية .مثل أخو يوسف عليه السلام.
    فيطبق عليهم قانون بلدهم الذي يلاحقهم أينما ذهبوا. فإنَّ الناس تسعى دوماً الى أن تبقى تحت حكم قانونها الشخصي.
    (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد في رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله:
    (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا، وقد كان الحكم في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
    (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
    وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
    (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
    (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
    (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفي كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
    3- الجمع بينهما
    إنَّ سيَّدنا يُوسُف أدخل إخوتَه في الفخ ، فارتضوا قانونهم الذي يُطبِّقونه في بلادهم ، ألا وهو شريعـــة [ يعقوب ] ‍‍‍‍‍‍.. حتى أنّهم:
    (قالوا من وُجِد في رحله فهو جزاؤه كذلك نَجزي الظالمين)
    فَأَخَذَ إقرارهم على رؤوس الأشْهاد، في أنَّ (العبودِيَّة) هي جزاء السارق في شريعتهم ، وأنَّهم راضون بما تفرضه شريعَتُهم ، بل أنَّ [ يوسف ] وأتباعه يُعدُوُن متفضلين، إذ سحبوا شريعة يعقوب ، وهي : [ قانونهم الشخصي ] ، إلى إقليم دولة [ الملك] !!..
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي

    المطلب الخامس
    قواعد القانون الجنائي في سورة يوسف
    العجيب أن هذه القصة تتضمن بيان قواعد ومبادئ قانونية راقية يعتمدها المحققون في كل الأزمنة والأمكنة من أجل كشف الجناة في الجرائم الجنائية في كل العالم المسلمين وغير المسلمين؟؟ حتى نعرف روعة معاني القران الكريم وبداعته وشموله لكل نواحي الحياة التي يحتاجها الإنسان ويتبين ذلك من خلال النقاط التالية:
    1. بقع الدم الموجودة في مسرح الجريمة يعتبر دليلا مهما في كشف الجرائم ومرتكبيها كما بين ذلك قوله تعالى (وجاءوعلى قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) آية (17) سورة يوسف.
    2. الشهود تعتبر من أهم الأدلة في كشف الجناة في ارتكاب الجريمة وتم تبرئة يوسف عليه السلام من جريمة الاعتداء الجنسي على امرأة العزيز عن طريق الشاهد الذي كان موجودا في مسرح الجريمة لقوله عزوجل (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها أن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) آية (26) سورة يوسف.
    3. الاعتراف يعتبر سيد الأدلة في كشف الجناة والمجرمين في الجرائم الجنائية ويتبين ذلك بوضوح من خلال الآيات الآتية(51-52)التي تنص على اعتراف (نسوة المدينة –وامرأة العزيز )لقوله تعالى (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الئن حصحص الحق إنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ) وان الآيتين (91-97) التي تشمل اعتراف (أخوة يوسف) لقوله تعالى (قالوا تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين ) (قالوا ياابانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين )إي أن ( نسوة المدينة –وامرأة العزيز – وأخوة يوسف ) اعترفوا ببراءة يوسف عليه السلام وارتكابهم جرائم بحق يوسف).
    4. مكان وقوع الجريمة يعتبر مبدأ مهما في كشف الجريمة والجناة كما في آية (15) التي تتضمن مكان ارتكاب جريمة الشروع بقتل يوسف خارج البيت لقوله تعالى (فلما ذهبوا به واجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) والآية (23) التي تبين ارتكاب جريمة الاعتداء الجنسي داخل بيت امرأة العزيز إي في منزل الزوجية لقوله تعالى (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربي أحسن مثواي انه لايفلح الظالمون ) لان مكان ارتكب الجريمة وصفة المرتكب له أهمية في تشديد أو تخفيف العقوبة في القانون الجنائي .
    5. كشف الكذب والتي يعتبر طريقة لكشف المجرم في ارتكاب الجريمة الآية (18) (و جاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) التي تتضمن كذب (أخوة يوسف )على أبيهم بشأن أكل يوسف من قبل الذئب والثانية كذب( امرأة العزيز) بشأن محاولة اعتداء يوسف عليها.كما في الآية (25) (و استبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم).
    6. الأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة كما في آية (18-25-72) والتي تشير إلى أن أخوة يوسف استعملوا قميصه الملطخ بدم كذب لكي يقنعوا أباهم بقتل يوسف عليه السلام( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)آية (18) والثانية تمزيق قميص يوسف في قضية جريمة الاعتداء الجنسي من قبل امرأة العزيز (و استبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم)أية (25) والثالثة صواع الملك في قضية السرقة(قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) أية(72).
    ومن خلال ما تقدم يتبين لنا براعة وإعجاز القران الكريم في كل نواحي الحياة وإصلاحها لكل الأزمنة والأمكنة وبيانها في هذه السورة المباركة أهم المبادئ الأساسية في التحقيق في الجرائم الجنائية العالمية علما أن القران الكريم يحتوي على مبادئ قانونية أخرى رائعة مثل ( البصمة )ودورها في كشف الجرائم بمختلف أنواعها كما في سورة القيامة ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه) لكونها تختلف من إنسان إلى أخر كما اكتشفها العلم الحديث وهذا يزيدنا ثقة واطمئنانا بإعجاز الآية القرآنية ( مافرطنا في الكتاب من شئ ) أي تطرق القران الكريم إلى كل جوانب الحياة إما بشكل مباشر أو غير مباشرو العاقل بالإشارة يفهم.
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي


