تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2016
    المشاركات
    39
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    20-09-2018
    على الساعة
    06:48 PM

    افتراضي تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال الله تعالى:

    إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

    قوله تعالى : إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم

    فيه ثمسائل :

    الأولى : قوله تعالى : إذ قالت امرأة عمران قال أبو عبيدة : ( إذ ) زائدة . وقال محمد بن يزيد : التقدير : اذكر إذ . وقال الزجاج : المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران . وهي حنة ( بالحاء المهملة والنون ) بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام ، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة . وفي العربية أبو حنة البدري ، ويقال فيه : أبو حبة ( بالباء بواحدة ) وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضا يقال له كذلك ; قال أبو نواس :

    يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي

    وحبة في العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاري ، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة ، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يعرف جنة ( بالجيم ) إلا أبو جنة ، وهو خال ذي الرمة الشاعر . كل هذا من كتاب ابن ماكولا .

    الثانية : قوله تعالى : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا تقدم معنى النذر ، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه . ويقال : إنها لما حملت قالت : لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا . ومعنى لك أي لعبادتك . محررا نصب على الحال ، وقيل : نعت لمفعول محذوف ، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا ، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب : أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع ، ويجوز على المجاز في أخرى ، وأما التفسير فقيل إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك ، ودعت ربها أن يهب لها ولدا ، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا : أي عتيقا خالصا لله تعالى ، خادما للكنيسة حبيسا عليها ، مفرغا لعبادة الله تعالى . وكان ذلك جائزا في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم . فلما وضعت مريم قالت : رب إني وضعتها أنثى يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة . قيل لما يصيبها من الحيض والأذى . وقيل : لا تصلح لمخالطة الرجال . وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت .

    الثالثة : قال ابن العربي : لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة ، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله ; فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك ; وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له ، وكذلك المرأة مثله ; فأي وجه للنذر فيه ؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي ، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه ; فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه ، وهو على خدمة الله تعالى موقوف ، وهذا نذر الأحرار من الأبرار . وأرادت به محررا من جهتي ، محررا من رق الدنيا وأشغالها ; وقد قال رجل من الصوفية لأمه : يا أمه : ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم ، فقالت : نعم . فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب ، فقالت من ؟ فقال لها : ابنك فلان ، قالت : قد تركناك لله ولا نعود فيك .

    الرابعة : قوله تعالى : محررا مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية ; من هذا تحرير الكتاب ، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد . وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد : أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا . وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص : حر ، ومحرر بمعناه ; قال ذو الرمة :

    والقرط في حرة الذفرى معلقه تباعد الحبل منه فهو يضطرب

    وطين حر لا رمل فيه ، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة ; فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء .

    -

    فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

    قوله تعالى : فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى قال ابن عباس : إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور ، فقبل الله مريم . و أنثى حال ، وإن شئت بدل . فقيل : إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها ; رواه أشهب عن مالك : وقيل : لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد ، فوفت بنذرها وتبرأت منها . ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام ; ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماتت . الحديث .

    قوله تعالى : والله أعلم بما وضعت هو على قراءة من قرأ " وضعت " بضم التاء من جملة كلامها ; فالكلام متصل . وهي قراءة أبي بكر وابن عامر ، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء ، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن ، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى . وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم ، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم والله أعلم بما وضعت ; قال المهدوي . وقال مكي : هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال : والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله . ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام : وأنت أعلم بما وضعت ; لأنها نادته في أول الكلام في قولها : رب إني وضعتها أنثى . وروي عن ابن عباس ( بما وضعت ) بكسر التاء ، أي قيل لها هذا .

    قوله تعالى : وليس الذكر كالأنثى استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها ، ابن العربي ، وهذه منه غفلة ، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به ، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها ، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها . ولم ينصرف ( مريم ) لأنه مؤنث معرفة ، وهو أيضا أعجمي ; قاله النحاس . والله تعالى أعلم .

    قوله تعالى : وإني سميتها مريم يعني خادم الرب في لغتهم . وإني أعيذها بك يعني مريم . وذريتها يعني عيسى . وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ثم قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم ، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها . قال قتادة : كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لهما منه شيء ، قال علماؤنا : وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما ، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد ; فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين ; كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته ، والله أعلم


    -

    فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

    قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب

    قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن المعنى : سلك بها طريق السعداء ; عن ابن عباس . وقال قوم : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها . وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار . وأنبتها نباتا حسنا يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد . والقبول والنبات مصدران على غير المصدر ، والأصل تقبلا وإنباتا . قال الشاعر :

    أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

    أراد بعد إعطائك ، لكن لما قال أنبتها دل على نبت ; كما قال امرؤ القيس :

    فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال

    وإنما مصدر ذلت ذل ، ولكنه رده على معنى أذللت ; وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب . فمعنى تقبل وقبل واحد ، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن . ونظيره قول رؤبة :

    وقد تطويت انطواء الحضب

    الأفعى لأن معنى تطويت وانطويت واحد ; ومثله قول القطامي :

    وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا

    لأن تتبعت واتبعت واحد . وفي قراءة ابن مسعود ( وأنزل الملائكة تنزيلا ) لأن معنى نزل وأنزل واحد . وقال المفضل : معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا . ومراعاة المعنى أولى كما ذكرنا . والأصل في القبول الضم ; لأنه مصدر مثل الدخول والخروج ، والفتح جاء في حروف قليلة ; مثل الولوع والوزوع ; هذه الثلاثة لا غير ; قال أبو عمر والكسائي والأئمة . وأجاز الزجاج ( بقبول ) بضم القاف على الأصل .

