مقدمة الطبعة الحادية عشرة
لقد هممت أكثر من مرة أن ألغي هذا الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد طبعه!
وإني لأعلم أن هذا الكتاب بالذات هو أوسع كتبي انتشاراً وأكثرها طباعة، سواء في طبعته العربية أو في ترجماته التي ترجم إليها، باللغة الإنجليزية وبأكثر من لغة من لغات العالم الإسلامي، وسواء في طبعاته المشروعة التي طبعت بإذني وعلمي، أو طبعاته الأخرى التي طبعت بغير إذن مني ولا علم!
وإني لأعلم كذلك أن أكثر قراء هذا الكتاب هم من الشباب المسلم المتحمس بالذات، لأنهم يجدون فيه الرد على بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام في طريقهم، ولا يجدون الرد عليها حاضراً في أذهانهم، وأن الكتاب - لهذا - كان من بين أسلحة الشباب المسلم التي يخوض بها معركة الجدل مع أولئك الأعداء.
ومع علمي بهذا وذلك فقد هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره!
ولم يكن ذلك لأنني غيرت موقفي من " المعلومات " الواردة فيه - فيما عدا تعديلاً واحداً في فصل " الإسلام والرق " - ولكن لأنني غيرت موقفي من " منهج " الكتاب ذاته.
إن المنهج الذي يسير عليه الكتاب في صورته الراهنة هو إيراد الشبهة التي يثيرها أعداء الإسلام، ثم الرد عليها بما يبطلها. وذلك هو المنهج الذي تغير موقفي منه، فأصبحت أجد نفسي اليوم غير موافق عليه. ذلك لأنه يعطي الشبهة لونا من الأهمية لا تستحقه، ولوناً من الشرعية يستوجب منا الاحتفال والاهتمام. ثم.. كأنما دين الله المنزل في حاجة إلى جهد منا - نحن البشر - لإثبات أنه بريء من العيوب!
وحقيقة أنني حين قمت بتأليف الكتاب على هذا النحو منذ أكثر من عشرين عاماً كنت أستند - بيني وبين نفسي - إلى أن القرآن قد أورد شبهات المشركين وأهل الكتاب فيما يتعلق بالقرآن والوحي والرسول صلى الله عليه وسلم، بل بالذات الإلهية كذلك، ثم رد عليها بما يبطلها، دون أن يكون الرد قد أعطى لتلك الشبهات اعتباراً ولا شرعية، ولا أعطى شعوراً بأن الإسلام متهم يقف في موقف الدفاع!
وحقيقة كذلك أن الكتاب - وإن أخذ من حيث الشكل صورة الدفاع - فإنه في الواقع لم يكن دفاعاً بالمعنى المعروف، وإنما كان في مضمونه الحقيقي مهاجمة لتلك الأفكار الضالة التي تثير الشبهات حول الإسلام لجهلها بحقيقة الإسلام من جهة، ووقوعها من جهة أخرى في جاهلية فكرية وشعورية تزين لها الباطل المنحرف الذي تعيش فيه. وقد كانت حقيقة الهجوم هذه - لا صور الدفاع - هي التي أثارت المستشرق المعاصر " ولفرد كانتول سميث " في كتابه " الإسلام في التاريخ الحديث " فقال عن كتاب الشبهات ومؤلفه ما قال من عبارات حانقة مصحوبة بالسباب! وما كان ليثور هذه الثورة لو أن المسألة مجرد " دفاع " عن الإسلام! بل إنه هو ذاته قد أقر في عبارة صريحة بأن الذي يثيره هو هجوم المؤلف على حضارة الغرب ومفاهيمه في أثناء الحديث عن القضايا التي يثيرها أعداء الإسلام.
ومع ذلك فإن تجربتي في حقل الكتابة الإسلامية والدعوة الإسلامية خلال تلك الفترة من الزمان، قد دلتني على أن الرد على الشبهات ليس هو المنهج الصحيح في الدعوة ولا في الكتابة عن الإسلام.
إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر. وإنما من أجل " البيان " الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين. ثم لا بأس - في أثناء عرض هذه الحقائق - من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء سواء! وفي مثل هذا الجو في الحقيقة كانت ترد ردود القرآن على شبهات المشركين وأهل الكتاب!
ثم إن التجربة قد دلتني على شيء آخر.. إن معركة الجدل التي يخوضها الشباب المسلم المتحمس مع أعداء الإسلام، لا تستحق في الحقيقة ما يبذل فيها من الجهد!
إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة ولا رغبة في المعرفة، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة.
والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول في معركة جدلية معهم، ولو أفحمهم الرد في لحظتهم!
إنما الرد الحقيقي على خصوم الإسلام هو إخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام، فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه، ويسعون إلى الإكثار منه، وتوسيع رقعته في واقع الحياة.
هذا هو الذي " ينفع الناس فيمكث في الأرض "، وهذا هو مجال الدعوة الحقيقية للإسلام.
* * *
لهذه الأسباب كلها هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره، رغم ما أعرف من إقبال الشباب عليه في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، وفي أكثر من لغة من لغاته.
ولكن الأمر خرج من يدي بالنسبة لهذا الكتاب! فإن أنا منعت طبعته المشروعة، فلن آمن أن يطبع هنا وهناك بغير إذن مني، وبغير علم!
لذلك أكتفي ببيان هذه الحقيقة للناس، وبيان المنهج الصحيح الواجب الاتباع، ثم أعيد إصداره كما هو بغير تعديل، فيما عدا هذا التعديل الواحد الذي أشرت إليه في فصل " الإسلام والرق " تصحيحاً لبعض ما ورد فيه من مفاهيم.
والله أسأل أن ينفعنا بما نعمل وما نقول، وأن يهدينا إلى سواء السبيل. " وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ".
محمد قطب