    المطلب السادس

    الطعن في الحكم القضائي
    معنى الطعن في الحكم القضائي: إبطال العمل بالحكم القضائي الأول، والعمل بالحكم الذي يراه حقا سواء كان ذلك حكمه أم حكم قاضٍ سبقه.
    مصطلحات قانونية
    الطعن: إبطال العمل بالحكم القضائي الأول، والعمل بالحكم الذي يراه حقا سواء كان ذلك حكمه أم حكم قاضٍ سبقه، وله عدة طرق منها الطرق العادية وهي المعارضة في الحكم أو الاستئناف أو بالنقض أو التماس إعادة النظر.
    والاستشكال: هو الاعتراض على تنفيذ حكم قضائي مشمول بالصيغة التنفيذية إما بعريضة أو أمام المحضر وقت التنفيذ وقد يكون من المنفذ ضده الحكم أو ومن الغير.
    والاستئناف: هو إعادة نظر الدعوى الجزئية أو الابتدائية أمام دائرة استئنافية.
    إن وظيفة الاستئناف لا تقف عند مراقبة صحة الحكم المستأنف، إنما يؤدى إلى إعادة الفصل في القضية من جديد من حيث الوقائع والقواعد الشرعية والنظامية أمام محكمة الدرجة الثانية " الاستئناف ".
    والنقض: هو الطعن على حكم محاكم الاستئناف إذا شابها مخالفة في القانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله أو إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر ذلك الحكم. ولا يترتب على الطعن بالنقض وقف تنفيذ الحكم ولكن يجوز لمحكمة النقض أن تأمر بوقف تنفيذه مؤقتاً إذا طلب ذلك في صحيفة الطعن وكان يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم يتعذر تداركه.
    واستئناف الأحكام القضائية بعد الحكم للحكم مرة أخرى قبل تنفيذها سنّة ماضية لتصحيح الحكم متى ما كان خطأ، ولا تبرأ الذمّة إلا به، سواء كان من قاضِ آخر أو رجوعاً من نفس القاضي الذي أصدر الحكم أولاً ، ومن أدلّة مشروعيّة النقض ما يلي :
    1- في سورة يوسف نرى قضية الاستئناف واضحة بجلاء وذلك في قوله تعالى:
    (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) سورة يوسف: 50 - 52
    ففي الآية دليل على جواز الدفاع في أي وقت سواء اثناء النظر في القضية او بعدها فقد دافع يوسف عليه السلام عن نفسه عند القاء التهمه عليه قال تعالى : قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .......(26).
    وعندما ظن نجاة ساقى الملك قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ......(42).
    ودافع عن نفسه ايضا حينما ارسل له الملك قال تعالى : وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .........(50).
    فنقول هذا حق لا مرية فيه، ففي الشريعة الإسلامية ادله كثيره على مشروعية الدفاع عن النفس او العرض او المال او النسل او الدين .
    كقوله صلى الله عليه وسلم من مات دون عرضه فهو شهيد ومن مات دون ماله فهو شهيد..... الى اخر الحديث.
    وعليه فإن ما يفعله المستأنف في المحاكم المصرية اليوم هو نفسه ما فعله يوسف عليه السلام .
    2 ـ نقضُ سليمان لحكم داود عليهما السلام قبل تنفيذه وحكمُ سليمان بحكم آخر ، وقد أقرّ الله ذلك في كتابه فقــــال : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء: 78-79.
    قال ابن حجر: ( وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال : كان حرثهم عنباً نفشت فيه الغنم ، أي رعت ليلاً ، فقضى داود بالغنم لهم ، فمرّوا على سليمان فأخبروه الخبر ، فقال : لا ، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها ، ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردّوا عليهم غنمهم ) ( فتح الباري 13/148 ).
    وقال ابن العربي عند تفسيره للآية الوارد فيها نقض سليمان لحكم داود عليهما السلام في ( أحكام القرآن 3/266 ) : ( في هذه الآية دليل على رجوع القاضي عمّا حكم به إذا تبيّن أنّ الحقَّ في غيره ).
    3 ـ وقد يؤيد قاضي الاستئناف حكم الدرجة الأولى مثل ما حدث في قصّة الزُبْيَة – وهي الحفرة التي تُغطّى ليُصاد بها الأسد - ، فعن علي رضي الله عنه قال : (لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ . فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ ، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ ، فَقَالَ قَائِلٌ : إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا . فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ . فِي رِوَايَةٍ : فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ ). روا أحمد وغيره ، وصحّحه أحمد شاكر برقم 573 ، وساق الحديث محتجاً به ابن القيّم كما في ( زاد المعاد 5/13، وإعلام الموقعين 2/58) ، والمجد كما في المنتقى (2/699).
    4- واستندوا أيضا على الدليل النقلي الآتي : ( إن عمر أتى بامرأة زنت، فأقرت، فأمر برجمها، فقال علي : لعل لها عذرا؟ ثم قال لها : ما حملك على الزنا ؟ قالت كان لي خليط ـ أي راع ترافقه إذا رعت إبلها، وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيته، فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج، أعطيته الذي أراد فسقاني، فقال علي : الله أكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)). الإمام القرافي ، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والأمام ، ط2 ، مكتب المطبوعات الإسلامية ، حلب ، 1995م، هامش ص55..
    يستدل من هذه الرواية بأن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نقض الحكم القضائي الذي أصدره عمر، وهذا دليل عملي على جواز الطعن بالحكم القضائي.
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي


    المطلب السابع
    تكييف الواقعة
    أو ما يعرف بالحيل الفقهية ومشروعيتها
    وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
    تفسير المفردات
    آوى إليه: أي ضم إليه، والابتئاس: اجتلاب البؤس والشقاء، والسقاية (بالكسر) وعاء يسقى به، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية 1 \ 12 من الإردب المصري، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك، وأذن مؤذن: أي نادى مناد، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن، والعير: الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها، زعيم: كفيل أجعله جزاء لمن يجىء به، الكيد: التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدى إلى باطنه المراد منه، ودين الملك: شرعه الذي يدين الله تعالى به.
    الإيضاح
    (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ولما دخلوا عليه في مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها.
    (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي فقد تموه صغيرا.
    (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لي ولك.
    روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم أحسنتم وأصبتم، وستجدون أجر ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله، وقال أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا (حجرة) وهذا لا ثاني له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويشمّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال من يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: إني أنا أخوك إلخ.
    (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه.
    وفي قوله: جعل السقاية، إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته.
    (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي وقد افتقد فتيانه السقاية، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود في كل زمان ومكان قائلا:
    (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.
    (قالُوا: وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ؟) أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه: أي شيء تفقدون، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه؟.
    (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك.
    (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح، وفى هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير.
    (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير، أجعله حلوانا لمن يحىء به، سواء أكان مفقودا أم جاء به غير سارقه.
    (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا في امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي ردت إلينا مع غيرها، أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس.
    (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين في جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة؟.
    (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد في رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله:
    (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا، وقد كان الحكم في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
    (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
    وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
    (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
    (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
    (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفي كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
    ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا في يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.
    ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله:
    (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
    ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله - بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال:
    (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
    وليس من التقوى التحايل على إسقاط الواجبات، أو فعل المحرمات، بحجة إخراج الناس من الضيق، بل قد يكون التحايل على الأحكام الشرعية سببًا في الوقوع في المضايق.
    وبناء عليه لابد للحيل الجائزة أو المخارج الشرعية من ضوابط تضبطها حتى تؤدي دورها، وحتى لا يقع المسلم في الحيل المحرمة، وهذه الضوابط هي:

    1- أن تكون الحيلة متوافقة مع مقصد الشارع، وفيها تحقيق مصلحة شهد الشرع باعتبارها، وألا تهدم أصلًا شرعيًا، قال الشاطبي:"فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي". المرجع السابق 3/ 124.

    2- أن يكون النظر في تقرير مصالح الحيل وموافقتها لمقصود الشارع للعلماء الشرعيين؛ "ليكون الناظر متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها"،. ولا يفتح المجال لغيرهم؛ لأن من كان جاهلًا بالأصول يكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيقع في مخالفتها بقصد أو دون قصد .نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي 9/ 4092.

    3- ألا تتضمن إسقاط حق، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام، قال ابن القيم:"وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب، وهي حيلة جائزة؛ فإنها لا تتضمن إسقاط حق، ولا تحريم حلال، ولا تحليل حرام إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 17.. وقد ذكر ابن القيم من هذه الحيل الجائزة مئة وستة عشر مثالًا. المرجع السابق 3/ 261-4/ 37.