    قوله تعالى : وكفلها زكريا أي ضمها إليه . أبو عبيدة : ضمن القيام بها . وقرأ الكوفيون وكفلها بالتشديد ، فهو يتعدى إلى مفعولين ; والتقدير وكفلها ربها زكريا ، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له . وفي مصحف أبي ( وأكفلها ) والهمزة كالتشديد في التعدي ; وأيضا فإن قبله فتقبلها ، و أنبتها فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها ; فجاء كفلها بالتشديد على ذلك . وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا . فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها ; بدلالة قوله : أيهم يكفل مريم . قال مكي : وهو الاختيار ; لأن التشديد يرجع إلى التخفيف ، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله ، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته ; فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان . وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني " وكفلها " بكسر الفاء . قال الأخفش : يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل ، وقد ذكرت . وقرأ مجاهد " فتقبلها " بإسكان اللام على المسألة والطلب . " ربها " بالنصب نداء مضاف . " وأنبتها " بإسكان التاء " وكفلها " بإسكان اللام " زكرياء " بالمد والنصب . وقرأ حفص وحمزة والكسائي زكريا بغير مد ولا همزة ، ومده الباقون وهمزوه . وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون " زكرياء " ويقصرونه ، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكري . قال الأخفش : فيه أربع لغات : المد والقصر ، وزكري بتشديد الياء والصرف ، وزكر ورأيت زكريا . قال أبو حاتم : زكري بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط ; لأن ما كان فيه " يا " مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى ، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف .

    قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا إلى قوله إنك سميع الدعاء

    فيه مسائل :

    قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس . وسيأتي له مزيد بيان في سورة ( مريم ) . وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم . قال وضاح اليمن :

    ربة محراب إذا جئتها لم ألقها حتى أرتقي سلما

    أي ربة غرفة . روى أبو صالح عن ابن عباس قال : حملت امرأة عمران بعدما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كانت أنثى ؟ فاغتما لذلك جميعا . فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن ، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي ، على ما يأتي . فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقى إليه إلا بسلم ، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا ، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت ، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي . قال مقاتل : كانت أختها امرأة زكريا . وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب . وقال بعضهم : كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض . وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال : يا مريم أنى لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله . فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال : إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا . ومعنى أنى من أين ; قاله أبو عبيدة . قال النحاس : وهذا فيه تساهل ; لأن " أين " سؤال عن المواضع و " أنى " سؤال عن المذاهب والجهات . والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا . وقد فرق الكميت بينهما فقال :

    أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب

    و كلما منصوب ب وجد ، أي كل دخلة .

    إن الله يرزق من يشاء بغير حساب قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا ; فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد .

    -

    وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

    قوله تعالى : وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين

    قوله تعالى : إن الله اصطفاك أي اختارك ، وقد تقدم .

    وطهرك أي من الكفر ; عن مجاهد والحسن . الزجاج : من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما ، واصطفاك لولادة عيسى .

    على نساء العالمين يعني عالمي زمانها ; عن الحسن وابن جريج وغيرهما . وقيل : على نساء العالمين أجمع إلى يوم الصور ، وهو الصحيح على ما نبينه ، وهو قول الزجاج وغيره . وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته ، ومعنى الثاني لولادة عيسى .

    وروى مسلم عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الكمال هو التناهي والتمام ; ويقال في ماضيه " كمل " بفتح الميم وضمها ، ويكمل في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبه . والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة . ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين . وإذا تقرر هذا فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين ، وقد قيل بذلك . والصحيح أن مريم نبية ; لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في " مريم " . وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها ، على ما يأتي بيانه في ( التحريم ) . وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة : خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد . ومن حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . وفي طريق آخر عنه : سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة . فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ; فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ; فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء : الأولين والآخرين مطلقا . ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية . وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية . وهذا حديث حسن يرفع الإشكال . وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء ; وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة ; فليس هذا لأحد من النساء . وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا - صلى الله عليه وسلم - من الآية ; ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال : وأمه صديقة . وقال : وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت . وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال : أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر ، فسأل آية . وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها : كذلك قال ربك فاقتصرت على ذلك ، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب . ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة ; جاء في الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - : لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران . وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا سيد ولد آدم ولا فخر وقوله حيث يقول : لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول ، وأول . فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن . وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية . ومن قال لم تكن نبية قال : إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل - عليه السلام - في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء ، والأول أظهر ، وعليه الأكثر ، والله أعلم .

    =

    يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

    قوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين

    أي أطيلي القيام في الصلاة ; عن مجاهد . قتادة : أديمي الطاعة . وقد تقدم القول في القنوت . قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا عليها السلام .

    واسجدي واركعي قدم السجود هاهنا على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب ; وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله . فإذا قلت : قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد ، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي . وقيل : كان شرعهم السجود قبل الركوع .

    قوله تعالى : مع الراكعين قيل : معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم . وقيل : المراد به صلاة الجماعة . وقد تقدم في البقرة .

    -

    ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

    قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون

    فيه أربع مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب . نوحيه إليك فيه دلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب ; وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك ; فذلك قوله تعالى : نوحيه إليك فرد الكناية إلى " ذلك " فلذلك ذكر . والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك . وأصله في اللغة إعلام في خفاء ; ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا ; ومنه وإذ أوحيت إلى الحواريين وقوله : وأوحى ربك إلى النحل وقيل : معنى أوحيت إلى الحواريين أمرتهم ; يقال : وحى وأوحى ، ورمى وأرمى ، بمعناه . قال العجاج :

    أوحى لها القرار فاستقرت أي أمر الأرض بالقرار

    .

