المجلس الأول : في الحب ، وما أدراك ما الحب !
أستعين بالله على الحب !

أقول :
ومن عجبي ! أني أحن إليهم ! وقد سكنوا قلبي ، وروحي ، ومهجتي ،
فهم سر أسراري ، ونور مناظري ، وروحي وأزهاري، وأُنسي وبهجتي ،
وهم عين أعياني ، وقلبي وقالبي ، بل هم في معانيهم أهيل مودتي ،
جواهر في تجليهم ، شموس إذا بدو ، مواسم أرباحي ، أويقات لذتي ،
مَلقى أحبتي ، نسيم سعادتي ، مطالع أقماري ، شروق أهلتي ،
أحن إلى كل جمع لمَّ شملهم ، على طاعة الرحمن في كل لمحة،
أتعلمون من هم ؟!
إنهم إخوتى في الله ! الذين أحببتهم فيه ولم أراهم !
أو فرقت الدنيا بين وجهي ورؤياهم !

وأود ان اكون بهذا ممن ذكرهم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال
"" إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي ""

والترمذي من حديث معاذ قال :salla-y:
"" المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء""

بجلالي : بعظمتي وطاعتي لا لأجل الدنيا .
يغبطهم : الغبطة تمني مثل نعمة الغير دون تمني زوالها عنه وهو الحسد المحمود .

لذا فمما قالوا في فضل الحب في الله :
الحب في الله رابطة من أعظم الروابط ، وآصرة من آكد الأواصر ، جعلها سبحانه أوثق عرى الإسلام والإيمان ،
قال - "" أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله ، والحب في الله والبغض في الله عز وجل ""
رواه الطبراني وصححه الألباني .

بل إن الإيمان لا يكمل إلا بصدق هذه العاطفة ، وإخلاص هذه الرابطة،
قال "" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان "" رواه أبو داود .

ومن أراد أن يشعر بحلاوة الإيمان ،
ولذة المجاهدة للهوى والشيطان فهذا هو السبيل ،
ففي الصحيحين من حديث أنس :radia-icon: عنه أن النبي - قال :
"" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان .
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ،
وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ""
.

والمرء يفضل على صاحبه بمقدار ما يكنه له من المحبة والمودة والإخاء ، قال
"" ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ""
رواه ابن حبان وصححه الألباني .

وأما الجزاء في الآخرة
فهو ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ، وقد أخبر -
أن من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : "" رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه""
أخرجاه في الصحيحين .

محبة في الله
والأصل في الحب والبغض أن يكون لكل ما يحبه الله أو يبغضه ،
فالله يحب التوابين والمتطهرين ، والمحسنين ، والمتقين ، والصابرين ،
والمتوكلين والمقسطين ، والمقاتلين في سبيله صفا ،
ولا يحب الظالمين والمعتدين والمسرفين والمفسدين ، والخائنين ، والمستكبرين .

ولهذا فإن شرط هذه المحبة
أن تكون لله وفي الله ، لا تكدِّرها المصالح الشخصية ،
ولا تنغصها المطامع الدنيوية ، بل يحب كل واحد منهما الآخر لطاعته لله ،
وإيمانه به ، وامتثاله لأوامره ، وانتهائه عن نواهيه ،
ولما سئل أبو حمزة النيسابوري عن المتحابين في الله عز وجل من هم ؟ فقال :
[ العاملون بطاعة الله ، المتعاونون على أمر الله ، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم ] .
والمحبة في الله هي المحبة الدائمة الباقية إلى يوم الدين ،
فإن كل محبة تنقلب عداوة يوم القيامة إلا ما كانت من أجل الله وفي طاعته ،
قال سبحانه :""الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين "" (الزخرف 67) ،
وقد روى الترمذي أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال :
يا محمد ، الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ،
فقال صلى الله عليه وسلم : "" المرء مع من أحب "" .

وأما من أحب شخصا لهواه ، أو لدنياه ، أو لمصلحة عاجلة يرجوها منه ،
فهذه ليست محبة لله بل هي محبة لهوى النفس ،
وهى التى توقع أصحابها فى الكفر والفسوق والعصيان عياذاً بالله من ذلك .

أمور تعظم بها المحبة
وهناك أمور تزيد في توثيق هذا الرباط العظيم وتوطيده ،
حث عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها :
إعلام الأخ - الذي له في نفسك منزلة خاصة ، ومحبة زائدة عن الأخوة العامة التي لجميع المؤمنين بأنك تحبه ،
ففي الحديث : "" إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله ""
رواه الإمام أحمد وصححه الألباني وفي رواية مرسلة عن مجاهد رواها ابن أبي الدنيا
وحسنها الألباني "" فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة "" .