    الآيـــــات ذات الأحـــكام القانونيّة في السورة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    } وقال يا بَنِيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبوابٍ متفرقةٍ وما أُغني عنكم من الله من شيء إنْ الحكمُ إلا لله عليهِ توكلتُ وعليهِ فليَتَوَكَّل المتوكلون * ولمّا دخلوا من حيثُ أمرهُمْ أبوهم ما كان يُغْني عَنْهُم من الله من شيء إلاَّ حاجةً في نفسِ يعقوبَ قَضاهَا و إنّهُ لذو علمٍ لِّما علمناهُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون * فلمَّا دخلوا على يُوسُفَ آوى إليهِ أخاهُ قال إنِّي أنا أخوك فلا تبتئِس بما كانوا يَعْمَلون * فلَّما جَهَّزَهُم بِجَهازِهم جَعَلَ السِقايَةَ في رَحلِ أخيه ثُمَّ أذّن مُؤذِّنٌ أيَّتُها العيرُ إنَّكُم لسارقون * قالوا وأقبَلُوا عَلَيْهِم ماذا تَفْقِدون * قالوا نَفْقِدُ صُواعَ الملِك ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ وأنا به زعيم * قالوا تالله ما جِئْنا لنُفْسِدَ في الأرض وما كنَّا سارقين * قالوا فما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُم كاذبين * قالوا جَزاؤهُ منْ وُجِدَ في رَحْلِهِ فهو جَزاؤهُ كذلك نَجْزي الظَّالمينْ * فبدأ بأوعِيَتِهِم قبلَ وِعاء أخيه ثمَّ استَخْرَجَها من وِعاء أخِيه كذلك كِدْنا ليُوسُفَ ما كان لِيَأخُذَ أخاهُ في دين المَلِك ألاَّ أن يَشاء الله نرفعُ دَرَجاتٍ من نَّشاءُ وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم * قالوا إنْ يَسْرِق فقد سَرَقَ أخٌ لَّهُ من قبلُ فأسَرَّها يُوسفُ في نَفْسِهِ ولمْ يُبْدِها لهُمْ قالَ أنتُم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تَصِفُونَ * قالوُا يا أيُّها العزيزُ إنَّ له أباً شيخاً كبيراً فَخُذْ أحَدَنَا مَكانَهُ إنَّ نَراكَ من المُحسنين * قالَ معاذَ اللهَّ أنْ نأخُذَ إلاَّ من وَجَدْنا مَتاعَنا عندهُ إنَّا إذاً لَظالمونْ * { . يوسف / 67 إلى 76 .
    ويقول تعالى :
    } ولقد همَّتْ بِهِ وهمَّ بها لوْلا أنْ رأى بُرهانَ ربِّهِ كذلك لنَصرِفَ عنْهُ السوُءَ والفَحشاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَاِدنَا المُخْلَصِيِنْ * واسْتَبَقا البابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وألْفَيَا سيَّدَهاَ لدى البابْ قالتْ ما جَزاءُ مَنْ أرادَ بأهْلِكَ سُوُءاً إلاَّ أن يُسْجنَ أو عَذَابٌ أليم * قالَ هيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ أهلِها إنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الكاذبِين * وإنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهُوَ مِنَ الصَادِقِين * فلَمَا رأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قال إنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عظِيم * { يوسف / 24 إلى 27 .
    إنَّ في هذه الآية من الأمور القانونية والفقهيَّة، أمور منها :
    1- [ احتيال] سيّدنا [ يوسف عليه السلام ] ، بجعل السقاية في رحل أخيه ، تمهيداً لاتّهامه بالسرقة ، ومن ثم تنفيذ بقية ما رسمه في ذهنه !!..
    2- [ احتياله ] بانتزاع رضاهم بتحكيم شريعة أبيهم [ يعقوب ] !..
    3- [ احتياله ] بإبعاد الظنِّ منهم في كون الأمر مدبَّرٌ ، فيبدأ تفتيشه برحالهم .
    فهل: [ الاحتيال ] جائز للأنبياء فقط ؟ أم هو جائز لنا ؟.
    وهل : جوازُهُ أصلاً وابتداءً ؟ ، أم عن طريق الرجوع إلى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنا ؟.. هذا هو موضوع المبحث الآتي
    ونستطيع هنا أن نتكلم - بفضلِ الله - عن جملةٍ من مسائل القانون والشرع، في هذه الآيات، وكالآتي :شــرائعُ مَنْ قَبــْلَنا
    مما لا شك فيه أنَّ الاستدلال بالآية لِمَا أردنا الاستدلال له، متوَقِّفٌ على الأخذ :
    (بشرائع منْ قَبْلنا، إذا ذكرت في قرآننا ، من غير تصريح باعتداد أو إلغاء) . وهذا ما سنعود إليه بعد حين.
    ويقول القرآن الكريم:
    (ولمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنّي أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون )
    فهذا مجرد تطمين لأخيه حتى لا تذهب به الظنون كلّ مذهب بالنسبة لما هو آتٍ من الأحداث ، ليتحول بعدئذ القرآن العظيم في روايته لأحداث قصة [ يوسف ] عليه وعلى نبينا السلام ، إلى منعطف خطير، وهو الاحتيال، للوصول الى المطلوب .
    بيان الحيل، وأنواعها ، وشروطها ..
    الحيل الشرعيَّةِ ومشروعيتها
    وهي على مبحثين:
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي

    المبحث الأول
    الحيل التي اتَّبعها [ يوسف ] مع اخوته .!.
    إن ّ[ احتيال ] سيّدنا يوسف لأجل أخذ أخيه عنده ، دون أمرٍ سلطوي ، أو إشعارٍ لهم بحقيقةِ شخصه .
    و [ احتياله ] لإبعاد الشكِّ عن تدبيراته من أجل أخذ أخيه .
    و [ احتياله ] لهم حتى يقبلوا بشريعة أبيهم لكي يُبقي أخاه عنده.
    كلُّ ما تقدَّم ، أمرٌ يستحق التوقف والتأمل الفقهي ، لأجل الوصول الى حُكمٍ في مسألةٍ هي من أخطر المسائل حسَّاسيَّةً ، ألا وهي مسألة ما أطلق عليه ، أو قل ما اصطُلِح عليه:( بالحيل الشرعيَّة).
    إنّ الاصطلاح لا مناقشة فيه ..إذ: [ لا مشَّاحة في الاصطلاح ] ، فالعبرة بحقيقة الأشياء لا بأسمائها ، فاختلاف الأسماء لا يُغيِّرُ مِن حقيقة المسميَّات ، وإن كان الأفضل تجنُّب الألفاظ المثيرة للإبهام والإيهام .
    إنَّ لفظ [ الاستحسان ] أثار ما أثار بسبب الفهم المتعجل لمعناه ، ولو رجعنا إلى مقصود أصحابه منه لَما قيل الذي قيل فيه وفي المتَّخذين له دليلا، وما زال ذلك غُصَّةً في حلوق الطرفين : القائلين به ، والمنكرين له .
    فلو اختار أصحابُهُ غيْرَ هذا الاسم لَمَا توَلَّد الالتباس ، ولو تأنى مُنْكِرُه لما لِيِمَ على حُكمهِ ، والله سبحانه وتعالى يقول : (فتبينوا ... ) .
    بعد هذا ينبغي أن نُشَخِّص ( الحيلة ) التي استعملها سيِّدُنــــا [ يُوسف ]عليه السلام ، حتى نستطيع الحكم عليها بمقبوليَّةٍ أو رفضٍ ، لكي يكون الكلام بعدئذٍ في مدى إمكان الأخذ بها في شريعتنا ، رغم أنَّها وردت في قرآننا العظيم ، على أنّها مِن تطبيقات الشرائع السابقة لشريعة نبيِّنا عليه أفضل الصلاة والتسليم .
    لقد احتال لهم أول مرَّة :
    (فلمّا جهّزهم بِجَهازِهِم جَعَلَ السقاية في رحْل أخيه ثمَّ أذنّ مؤذّن أيتها العيرُ إنّكم لسارقون )[15]فقد فعل هذا تمهيداً لاتِّهامهم بالسرقة.
    ثم احتال لهم ثانيةً حين سألهم :
    ( .. فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ..)
    فلما أراد أن يستبقي عنده أخاه ، ولم يكن له من سبيلٍ في قانـــــون [ الملك ] ، سألهم عن شريعة أبيهم [ يعقوب] في مثل هذه الحالات ، فأخبروه باسترقاق المسروق منه للسارق ، إن ثبتت السرقة .
    فاحتال لهم ثالثة :
    (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعـاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ) .
    فإبعاداً للظن والتُهمة ، بدأ بالتفتيش في غير رحل أخيه ، أو وِعاء السارق المجازي ، وهو أخاه . وهذا نوع [ احتيال ] .
    إنّ هذا الاحتيال امتدحه الله سبحانه وتعالى بكونه هو فعل الذين رفع الله سبحانه وتعالى درجتهم بالعلم :
    (..نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ) .
    فكان ( الكيد ) - أي التدبير - من الله سبحانه وتعالى ، هو الذي ألهم سيِّدنا يوسف ما فعل ، ولولا فعل سيِّدنا يوسف لما أخذ أخاه ، فهو ممن رفع الله درجته بهذا العلم !! ..
    ********
    إنَّ في هذه الآية من الأمور القانونية والفقهيَّة ، أمور منها :
    1- [ احتيال] سيّدنا [ يوسف عليه السلام ] ، بجعل السقاية في رحل أخيه ، تمهيداً لاتّهامه بالسرقة ، ومن ثم تنفيذ بقية ما رسمه في ذهنه !!..
    2- [ احتياله ] بانتزاع رضاهم بتحكيم شريعة أبيهم [ يعقوب ] !..
    3- [ احتياله ] بإبعاد الظنِّ منهم في كون الأمر مدبَّرٌ ، فيبدأ تفتيشه برحالهم .
    فهل : [ الاحتيال ] جائز للأنبياء فقط ؟ أم هو جائز لنا ؟.
    وهل : جوازُهُ أصلاً وابتداءً ؟ ، أم عن طريق الرجوع إلى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنا ؟.. هذا هو موضوع المبحث الآتي. ..
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي

    المبحث الثاني
    معنى الاحتيال .. وشروط الأخذ بها ..
    والأدلة الشرعية لجوازها

