الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، أما بعد:
فإن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلا ة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))1، وإذا تأملنا في نصوص الكتاب والسنة نجد أن الله - تعالى- قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ2، فيظهر للقارئ جانب من التعارض حيث لاتعارض، ويتساءل: كيف يمكن الجمع بين قراءة الفاتحة والإنصات للإمام؛ لاسيما إذا لم يسكت الإمام بعد التأمين؟
وقد اختلف أهل العلم في قراءتها للمأموم: هل هي واجبة أم ليست واجبة؟
ولعلنا أن نستعرض مذاهبهم فيها:
أولاً:ذهب قوم إلى وجوب قراءتها للإمام والمأموم منهم الإمام البخاري - رحمه الله -، وبوب باباً اسماه "باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، وأدنى ما يجزي من القراءة"، فقال - رحمه الله -: "قال الله - عز وجل -: فاقرؤوا ما تيسر منه، وقال: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً، وقال: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هذه في المكتوبة والخطبة، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفي كل صلاة قراءة؟ قال: ((نعم)) قال: رجل من الأنصار: وجبت" إلى أن قال البخاري - رحمه الله -: وتواتر الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن))، وقال: بعض الناس يجزيه آية آية في الركعتين الأوليين بالفارسية، ولا يقرأ في الأخريين، وقال أبو قتادة - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الأربع، وقال: أبو هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن؛ فهي خداج))، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اقرأ خلف الإمام؟ قلت: وإن قرأت، قال: نعم، وإن قرأت، وكذلك قال أبي بن كعب، وحذيفة بن اليمان، وعبادة - رضي الله عنهم -، ويذكر عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وأبي سعيد الخدري، وعدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك - رضي الله عنهم أجمعين -، وقال: القاسم بن محمد "كان رجال أئمة يقرؤون خلف الإمام"، وقال أبو مريم: "سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأ خلف الإمام"، وقال: أبو وائل" عن ابن مسعود أنصت للإمام"، وقال الحسن، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وما لا أحصي من التابعين وأهل العلم: "إنه يقرأ خلف الإمام وإن جهر"، وكانت عائشة - رضي الله عنها - "تأمر بالقراءة خلف الإمام"3، فهذا كلام الإمام البخاري - رحمه الله - في وجوب قراءتها.
ثانياً: ذهب قوم إلى أن قراءتها لا تجب على المأموم لاسيما إذا تعارضت قراءتها مع الإنصات للإمام، وحجتهم: أن المأموم إذا لم يقرأ في الأربع جازت صلاته، واحتجوا - أيضاً - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة ))، ولم يقل لا يجزي، واحتجوا بالقياس فقالوا: إذا أدرك الركوع جازت؛ فكما أجزأته في الركعة كذلك تجزيه في الركعات، واحتجوا - أيضاً - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة))، واحتجوا - أيضاً - بقول الله - تعالى -: فاستمعوا له وأنصتوا، واحتجوا - أيضاً - بما روى علي بن صالح عن الأصبهاني عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة))، وروى داود بن قيس عن ابن نجاد - رجل من ولد سعد - عن سعد: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة"، واحتجوا - أيضاً - بما قال حماد": وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه سكراً"، وروى عمرو بن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: "من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له"، وقال ابن العربي - رحمه الله -: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا))، وَهَذَا نَصٌّ لَا مَطْعَنَ فِيهِ يُعَضِّدُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ"4، وإن المتأمل في الخلاف بين الفريقين يرى أن مرده إلى أمر رئيسي وهو: هل يمكن الجمع بين القراءة والاستماع والإنصات أم لا يمكن؟.
فما معنى الإنصات: قال النيسابوري - رحمه الله -: "قال الو احدي: "الإنصات هو ترك الجهر عند العرب، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع"، وأورد عليه أن غاية توجيهه هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن؛ لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع؛ لأن الاستماع عبارة عن كونه يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل، ولعل الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصات المفسر ممكن أي أن يحصل مع قراءة الإمام، وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ؛ إلا أنهم جوّزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وذلك كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب))، ولهذا ذهب الإمام مالك وهو القول القديم للشافعي "أنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملاً بمقتضى هذا النص، ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه الحالة"5.
ثالثاً: الراجح من خلال النظر في الأدلة:
يترجح من وجهة نظرنا مارجحه ابن العربي - رحمه الله - قائلاً: "وَاَلَّذِي نُرَجِّحُهُ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِسْرَارِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَأَمَّا الْجَهْرُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِيهِ؛ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، الثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ -: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، وَقَدْ عَضَّدَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: ((قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا))، الثَّانِي قَوْلُهُ: ((وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا)).
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّرْجِيحِ: أنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا، فَمَتَى يَقْرَأُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَقْرَأُ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ! قُلْنَا: السُّكُوتُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ، فَكَيْفَ يُرَكَّبُ فَرْضٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ َهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِه -ِ تَعَالَى -: وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ6.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وفقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، يا رحمن يا رحيم.


والحمد لله رب العالمين.