هل سجدَ يحيى للمسيح ؟!

قالوا: ذكر المفسّرون أن يحيى u سجدَ للمسيح وهما أجنة في بطون أمهاتهم... وهذا يعني أن يحيى كان يعلم بإلوهيةِ المسيح ، لهذا سجدَ له...

وهذا في تفسيرِ الآيةِ التي تقولُ: ]فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أنّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ(39) [(آل عمران).

ورد في عدّة تفاسيرَ منها:

1- تفسير ابن أبي عادل: قال السديُّ: لقيت أمُّ عيسى، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى: أشعَرْتِ أنّي حُبْلَى؟: فقالت: مريم: وأنا - أيضًا - حُبْلَى، قالت امرأة زكريا: فإنّي وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قولُه: { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ }.
قال القرطبيُّ: « رُوِيَ أنّها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم ».
وقال ابنُ عباسٍ: إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر.
وقيلَ: بثلاث سنين، وكان يحيى أوّل من آمن به وصدق بأنّه كلمة الله وروحه.
وسمي عيسى u كلمة. قيل: لأنّه خُلقَ بكلمة مِنَ اللهِ { كُنْ فَيَكُونُ } من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يُسمّى المخلوقُ خَلْقًا، والمقدورُ قُدْرةً، والمرجُوُّ رجاءً، والمُشْتَهَى شهوةً - وهو بابٌ مشهورٌ في اللغةِ. اهـ

3- تفسير ابن كثيرٍ: قال ابنُ أبي حاتم: حدّثَنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال: أخبرنا عبد الرحمنِ بن القاسم قال: قال مالك -رحمَه اللهُ-: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إنّي أرى أنّ ما في بطني يسجد لما في بطنك. اهـ

قالوا: أليس هذا دليلًا على إلوهية المسيح، نبي سجد إلى إله...؟!


الردُّ على الشبهةِ

أولًا: إنّ هذه القصّة مصدرها الإسرائيليات، فهي ليست ظاهرةً مِنَ القرآنِ الكريمِ، وليست من أحاديثَ النبي محمد r بل هي قصص تناقلها بعضُ الصحابةِ والتابعينِ مِمّن ينقلون عن أهلِ الكتابِ...فأغلبها من صيغِ التمريضِ، وبلا إسناد، وإسناد ضعيف...
دل على ذلك التفاسير نفسها التي استدلوا بها :

1- تفسير القرطبيُّ: " رُوِيَ أنّها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم".
الملاحظُ كلمة " رُوِيَ" وهي من صيغ التمريض؛ التي في الغالب تدل على ضعف ما بعدها من أقوال أو أحوال...

2- تفسير ابن كثيرٍ: قال ابنُ أبي حاتم: حدّثَنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال: أخبرنا عبد الرحمنِ بن القاسم قال: قال مالك -رحمَه اللهُ-: بلغني أن عيسى ابن مريمu...

الملاحظُ كلمة: " بلغني " مِنَ الشخص الذي أبلغه...؟


3- تفسير ابن أبي عادل: قال السديُّ: لقيت أمُّ عيسى، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى: أشعَرْتِ أنّي حُبْلَى...؟.

الملاحظُ: لا إسناد للرواية...


إذًا مِنْ خلالِ ما سبقَ تبين نكارةَ القصّةِ وعدم قبولها، لعدم وجودها؛ فهي لم ترد في القرآنِ الكريمِ، ولا على لسان النبي محمد الأمين، وإنّما تناقلها بعضُ الصحابةِ والتابعينِ مِمّن ينقلون عن أهلِ الكتابِ(من أسلم، ومن لم يسلم)... وأغلبها من صيغِ التمريضِ، وبلا إسناد، وإسناد ضعيف...

كان ما سبق رد الشبهة من ناحية ضعف الإسناد ورفضه، وكان حق....


ثانيًا: إنّني أفترضُ جدلًا صحة الرواية التي لا تصح...
أقولُ: ليس فيها ما يقوي قول المُنصّرين... وذلك من ثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: تساؤلات كما يلي:
1- لماذا لم تعجب أمُّ يحيى حينما علمت أن أمَّ مريم حُبلى من دون زوج ، فلم تسأل عن الأب، والزواج....؟!

2- كيف رأت جنينها "يحيي" يسجد إلى الجنين " عيسى" هل بالأشعة التلفزيونية (السونار) ؟ أم في رؤيا مناميه ....؟!

الجواب: على فرض أنها كانت رؤيا مناميه، فرؤيتها ليست وحيًّا يتوجب علي أن أصدقه ولا أتركه....وذلك لأن الأنبياء رجال، وليس فيهم امرأة، ورؤيا الأنبياء وحي وجب تصديقه وقبوله...!

3- كيف يسجد جنين لجنين وكلاهما لا يدري شيئًا عن أي شيء ؟!