    نقول : الاحتيال هنا بمعنى التدبير ، وهو المسمى [ بالمُخْرِج ]الشرعي. وجمعه : مخارج ، ومفرده على صيغة اسم الفاعل .
    ولقد سميَّت المخارج كذلك ، لأنَّها :
    تُخرج من الضيق الذي فيه المكلَّف ، إلى السعة التي يبتغيها .
    أمَّا الحيلة : فجمعها [ الحِيَل ] .
    وهي : الحذق في التدبير، وتقليب الفكر للوصول إلى المقصود .
    وفي الشرع ، لم يتعرض العلماء لوضع تعريفٍ اصطلاحي لها ، ولذلك فقد عرفناها بأنَّها هي :
    الطريق لوصول المكلف إلى مُبتغاه ، من غير وقوعٍ في الحرام أو شبهته ، ومن غير إبطالٍ لواجبٍ ، أو خروجٍ على المقاصد العامَّة للشريعة ، أو الأصول العامَّةِ المعتبرة .
    يقول شمس الأئمة السرخْسي في المبسوط :
    [ .. فإنّ الحيل في الأحكام المُخرجةُ عن الآثام جائز عند جمهور العلماء رحمهم الله ، وإنما كَرِه ذلك بعض المُتقشِّفة لجهلهم ، وقلَّة تأملهم في الكتاب والسنة ] .
    نقلاً من : [ ملحق كتاب الحيل لمحمد بن الحسن ، طبعة ليبسك 1930 ، وأعادته بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد ] .
    وجوازه ممّا ورد ذكره في هذه الآية ، وفي مواضِعَ قبْلَها ، ممّا يدل على جوازه في شرائع مَنْ قبلنا ، وقد أوضحناها قبلاً بالتفصيل.
    ويؤيده ما ورد في قصة سيدنا [ أيوب ]عليه وعلى نبيّنا السلام،حيث حلف في أشد حالات مرضه وشدته :
    إن أحياه الله لَيَضْرِبَنَّ امرأته مائة جلدة !! ..
    وذلك لأمر ما عدّة كبيراً ، ويستدعي منه الذي نذره ، مِنْ وجهة نظره !! ، رغم أنَّها الوحيدة التي بقيت معه في محنته !!..
    فلمّا أنجاه الله ، وقع في محنةٍ بين أمرين :
    الأول : البِّر بيمينه ، وهو نبيٌّ لا يُخالف ، خصوصا بعد أن منَّ الله عليه بالشفاء ، وزيادة المال والولد .
    يقول تعالى : ( وأيّوب إذ نادى ربَّهُ أنِّي مسَّنيَ الضُرُّ وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرٍّ وآتيناهُ أهله ومثلهم معهم رحمةً مِن عِندِنا وذكرى للعابدين ).
    الثاني : الوفاء لزوجه التي صاحبته في محنته ، بعد تخلى الجميع .. فأخرَجَهُ الله من ذلك [بحيلة ]علمَّها إياهُ ، أو قل هو :[ مُخْرِجٌ شرعيٌّ ].
    يقول تعالى :( واذكُر عَبْدَنا أيُوبَ إذ نادى ربَّه أنِّي مسَّنيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب * أُركُض بِرجْلِكَ هذا مغتسَلٌ باردٌ وشرابْ * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمةً منَّا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدك ضِغْثاً فاضرب به ولا تحنَث إنَّا وجدناهُ صابراً نِعْمَ العبـدُ إنَّه أوَّاب) .
    أي : خُذ عُرجوناً قديماً ذا مائة شِمراخ ، فاضرب زوجتك بخفةٍ،ضربةً واحدةً تعوّض عن المائة ، فلا تُعدّ حينئذٍ حانثاً ، بل بارّاً بقسمك، ولا تعُد متنكِّراً لمن فاض جميلُها عليك في وقت محنتِك. !!..
    والحيل الشرعيَّة .. للأخذ بها شروطاً، وهي :
    1- أن تُخرج من الضيق الى السعة .
    2- ألاّ تُؤدى الى ضياع حقّ من حقوق الله ، أو العباد .
    3- ألا تُعارض أمراً قامت الحُجة على اعتباره في شريعتنا ، أو قاعدةٍ من القواعد المعروفة في الشريعة ، أو أصلاً من الأصول .
    فمن ضياع الحقوق : أنْ يعلِّم بعض الماجنين من المفتين ، من وجبت عليهم الزكاة ، وبقي بينهم وبين شرط [ حولان الحـول ] أيام ، يعلّمون أولئك بالتصدّق بجزء يسير يَثْلِم النصاب ، مقابل سقوط الكثير .
    فمن ملك عشرين مثقالاً من الذهب ، فعليه نصف مثقال ، فلو تصدّق [ بحبةٍ ] ، فإنّ النصاب سوف يقلُّ عن حدِّه الأدنىِّ ، وبالتالي فلا زكاة .. والفرق بين الحبة ونصف المثقال كثير!! ..
    وما قامت الحجة على مراعاته في شريعتنا : حرمة الربا ، فقيام بعض الماجنين بتعليم المُقرضِين أن يبيع المقترض سلعةً نقداً ، ثم يشتريها بثمن أعلى مُنَسَّئاً ، فتعود له سلعتُهُ و يكونُ مديناً بالفرق بين الصفقتين ، وهو في حقيقته ربا الاقتراض ، المعروف بربا النسيئة .
    فكل هذا و ذاك هو من: [ العلم الذي يُعلَم ولا يُعَلَّم ] .
    وهو احتيال مرفوض ، ويكون اُلمفتي من هذا القبيل ، مستحقـاً للحَجْر.. أي : [ المنع ] ، باعتباره واحداً من ثلاثة جوّز الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، الحجر عليهم ، استثناءً من مبدئه في عدم الحجر بعد سن الخامسة والعشرين ، وهم :
    أ. [ المفتى الماجن ] الذي : يعلِّم الناس الحيل .
    ب.[ والمتطبب الجاهل ] الذي : يؤذي الناس بجهله .