    وفي الحديث : ( الوحي الوحي ) وهو السرعة ; والفعل منه توحيت توحيا . قال ابن فارس : الوحي الإشارة والكتابة والرسالة ، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه وحي كيف كان . والوحي : السريع . والوحي : الصوت ; ويقال : استوحيناهم أي استصرخناهم . قال :

    أوحيت ميمونا لها والأرزاق

    الثانية : قوله تعالى : وما كنت لديهم أي وما كنت يا محمد لديهم ، أي بحضرتهم وعندهم . إذ يلقون أقلامهم جمع قلم ; من قلمه إذا قطعه . قيل : قداحهم وسهامهم . وقيل : أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ، وهو أجود ; لأن الأزلام قد نهى الله عنها فقال ذلكم فسق . إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها . أيهم يكفل مريم أي يحضنها ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، خالتها عندي . وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم . وقال بنو إسرائيل : نحن أحق بها ، بنت عالمنا . فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه ، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فجرت الأقلام وعال قلم زكريا . وكانت آية له ; لأنه نبي تجري الآيات على يديه . وقيل غير هذا . و أيهم يكفل مريم ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام ; التقدير : ينظرون أيهم يكفل مريم . ولا يعمل الفعل في لفظ ( أي ) لأنها استفهام .

    الثالثة : استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة ، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة ، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة . ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه ، وردوا الأحاديث الواردة فيها ، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها . وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال : القرعة في القياس لا تستقيم ، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة . قالأبو عبيد : وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال ابن المنذر . واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ، فلا معنى لقول من ردها . وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات ( باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل إذ يلقون أقلامهم ) وساق حديث النعمان بن بشير : مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها مثل قوم استهموا على سفينة . . . الحديث . وسيأتي في " الأنفال " إن شاء الله تعالى ، وفي سورة " الزخرف " أيضا بحول الله سبحانه ، وحديث أم العلاء ، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين الحديث ، وحديث عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ; وذكر الحديث .

    وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك ; فقال مرة : يقرع للحديث . وقال مرة : يسافر بأوفقهن له في السفر . وحديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه استهموا . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف . واحتج أبو حنيفة بأن قال : إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز . قال ابن العربي : " وهذا ضعيف ، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح ; فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصح لأحد أن يقول : إن القرعة تجري مع موضع التراضي ، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي ، وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به . وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها : أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج ، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه .

    الرابعة : ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة ، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنة حمزة - واسمها أمة الله - لجعفر وكانت عنده خالتها ، وقال : إنما الخالة بمنزلة الأم وقد تقدمت في البقرة هذه المسألة . وخرج أبو داود عن علي قال : خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر : أنا آخذها أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي ، وإنما الخالة أم . فقال علي : أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي أحق بها . وقال زيد : أنا أحق بها ، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها ; فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثا قال : وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم . وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة ، فتكون الخالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها .

    -

    إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ

    قوله تعالى : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

    دليل على نبوتها كما تقدم . " وإذ " متعلقة ب يختصمون . ويجوز أن تكون متعلقة بقوله : وما كنت لديهم .

    بكلمة منه وقرأ أبو السمان بكلمة منه وقد تقدم اسمه المسيح ولم يقل اسمها لأن معنى كلمة معنى ولد . والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق ; قاله إبراهيم النخعي . وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك . وقال ابن فارس : والمسيح العرق ، والمسيح الصديق ، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه والمسح الجماع ; يقال مسحها . والأمسح : المكان الأملس . والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها . وبفلان مسحة من جمال . والمسائح قسي جياد ، واحدتها مسيحة . قال :

    لها مسائح زور في مراكضها لين وليس بها وهن ولا رقق

    واختلف في المسيح ابن مريم مما ذا أخذ ; فقيل : لأنه مسح الأرض ، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن . وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ ; فكأنه سمي مسيحا لذلك ، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل . وقيل : لأنه ممسوح بدهن البركة ، كانت الأنبياء تمسح به ، طيب الرائحة ; فإذا مسح به علم أنه نبي . وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين . وقيل : لأن الجمال مسحه ، أي أصابه وظهر عليه . وقيل : إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب . وقال أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ ; يقال : مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا ، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا . وقالابن الأعرابي : المسيح الصديق ، والمسيخ الأعور ، وبه سمي الدجال . وقال أبو عبيد : المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى . وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين . وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين . وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة . وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف ; والأول أشهر . وعليه الأكثر . سمي به لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ; فهو فعيل بمعنى فاعل ، فالدجال يمسح الأرض محنة ، وابن مريم يمسحها منحة . وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول . وقال الشاعر :

    إن المسيح يقتل المسيخا

    وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة الحديث . ووقع في حديث عبد الله بن عمرو ( إلا الكعبة وبيت المقدس ) ذكره أبو جعفر الطبري . وزاد أبو جعفر الطحاوي ( ومسجد الطور ) ; رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس . وذكر الحديث . وفي صحيح مسلم : فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله الحديث بطوله . وقد قيل : إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به . فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو . وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ; لأن فيه ألف تأنيث . ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه .

    وجيها أي شريفا ذا جاه وقدر ، وانتصب على الحال ; قاله الأخفش . ومن المقربين عند الله تعالى وهو معطوف على وجيها أي ومقربا ; قاله الأخفش . وجمع وجيه وجهاء ووجهاء .