الوجه الثاني : بحسب الروايات الكاذبات علمنا أن عيسى المسيح كان جنينًا في بطن أمه ، ثم صار مولودًا....فهل هناك إله يخرج من رحم امرأة...؟!

بل العجيب أن قانون الإيمان الأرثوذوكسي يقول عن يسوع إنه الإله المولود غير المخلوق ....وعليه فإنه اعتراف ضمني أنّ يسوع الإله كان جنينًا في بطن أمه لا حول له ولا قوة ولكنه غير مخلوق!!
وهذا أول ما جاء في قانون الإيمان( المعروف باسم النيقاوي ـ القسطنيطيني) الأرثوذوكسي : " نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى. وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق......" !

الوجه الثالث: إنّ السجود في شرعِ من كان قبلنا يعني التعظيم والتبجيل والتحية ولا يعني العبادة كما كان مِن آدمَ، ويوسف –عليهما السلام-... وسوف يتقدّم بيان ذلك مِنَ الكتاب المقدّسِ نفسه...

فلو كانتِ الرؤية دليل على إلوهية المسيحِ u لأنْ يحيى سجد للمسيح u...

فليقولُوا أيضًا بأن يوسفَ إلهٌ؛ لأنّ أباه- النبيّ يعقوبu- وزوجته، والأحد عشرا ابنًا سجدوا جميعًا له u...

وذلك مِن قَولِه I: ]إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4) [(يوسف).

وقد تحققت الرؤيا بعد ذلك في قولِه I: ] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ(99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ مِنْ بعد أنّ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إنّه هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100) [(يوسف).

وبالتالي:
فهو سجود تكريم وتعظيم وتشريف ليوسف...
كما سجدت الملائكة لآدم؛ فلم يكن سجود عباده فالآمر هو الله نفسه...!
وهذا كاف لإثبات جهلهم أو تدليسهم...


ثالثًا: إنّ الكتابَ المقدّسَ أكد لقارئه أنّ السجود في شرائعِ من كانت قبل الإسلام قُصد منه التعظيم والتبجيل والتحية والتكريم ولا يعني العبادة...
جاء ذلك في مواضعَ كثيرة.... منها:

1- النبي سليمان سجد لامرأة، وذلك في سفرِ الملوك الأوّل أصحاح 2 عدد 19 " فَدَخَلَتْ بَثْشَبَعُ إِلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ لِتُكَلِّمَهُ عَنْ أَدُونِيَّا. فَقَامَ الْمَلِكُ لِلِقَائِهَا وَسَجَدَ لَهَا وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَوَضَعَ كُرْسِيًّا لأُمِّ الْمَلِكِ فَجَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ ".

2- النبي لوط سجد لملاكين ، وذلك في سفرِ التكوينِ أصحاح 19 عدد 1 " فَجَاءَ الْمَلاَكَانِ إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِسًا فِي بَابِ سَدُومَ. فَلَمَّا رَآهُمَا لُوطٌ قَامَ لاسْتِقْبَالِهِمَا، وَسَجَدَ بِوَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. 2وَقَالَ: "يَا سَيِّدَيَّ، مِيلاَ إِلَى بَيْتِ عَبْدِكُمَا وَبِيتَا وَاغْسِلاَ أَرْجُلَكُمَا، ثُمَّ تُبَكِّرَانِ وَتَذْهَبَانِ فِي طَرِيقِكُمَا". فَقَالاَ: " لاَ، بَلْ فِي السَّاحَةِ نَبِيتُ".

3- النبي إبراهيم سجد للشعب، وذلك في سفرِ التكوينِ أصحاح عدد 7 " فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الأَرْضِ، لِبَنِي حِثَّ ".

4- النبي يوسف سجد لعيسو، وذلك في سفرِ التكوينِ أصحاح 33 عدد 7" ثُمَّ اقْتَرَبَتْ لَيْئَةُ أَيْضًا وَأَوْلاَدُهَا وَسَجَدُوا. وَبَعْدَ ذلِكَ اقْتَرَبَ يُوسُفُ وَرَاحِيلُ وَسَجَدَا".

1- النبي يوحنّا سجد للملاك، وذلك في سفرِ رُؤْيَا يوحنّا أصحاح عدد 8 " وَأَنَا يوحنّا الَّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هذَا. وَحِينَ سَمِعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أمامَ رِجْلَيِ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُرِينِي هذَا".

ويبقى السؤال بعد هذه النصوص: هل من تم ذكرهم قد سجدوا لإلهةٍ...؟!
أم أنه سجود تحية وتعظيم وتكريم.... ؟!

قلتُ: وهذا السجود منهي عنه في دين الإسلام؛ فلا يسجد المسلم إلا للرحيم الرحمن...
وبعد هذا العرض فلا يحق لأحدٍ بعد البيان والبرهان بأنّ يصدق تلك الخرافة وهذا البهتان....
أكرم حسن مرسي