    ج.[ والمُكاري المفلس ] الذي: لا يستطـيع الإيفاء بالتزامـاته ، ويكتفي بأخذ المال مع عدم القدرة على الوفاء .
    فالأخذ [بالحيل ] أو المخارج ، بشروطها ، كان استدلالاً بفعل سيِّدينا : [ يوسف ، وأيوب ] عليهما السلام .
    وكلّ هذا من شرع من قبلنا الذي سكت عنه قرآننا ، فأخذنا به لعدم مخالفته قاعدةً شرعيةً ، أو نصاً من النصوص ، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة .
    ولهذا فقد استدلّ الأحناف لجواز[ الحيل ] ، بما يأتي :
    أ. من القرآن الكريم :
    1. ما ورد عن سيِّدنا أيوب ، وقد تقدم .
    2. ما ورد عن سيِّدنا يوسف ، مما نحن بصدده .
    3. ما ورد على لسان سيِّدنا موسى ، حين قطع وعداً للرجل الصالح ، حيثُ قال :
    ( قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا ).
    فقد احتال سيِّدنا موسى لنفسه ، خشية عدم قدرته على الصبر، فأتى بالاستثناء ، وهو قول : [ إن شاء الله ] .
    ولم يُعاتَبْ على ذلك ، لأنه استعمل مُخْرِجاً صحيحا .. فلا يُعدُّ حانثا إن لم يَسْتطع الصبر !! ..
    ومن السنة النبوية الشريفة :
    1. روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة :
    (فلعلَّنا أمرناهم بذلك ) .
    فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك ، قال عليه السلام:
    ( الحرب خدعة ) .
    وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم اكتساب حيلة ، ومُخرج من الإثم ، بتقييد الكلام [ بلعلَّ ] .
    2. أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أنَّه حلف بطلاَّق امرأته ثلاثاً أنْ لا يُكلِّم أخاه ، فقال له رسول الله عليه السلام :
    ( طلِّقها واحدةً فإذا انقضت عدَّتها فكلِّم أخاك ، ثم تزوجها )
    وهذا تعليمٌ للحيلة صادر عن رسول الله عليه السلام !! .
    قال السَرَخْسي : [.. والآثار فيه كثيرة ] .
    ثم أورد السرخسي جملةً من الأمور المشَّرعة في شريعتنا ، وحقيقتها حيلٌ توفرت فيها الشروط التي أوردناها ، فيقول :
    [ ومن تأملَّ أحكامَ الشرعِ ، وجد المعاملات كُلَّها بهذه الصفة ...
    فإنَّ من أحبَّ امرأةً ، إذا سأل فقال : كيف لي أنْ أصِل إليها ؟.
    يقال له : تزوجها .
    وإذا هوى جاريةً ، فقال : ما الحيلة لي في أن أصل إليها ؟.
    يقال له : اشْتَرِها .
    وإذا كره صحبة امرأةٍ ، فقال : ما الحيلة لي في التخلص منها ؟ .
    قيل له : طلِّقها .
    وبعد ما طلقها إذا ندم ، وسأل الحيلة في ذلك ؟ .
    قيل له : راجعها .
    وبعد ما طلَّقها ثلاثاً ، إذا تابت من سوء خُلُقِها ، وطلبا حيلةً .
    قيل لهما: الحيلة في ذلك ، أن تتزوج بزوجٍ آخر ، ويدخل بها ].
    . ثم قال : [ فمن كره الحيل في الأحكام ، فإنَّما يكره في الحقيقة أحكام الشرع ، وإنَّما يوقع في مثل هذا الاشتباه ، من قلَّة التأمل .
    فالحاصل أنَّ ما يتخلص به الرجل من الحرام ، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل ، فهو حسن . وإنَما يكره من ذلك :
    أن : يحتال في حقٍّ لرجل حتَّى يُبطله .
    أو : في باطل حتَّى يُموِّهه .
    أو : في حقٍّ حتى يُدخل فيه شُبْهةً.
    فما كان على هذا السبيل فهو مكروهٌ. وما كان على السبيل الذي قلنا أولاً ، فلا بأس به. لأن الله تعالى قال :
    (وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ).
    ففي النوع الأوَّل معنى التعاون على البر والتقوى .
    وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان ] .
    ثمَّ أورد أدلةً أخرى ، تجدها مبسوطةً في المبسوط ، ولو استوفيناها لخرجنا عن المقصود .
    لقد أكثر الأحناف من استعمال [ الحيل ] ، حتى ظنَّ الظانُّون أنهـم في أحكام الدين متساهلون !! ، وليس الأمر كما يُخيل للبعض ، بل هو استعمالٌ للمخـارج توسعةً على المكلفين ، على النحو الذي بينَّاه ، وليس من السهل أن يتضح الأمر لكل أحدٍ ، خصوصاً بعد شيوع استعمال لفظة [ الحيلة ] في غير الممدوح من الأمور .
    ومن شدة اهتمامهم بهذا الفن من فنون الفقه ، وهي متنوعةٌ ، فقد أفرده بالتأليف الإمام : محمد بن الحسن الشيباني ، تلميذ الإمام أبي حنيفة ، والذي حفظ أصول مذهبه وفروعه ، بكثرة مدوَّناته المتداولة ، وسمَّى كتابه ذاك [ المخارج في الحيل ] .
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    2,112
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-12-2022
    على الساعة
    12:17 PM