    -

    وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ

    ويكلم الناس عطف على ( وجيها ) قاله الأخفش أيضا . و ( المهد ) مضجع الصبي في رضاعه . ومهدت الأمر هيأته ووطأته . وفي التنزيل فلأنفسهم يمهدون . وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير . وكهلا الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة . وامرأة كهلة . واكتهلت الروضة إذا عمها النور . يقول : يكلم الناس في المهد آية ، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة . وقال أبو العباس : كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال : إني عبد الله الآية . وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : إني عبد الله كما قال في المهد . فهاتان آيتان وحجتان . قال المهدوي : وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا ، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش . قال الزجاج : وكهلا بمعنى ويكلم الناس كهلا . وقال الفراء والأخفش : هو معطوف على ( وجيها ) . وقيل : المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا . وروى ابن جريج عن مجاهد قال : الكهل الحليم . قال النحاس : هذا لا يعرف في اللغة ، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين . وقال بعضهم : يقال له حدث إلى ست عشرة سنة . ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين . ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين ; قاله الأخفش . ( ومن الصالحين ) عطف على ( وجيها ) أي وهو من العباد الصالحين . ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف . قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج ، كذا قال : " وصاحب يوسف " . وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه وذكر الحديث بطوله . وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي . في غير كتاب مسلم يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام : يا أمه ! اصبري فإنك على الحق . وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف ، وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الجبار . ولم يذكر الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود وبه يكون المتكلمون سبعة . ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحي إليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به .

    قلت : أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه ، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم . وستأتي قصة الأخدود في سورة " البروج " إن شاء الله تعالى . وأما صبي ماشطة امرأة فرعون ، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت : بسم الله . قالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك . قالت : أولك رب غير أبي ؟ قالت : نعم ربي وربك ورب أبيك الله . قال : فدعاها فرعون ، فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ربي وربك الله . قال : فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد . قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق . فأمر بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق . قال : وتكلم أربعة وهم صغار : هذا ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم .

    -

    قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ

    قوله تعالى : قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

    قوله تعالى : قالت رب أي يا سيدي . تخاطب جبريل عليه السلام ; لأنه لما تمثل لها قال لها : إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا . فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت : أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ أي بنكاح . في سورتها ولم أك بغيا ذكرت هذا تأكيدا ; لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحرام والحلال . تقول : العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا عن نكاح أو سفاح . وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد : أمن قبل زوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟

    فروي أن جبريل - عليه السلام - حين قال لها : كذلك الله يخلق ما يشاء ، قال كذلك قال ربك هو علي هين . نفخ في جيب درعها وكمها ; قال ابن جريج . قال ابن عباس : أخذ جبريل ردن قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى . وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى . وقال بعضهم : وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت بذلك . وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء وبعضه في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا ، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها ، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها ; لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل ، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك ; فذلك قوله تعالى : إذا قضى أمرا يعني إذا أراد أن يخلق خلقا فإنما يقول له كن ، وقد تقدم في " البقرة " القول فيه مستوفى .

    -

    وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ

    قوله تعالى : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل

    قوله تعالى : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل قال ابن جريج : الكتاب الكتابة والخط . وقيل : هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام .

    -

    وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا

    ثم كرر وبكفرهم ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر . وقيل : المعنى وبكفرهم بالمسيح ؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه ، والعامل في " بكفرهم " هو العامل في " بنقضهم " لأنه معطوف عليه ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه طبع . والبهتان العظيم : رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم . والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم .

    -

    يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا

    قوله تعالى : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا

    قوله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم نهي عن الغلو . والغلو التجاوز في الحد ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء ؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها ؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا ؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ؛ ولذلك قال مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين ؛ وقال الشاعر :

    وأوف ولا تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

    كلا طرفي قصد الأمور ذميم

    وقال آخر :

    عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا

    وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله .

    قوله تعالى : ولا تقولوا على الله إلا الحق أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا . ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وفيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : إنما المسيح المسيح رفع بالابتداء ؛ و عيسى بدل منه وكذا ابن مريم . ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم . ودل بقوله : عيسى ابن مريم على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها ، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا . ويكون رسول الله خبرا بعد خبر .

    الثانية : لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ ، ولا يبتذلون أسماءهن ؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك ؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها ؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله باسمها ، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها ؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها .

    الثالثة : اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب ، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه ، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله ، والله أعلم .

    قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم أي هو مكون بكلمة " كن " فكان بشرا من غير أب ؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه . وقيل : كلمته بشارة الله تعالى مريم عليها السلام ، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام ؛ وذلك قوله : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه . وقيل : " الكلمة " هاهنا بمعنى الآية ؛ قال الله تعالى : وصدقت بكلمات ربها و ما نفدت كلمات الله . وكان لعيسى أربعة أسماء ؛ المسيح وعيسى وكلمة وروح ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن . ومعنى ألقاها إلى مريم أمر بها مريم .

    قوله تعالى : وروح منه هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال ؛ فقالوا : عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا ؛ وعنه أجوبة ثمانية : الأول : قال أبي بن كعب : خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ؛ ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ؛ فلهذا قال : وروح منه . وقيل : هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه ؛ وهذا كقوله : وطهر بيتي للطائفين ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ، وتضاف إلى الله تعالى فيقال : هذا روح من الله أي من خلقه ؛ كما يقال في النعمة إنها من الله . وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم . وقيل : يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام ، ويسمى النفخ روحا ؛ لأنه ريح يخرج من الروح . قال الشاعر - هو ذو الرمة :

    فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا

    وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله ؛ وعلى هذا يكون وروح منه معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في ألقاها التقدير : ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم . وقيل : روح منه أي من خلقه ؛ كما قال : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه أي من خلقه . وقيل : روح منه أي رحمة منه ؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ؛ ومنه قوله تعالى : وأيدهم بروح منه أي برحمة ، وقرئ : " فروح وريحان " . وقيل : وروح منه وبرهان منه ؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله ، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها . ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة عن الزجاج . قال ابن عباس : يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه . وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة ؛ كقوله تعالى : سيقولون ثلاثة . قال أبو علي : التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة ؛ فحذف المبتدأ والمضاف . والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون : إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم ؛ فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ؛ فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح ، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين . ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ؛ فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام ، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام ، مثل قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى ، وغير ذلك ؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء ؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام ، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى ؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن ، ويكذبون من أتى به ، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر . وقد قيل : إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى ؛ يصلون إلى القبلة ؛ ويصومون شهر رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس ، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار ؛ وكان له فرس يقال لها العقاب ، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى : أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ؛ فخرج وقال : نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله ، ثم توجه إلى اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله . وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك ؛ ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له ؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له : أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها ، فادع الناس إلى نحلتك ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد منهم طائفة ، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث ؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال ؛ والله أعلم . وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى : فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسيأتي إن شاء الله تعالى .

    قوله تعالى : انتهوا خيرا لكم خيرا منصوب عند سيبويه بإضمار فعل ؛ كأنه قال : ائتوا خيرا لكم ، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم ؛ قال سيبويه : ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره انتهوا خيرا لكم لأنك إذا قلت : ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر ؛ وأنشد :

    فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا

    ومذهب أبي عبيدة : انتهوا يكن خيرا لكم ؛ قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه ، وهذا لا يوجد في كلام العرب . ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف ؛ قال علي بن سليمان : هذا خطأ فاحش ؛ لأنه يكون المعنى : انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم .

    قوله تعالى : إنما الله إله واحد هذا ابتداء وخبر ؛ وواحد نعت له . ويجوز أن يكون إله بدلا من اسم الله عز وجل وواحد خبره ؛ التقدير إنما المعبود واحد .

    سبحانه أن يكون له ولد أي تنزيها عن أن يكون له ولد ؛ فلما سقط " عن " كان أن في محل النصب بنزع الخافض ؛ أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له ، ولا شبيه لله عز وجل . له ما في السماوات وما في الأرض فلا شريك له ، وعيسى ومريم من جملة ما في السماوات وما في الأرض ، وما فيهما مخلوق ، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له . وكفى بالله وكيلا أي لأوليائه ؛ وقد تقدم .

    -

    لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

    قوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم تقدم في آخر " النساء " بيانه والقول فيه . وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به ; لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا . قل فمن يملك من الله شيئا أي : من أمر الله . و ( يملك ) بمعنى يقدر ; من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه . أي : فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا ؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره ، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها ; فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران ، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية ، وقال وما بينهما ولم يقل وما بينهن ; لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي :

    طرقا فتلك هماهمي أقريهما قلصا لواقح كالقسي وحولا

    فقال : " طرقا " ثم قال : " فتلك هماهمي " . يخلق ما يشاء عيسى من أم بلا أب آية لعباده .

    -

    تكملة

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2016
    المشاركات
    39
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    20-09-2018
    على الساعة
    06:48 PM

    افتراضي

    مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ? كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ? انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى? يُؤْفَكُونَ

    قوله تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

    قوله تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ابتداء وخبر ; أي : ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل ; فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها ; فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم ، ثم بالغ في الحجة فقال : وأمه صديقة ابتداء وخبر كانا يأكلان الطعام أي : أنه مولود مربوب ، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين ; ولم يدفع هذا أحد منهم ، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا ؟ ! وقولهم : كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط ، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله ، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا ، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال : اللاهوت مخالط لكل محدث ، وقال بعض المفسرين في قوله : كانا يأكلان الطعام إنه كناية عن الغائط والبول ، وفي هذا دلالة على أنهما بشران ، وقد استدل من قال : إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى : وأمه صديقة .

    قلت : وفيه نظر ، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام ; وقد مضى في " آل عمران " ما يدل على هذا . والله أعلم . وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به . عن الحسن وغيره . والله أعلم .

    قوله تعالى : انظر كيف نبين لهم الآيات أي الدلالات . ثم انظر أنى يؤفكون أي : كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ; يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه ، وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة .

    -

    وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

    قوله تعالى : واذكر في الكتاب مريم القصة إلى آخرها . هذا ابتداء قصة ليست من الأولى . والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا . إذ انتبذت أي تنحت وتباعدت . والنبذ الطرح والرمي ؛ قال الله تعالى : فنبذوه وراء ظهورهم . من أهلها أي ممن كان معها . وإذ بدل من مريم بدل اشتمال ؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها . والانتباذ الاعتزال والانفراد . واختلف الناس لم انتبذت ؛ فقال السدي : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس . وقال غيره : لتعبد الله ؛ وهذا حسن . وذلك أن مريم - عليها السلام - كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه ، فتنحت من الناس لذلك ، ودخلت في المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة ، فدخل عليها جبريل - عليه السلام - .

    فقوله : مكانا شرقيا أي مكانا من جانب الشرق . والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس . والشرق بفتح الراء الشمس . وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار ، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها ؛ حكاه الطبري . وحكي عن ابن عباس أنه قال : إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله - عز وجل - : إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذوا ميلاد عيسى - عليه السلام - قبلة ؛ وقالوا : لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى - عليه السلام - فيه . واختلف الناس في نبوة مريم ؛ فقيل : كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك . وقيل : لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام . والأول أظهر . وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في ( آل عمران ) والحمد لله .

    -

    فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

    قوله تعالى : فأرسلنا إليها روحنا قيل : هو روح عيسى - عليه السلام - ؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد ، فركب الروح في جسد عيسى - عليه السلام - الذي خلقه في بطنها . وقيل : هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة . والظاهر أنه جبريل - عليه السلام - ؛ لقوله : فتمثل لها أي تمثل الملك لها . بشرا تفسير أو حال . سويا أي مستوي الخلقة ؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته . ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء .

    -

    قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَ?نِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا

    ف قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي ممن يتقي الله . البكالي : فنكص جبريل - عليه السلام - فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى . الثعلبي : كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا . وقيل : تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه . في البخاري قال أبو وائل : علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت : إن كنت تقيا . وقيل : تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت ؛ قاله وهب بن منبه ؛ حكاه مكي وغيره . ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص .

    -

    قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا

    فقال لها جبريل - عليه السلام - : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا . جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله . وقرأ ورش عن نافع ( ليهب لك ) على معنى أرسلني الله ليهب لك . وقيل : معنى ( لأهب ) بالهمز محمول على المعنى ؛ أي قال : أرسلته لأهب لك . ويحتمل ( ليهب ) بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة . فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه .

    -

    قَالَتْ أَنَّى? يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا

    ف قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر أي بنكاح . ولم أك بغيا أي زانية . وذكرت هذا تأكيدا ؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام . وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد ؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ وروي أن جبريل - عليه السلام - حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها ؛ قاله ابن جريج . ابن عباس : أخذ جبريل - عليه السلام - ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى . قال الطبري : وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين ، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة .

    -

    قَالَ كَذَ?لِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ? وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ? وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا

    وقوله : ولنجعله متعلق بمحذوف ؛ أي ونخلقه لنجعله . آية دلالة على قدرتنا عجيبة . ورحمة لمن آمن به . وكان أمرا مقضيا مقدرا في اللوح مسطورا .

    -

    ? فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا

    قوله تعالى : فانتبذت به مكانا قصيا أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد ؛ قال ابن عباس : إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال ؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج . قال ابن عباس : ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل . وقيل غير ذلك على ما يأتي :

    -

    فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى? جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَ?ذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا

    قوله تعالى : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ( أجاءها ) اضطرها ؛ وهو تعدية جاء بالهمز . يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ، كما يقال : ذهب به وأذهبه . وقرأ شبيل ورويت عن عاصم ( فاجأها ) من المفاجأة . وفي مصحف أبي ( فلما أجاءها المخاض ) .

    وقال زهير :

    وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

    وقرأ الجمهور المخاض بفتح الميم . وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها . مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا . وناقة ماخض أي دنا ولادها . إلى جذع النخلة كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق . والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة .

    قالت يا ليتني مت قبل هذا تمنت مريم - عليها السلام - الموت من جهة الدين لوجهين : أحدهما : أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك . الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك . وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا ، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة يوسف - عليه السلام - والحمد لله .

    قلت : وقد سمعت أن مريم - عليها السلام - سمعت نداء من يقول : اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك . و قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه . وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا : احفظوا أنساءكم ؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى . ومنه قول الكميت - رضي الله تعالى عنه - :

    أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل

    وقال الفراء : النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ؛ فقول مريم : ( نسيا منسيا ) أي حيضة ملقاة . وقرئ ( نسيا ) بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر . وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز ( نسئا ) بكسر النون . وقرأ نوف البكالي ( نسئا ) بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره . وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب . وقرأ بكر بن حبيب ( نسا ) بتشديد السين وفتح النون دون همز . وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى - عليه السلام - حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ؛ قال السدي فذلك قوله : مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار ، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك . قال الكلبي : قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنا - فالآن يقتلها الملك ، فهرب بها ، فهم في الطريق بقتلها ، فأتاه جبريل - عليه السلام - وقال له : إنه من روح القدس ؛ قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف . وهذه القصة تقتضي أنها حملت ، واستمرت حاملا على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر . قاله عكرمة ؛ ولذلك قيل : لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى . وقيل : ولدته لتسعة . وقيل : لستة . وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر . والله أعلم .

    -

    فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

    قوله تعالى : فناداها من تحتها قرئ بفتح الميم وكسرها . قال ابن عباس : المراد ب ( من ) جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة ؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم . وقوله : ألا تحزني تفسير النداء ، ( وأن ) مفسرة بمعنى أي ، المعنى : فلا تحزني بولادتك . قد جعل ربك تحتك سريا يعني عيسى . والسري من الرجال العظيم الخصال السيد . قال الحسن : كان والله سريا من الرجال . ويقال : سري فلان على فلان أي تكرم . وفلان سري من قوم سراة . وقال الجمهور : أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة . قال ابن عباس : كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم . والنهر يسمى سريا ؛ لأن الماء يسري فيه ؛ قال الشاعر :

    سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا

    وقال لبيد :

    فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها

    وقيل : ناداها عيسى ، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها ؛ والأول أظهر . وقرأ ابن عباس ( فناداها ملك من تحتها ) قالوا : وكان جبريل - عليه السلام - في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها .

    -

    وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا

    قوله تعالى وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فيه أربع مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : وهزي أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع . والباء في قوله : بجذع زائدة مؤكدة كما يقال : خذ بالزمام ، وأعط بيدك قال الله تعالى : فليمدد بسبب إلى السماء أي فليمدد سببا . وقيل : المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة . و تساقط أي تتساقط فأدغم التاء في السين . وقرأ حمزة ( تساقط ) مخففا فحذف التي أدغمها غيره . وقرأ عاصم في رواية حفص تساقط بضم التاء مخففا وكسر القاف . وقرئ ( تتساقط ) بإظهار التاءين و ( يساقط ) بالياء وإدغام التاء ( وتسقط ) و ( يسقط ) و ( تسقط ) و ( يسقط ) بالتاء للنخلة وبالياء للجذع ؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري - رحمة الله تعالى عليه - .