ومنها تبادل العلاقات الأخوية ، والإكثار من الصلات الودِّية ،
فكم أذابت الهدية من رواسب النفوس ، وكم أزال البدء بالسلام من دغل القلوب ،
وفي الحديث "" تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ""
رواه مالك في الموطأ ، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : "" لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ،
أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ""
رواه مسلم .

حقوق المحبة
وهناك حقوق بين المتحابين توجبها وتفرضها هذه المحبة ، ويُسْتَدل بها على صدق الأخوة وصفاء الحب ،
منها :
أن تحسب حساب أخيك فيما تجره إلى نفسك من نفع ، أو ترغب بدفعه عن نفسك من مكروه ،
وقد أوصى النبي- صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة بقوله : ( وأحب للمسلمين والمؤمنين ،
ما تحبه لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، تكن مؤمنا )
رواه ابن ماجة وحسنه الألباني .

ومنها ما تقدمه لأخيك من دعوات صالحات حيث لا يسمعك ولا يراك ، وحيث لا شبهة للرياء أو المجاملة ،
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ،
عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل )
رواه مسلم ،
هنا فائدة خطيرة [دعاء الملك مستجاب ودعاء البشر ربما يستجاب وربما لا]
ولذا كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه بدعاء متأكد من استجابته ،
دعا لأخيه بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب ويحصل له مثلها .

ومنها الوفاء والإخلاص والثبات على الحب إلى الموت ،
بل حتى بعد موت الأخ والحبيب ببر أولاده وأصدقائه ،
وقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - عجوزاً جاءت إليه ، وقال :
( إنها كانت تغشانا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان ) رواه الطبراني ،
ومن الوفاء أن لا يتغير الأخ على أخيه ، مهما ارتفع شأنه ، وعظم جاهه ومنصبه .

ومنها التخفيف وترك التكلف ،
فلا يكلِّفْ أخاه ما يشق عليه ، أو يكثر اللوم له ،
بل يكون خفيف الظل ،
قال بعض الحكماء :
[ من سقطت كلفته دامت ألفته ، ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل لإخوانك عليك ،
لا لنفسك عليهم ، فتنزل نفسك معهم منزلة الخادم ] .


ومنها بذل المال له ، وقضاء حاجاته والقيام بها ، وعدم ذكر عيوبه في حضوره وغيبته ،
والثناء عليه بما يعرفه من محاسن أحواله ، ودعاؤه بأحب الأسماء إليه .

ومنها التودد له والسؤال عن أحواله ، ومشاركته في الأفراح والأتراح ،
فيسر لسروره ، ويحزن لحزنه .
ومن ذلك أيضاً بذل النصح والتعليم له ، فليست حاجة أخيك إلى العلم والنصح بأقل من حاجته إلى المال ،
وينبغي أن تكون النصيحة سراً و من غير توبيخ .

وإن دخل الشيطان بين المتحابين يوماً من الأيام ، فحصلت الفرقة والقطيعة ،
فليراجع كل منهما نفسه ، وليفتش في خبايا قلبه [لا سيما الزوجان فهذا في حقهما آكد!]
فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما )
رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني .

هذه بعض فضائل المحبة في الله وحقوقها ،
وإن محبة لها هذا الفضل في الدنيا والآخرة لجديرة بالحرص عليها ،
والوفاء بحقوقها ، والاستزادة منها ،
""والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ""
(الحشر 10) .

ولهذا

ولهذا أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( قال الله : إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه ، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه ) .
ولهذا يبدا حب اللقاء او كره اللقاء كما يلي بعد الموت وقبل الدفن :
في حديث البراء بن عازب المشهور مزيد بيان وتوضيح
لما يحدث للصنفين في هذه الساعة يقول - صلى الله عليه وسلم - :
"" إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط - وهو ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم - من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام ، حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة - وفي رواية المطمئنة - اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء ، .........، وإن العبد الكافر - وفي رواية الفاجر - إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة ، سود الوجوه - وفي رواية غلاظ شداد - معهم المسوح (من النار) - وهو كساء غليظ من الشعر والمراد الكفن - ، فيجلسون منه مدَّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال فتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود - وهي حديدة ذات شعب متعددة - من الصوف المبلول ( فتقطع معها العروق والعصب )
رواه أحمد

ويجلوا حب اللقاء في قوله صلى الله عليه وسلم - :
"" إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت :
قَدِّموني ،
وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها : يا ويلها أين يذهبون بها ،
يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ،
ولو سمع الإنسان لصعق ""
رواه البخاري .