    افتراضي


    المطلب الثامن
    حق المتهم في الدفاع عن نفسه
    إن قاعدة افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، قد وُجدت في الشريعة الإسلامية من مدة تزيد على أربعة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن والسنة، وبهذا فقد امتازت هذه الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في القانون الوضعي الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقُررت لأول مرة في المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام1789م، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى التشريعات الوضعية الأخرى، حتى أصبحت قاعدة عالمية في القوانين الوضعية كلها.
    وتطبيقاً لهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية فإن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعى، فعليه أن يثبت وقوع الجريمة من المدعى عليه (المتهم) ومسؤوليته عنها، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-:”البينة على من ادعى”، ولا يوجد أي التزام على المتهم من حيث المبدأ لإثبات براءته، فهو في نظر الجميع يعتبر بريئاً حتى يُدان، غير أنه ليس هناك ما يمنع المتهم من المساهمة في إثبات براءته بتقديم الأدلة والبيانات للقضاء التي من شأنها نفي التهمة ودرء المسؤولية الجنائية عنه، أو التعبير عن قيام سبب من أسباب الإباحة، أو انعدام المسؤولية أو أي عذر من الأعذار الشرعية.
    وبناء عليه فإن حق الفرد الذي اتهم في دينه وعرضه وسلوكا ظلما كيوسف عليه السلام أن يدافع عن نفسه تجاه من ظلمه، ويرفع صوته جاهزا بالحق مثل قول يوسف عليه السلام (هي راودتني عن نفسي) في مواجهة الحاكم، بل أباح الله تعالى له ما لم يبح لغيره، رعاية لظرفه، وذودا عن حرمته، حين قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}(النساء:148)، ولا يجوز لأحد منع التهم من الدفاع عن نفسه، فهذا حق طبيعي وشرعي، وقد أعطى الله الحرية لإبليس اللعين ليجادل عن نفسه أمام رب العالمين، ويقول عن آدم:"أنا خير منه" كما جعل من حق كل نفس يوم القيامة أن تجادل عن نفسها.
    فحق المتهم في الدفاع عن نفسه من أهم المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة بين الخصوم، كما ان مبدأ حق المتهم في سماع مقاله أمام القضاء، وهو حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب عندما بعثه إلى اليمن قاضياً، فعن علي -كرم الله وجهه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء..؟ فقال :”إن الله سيهدي قلبك ويُثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، أحرى أن يتبين لك القضاء” قال: مازلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد.
    من هذا الحديث يتضح لنا أنه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الحكم قبل سماع حجة المتهم، والنهي يُفيد فساد المنهي عنه، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء، ففي القضية التي تسور فيها الخصمان المحراب على نبي الله داود -عليه السلام- ليحكم بينهما بالعدل، وكان المدعي قوي الحجة، إذ قال فيما نص عليه القرآن على لسانه:(إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) وأمام هذه الحجة الظاهرة حكم له النبي داوود دون سماعه لحجة المدعى عليه(المتهم)، كما جاء في قوله تعالى:(قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات….).
    ولما كان هذا الحكم قد صدر بدون سماع حجة طرفي الخصومة، فإن داود قد شعر بخلل حكمه فسارع إلى الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى:( وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) وكان هذا من الله توجيهاً لنبيه داود، وإنذاراً لمن يتولى القضاء بين الناس في الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بأن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر، هو ميل عن الحق وإتباع للهوى يترتب عليه العذاب الشديد يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الكريم:(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).

    التعديل الأخير تم بواسطة المهندس زهدي جمال الدين محمد ; 12-04-2020 الساعة 08:09 AM
    لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 4 5 6 الأخيرةالأخيرة

تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. القواعد الخاصة للآيات المتشابهة
    بواسطة صاحب القرآن في المنتدى فى ظل أية وحديث
    مشاركات: 76
    آخر مشاركة: 21-06-2015, 01:43 AM
  2. استقراء القواعد النحوية من الآيات القرآنية
    بواسطة ابوغسان في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-11-2014, 06:23 PM
  3. شرح القواعد الأربع [ عمر العيد ] - عربي
    بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 13-03-2010, 02:00 AM
  4. منظومة القواعد الفقهية
    بواسطة ياسر سواس في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16-02-2010, 10:39 PM
  5. القواعد الحسان فى الأستعداد لرمضان
    بواسطة نسيبة بنت كعب في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-09-2007, 01:22 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ

تأصيلُ القواعد القانونيّةِ في الآيات القرآنيّةِ