    رطبا نصب بالهز ؛ أي إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا جنيا وعلى الجملة ف ( رطبا ) يختلف نصبه بحسب معاني القراءات ؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع ، ومرة إلى الهز ، ومرة إلى النخلة . وجنيا معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهي من جنيت الثمرة . ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ ( تساقط عليك رطبا جنيا برنيا ) . وقال مجاهد : رطبا جنيا قال : كانت عجوة . وقال عباس بن الفضل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله : رطبا جنيا فقال : لم يذو . قال : وتفسيره : لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه ؛ وهذا هو الصحيح . قال الفراء : الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح . وقال غير الفراء : الجني المقطوع من نخلة واحدة ، والمأخوذ من مكان نشأته ؛ وأنشدوا :

    وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب

    يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ . قال ابن عباس : كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع ، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ، ثم رطبا ؛ كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء .

    الثانية : استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما ؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية ، وكانت الآية تكون بألا تهز .

    الثالثة : الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل ، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة ؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه . وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا الآية . فلما ولدت أمرت بهز الجذع . قال علماؤنا : لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، وكلها إلى كسبها ، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده . وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى - عليه السلام - قال لها : لا تحزني ؛ فقالت له : وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة ! أي شيء عذري عند الناس ؟ ! يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام .

    الرابعة : قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ؛ ولذلك قالوا : التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك . وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل ؛ ذكره الزمخشري . قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى : رطبا جنيا الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد . والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب ؛ فهذا مكروه ؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه ؛ ولا حكما بطيبه . وقد مضى هذا القول في الأنعام . والحمد لله . عن طلحة بن سليمان جنيا بكسر الجيم للإتباع ؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب ، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين .

    -

    فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ? فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَ?نِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا

    وهو معنى قوله تعالى : فكلي واشربي وقري عينا أي فكلي من الجني ، واشربي من السري ، وقري عينا برؤية الولد النبي . وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور . وحكى الطبري قراءة ( وقري ) بكسر القاف وهي لغة نجد . يقال : قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت . وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد . ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة . وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله حار ، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن ؛ وفلان قرة عيني ؛ أي نفسي تسكن بقربه . وقال الشيباني : ( وقري عينا ) معناه نامي ؛ حضها على الأكل والشرب والنوم . قال أبو عمرو : أقر الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره . وعينا نصب على التمييز ؛ كقولك : طب نفسا . والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين ؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير . ومثله طبت نفسا ، وتفقأت شحما ، وتصببت عرقا ، ومثله كثير .

    قوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما .

    فيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : فإما ترين الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار ( تريين ) ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث ، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فصار ترين ، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري ، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة ، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين ؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد :

    إما تري رأسي حاكى لونه

    وقول الأفوه :

    إما تري رأسي أزرى به

    وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ما كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم . وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ( ترين ) بسكون الياء وفتح النون خفيفة ؛ قال أبو الفتح : وهي شاذة .

    الثانية قوله تعالى : فقولي إني نذرت هذا جواب الشرط وفيه إضمار ؛ أي فسألك عن ولدك فقولي إني نذرت للرحمن صوما أي صمتا ؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك . وفي قراءة أبي بن كعب ( إني نذرت للرحمن صوما صمتا ) وروي عن أنس . وعنه أيضا ( وصمتا ) بواو ، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا ؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم . والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت ؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام .

    وقيل : هو الصوم المعروف ، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة . وعلى هذا تخرج قراءة أنس ( وصمتا ) بواو ، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر ، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة . ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل - عليه السلام - - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر ، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتتبين الآية فيقوم عذرها . وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية ، وهو قول الجمهور . وقالت فرقة : معنى ( قولي ) بالإشارة لا بالكلام . الزمخشري : وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها .

    الثالثة : من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال : إنه قربة فيلزم بالنذر ، ويحتمل أن يقال : ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس ؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه . وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا ؛ وقد تقدم . وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام . وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل ، خرجه البخاري عن ابن عباس . وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام .

    قلت : ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل إني صائم . وقال - عليه الصلاة والسلام - : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .

    -

    فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ? قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا

    قوله : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا

    قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله روي أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات ، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها ، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه . قال ابن عباس : خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس ، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله ، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار . وقال الكلبي : ولدت حيث لم يشعر بها قومها ، ومكثت أربعين يوما للنفاس ، ثم أتت قومها تحمله ، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين ؛ فقالوا منكرين : لقد جئت شيئا فريا أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه . قال مجاهد : فريا عظيما . وقال سعيد بن مسعدة : أي مختلقا مفتعلا ؛ يقال : فريت وأفريت بمعنى واحد . والولد من الزنا كالشيء المفترى . قال الله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه . يقال : فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ ، وقال أبو عبيدة : الفري العجيب النادر ، وقاله الأخفش قال : فريا عجيبا . والفري القطع كأنه مما يخرق العادة ، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا . وقال قطرب : الفري الجديد من الأسقية ؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه . وقرأ أبو حيوة : ( شيئا فريا ) بسكون الراء .

    وقال السدي ووهب بن منبه : لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل ، فاجتمع رجالهم ونساؤهم ، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك . وقال آخر : ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى ؛ فتحامى الناس من أن يضربوها ، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها ، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون ؛ فقالوا : يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي عظيما قال الراجز :

    قد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا

    قد كنت تفرين به الفريا

    أي تعظيمنه .

    -

    يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا

    قوله تعالى : يا أخت هارون اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون ؟ فقيل : هو هارون أخو موسى ؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا . وقيل : على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة ؛ لأنها من ولده ؛ كما يقال للتميمي : يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب ، وقيل : كان لها أخ من أبيها اسمه هارون ؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى ، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل ؛ قاله الكلبي .

    وقيل : هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون . وقال قتادة : كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله - عز وجل - يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل ؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع ؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك . وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - : إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى ؛ فقالت له عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله فهو أصدق وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة . قال : فسكتت .

    وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرءون ( يا أخت هارون ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك ، فقال : إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم . وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له : إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة ؟ ! قال المغيرة : فلم أدر ما أقول ؛ وذكر الحديث . والمعنى أنه اسم وافق اسما . ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء ؛ والله أعلم . قلت : فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد . الزمخشري : كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون ؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله ؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة : يا أخا فلان . ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم وهذا هو القول الأول . ابن عطية : وقالت فرقة : بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله .

    قلت : ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه . والمعنى : ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها ؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح . وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة ( النور ) القول فيه إن شاء الله تعالى . وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح ، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه ، ولا غبار عليه . والحمد لله . وقرأ عمر بن لجأ التيمي ( ما كان أباك امرؤ سوء ) .

    -

    فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ? قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

    قوله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا

    قوله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا التزمت مريم - عليها السلام - ما أمرت به من ترك الكلام ، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب إني نذرت للرحمن صوما وإنما ورد بأنها أشارت ، فيقوى بهذا قول من قال : إن أمرها ب ( قولي ) إنما أريد به الإشارة . ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشد علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة التقرير كيف نكلم من كان في المهد صبيا وكان هنا ليس يراد بها الماضي ؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا ، وإنما هي في معنى هو الآن . وقال أبو عبيدة : كان هنا لغو ؛ كما قال :

    [ الفرزدق ] :

    وجيران لنا كانوا مراما

    وقيل : هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله : وإن كان ذو عسرة وقد تقدم . وقال ابن الأنباري : لا يجوز أن يقال : زائدة وقد نصبت صبيا ولا أن يقال ( كان ) بمعنى حدث ، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر ، تقول : كان الحر وتكتفي به . والصحيح أن من في معنى الجزاء وكان بمعنى يكن ؛ التقدير : من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه ؟ ! كما تقول : كيف أعطي من كان لا يقبل عطية ؛ أي من يكن لا يقبل . والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء ؛ كقوله تعالى : تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار أي إن يشأ يجعل . وتقول : من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله ، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله . والمهد قيل : كان سريرا كالمهد وقيل المهد هاهنا حجر الأم . وقيل : المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره ،

    -

    قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا

    فلما سمع عيسى - عليه السلام - كلامهم قال لهم من مرقده : إني عبد الله وهي :

    فقيل : كان عيسى - عليه السلام - يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، و قال إني عبد الله فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته ، ردا على من غلا من بعده في شأنه . والكتاب الإنجيل ؛ قيل : آتاه في تلك الحالة الكتاب ، وفهمه وعلمه ، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها ، وكان يصوم ويصلي . وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا . وقيل : أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل ، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال ؛ وهذا أصح .

    -

    وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا

    وجعلني مباركا أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له . التستري : وجعلني آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأرشد الضال ، وأنصر المظلوم ، وأغيث الملهوف .

    ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف ، وأمكنني أداؤهما ، على القولالأخير الصحيح . ما دمت حيا في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي .

    -

    وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا

    وبرا بوالدتي قال ابن عباس : لما قال وبرا بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى .

    ولم يجعلني جبارا أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب . وقيل : الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط . شقيا أي خائبا من الخير . ابن عباس : عاقا . وقيل : عاصيا لربه . وقيل : لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره .

    قال مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى - عليه السلام - بما قضي من أمره ، وبما هو كائن إلى أن يموت . وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا : إن هذا لأمر عظيم . وروي أن عيسى - عليه السلام - إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ، ثم عاد إلى حالة الأطفال ، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة ، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة . ولم ينقل أنه دام نطقه ، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر ، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم ، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول ، ويصرح بجهالة قائله .

    ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى . والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد . وإنما صح براءتها من الزنا بكلامه في المهد . ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة ، والقرون الخالية الماضية ، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره . وكان عيسى - عليه السلام - في غاية التواضع ؛ يأكل الشجر ، ويلبس الشعر ، ويجلس على التراب ، ويأوي حيث جنه الليل ، لا مسكن له ، - صلى الله عليه وسلم - .

    الإشارة بمنزلة الكلام ، وتفهم ما يفهم القول . كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال : فأشارت إليه وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا : كيف نكلم وقد مضى هذا في ( آل عمران ) مستوفى .

    قال الكوفيون : لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه . وروي مثله عن الشعبي ، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنا دون معناه ، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة ، فلم يكن قاذفا ؛ بالإشارة بالزنا من الوطء الحلال والشبهة . قالوا : واللعان عندنا شهادات ، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع . قال ابن القصار : قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح ، فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية ، فكذلك إشارة الأخرس . وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط . وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته ، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة ، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ . قال ابن المنذر : والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام ، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك . قال المهلب : وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله - عليه الصلاة والسلام - : بعثت أنا والساعة كهاتين نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة . وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام .

    -

    وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

    والسلام علي أي السلامة علي من الله تعالى . قال الزجاج : ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام . يوم ولدت يعني في الدنيا . وقيل : من همز الشيطان كما تقدم في ( آل عمران ) . ويوم أموت يعني في القبر ويوم أبعث حيا يعني في الآخرة ؛ لأن له أحوالا ثلاثة : في الدنيا حيا ، وفي القبر ميتا ، وفي الآخرة مبعوثا ؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي . ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان . وقال قتادة : ذكر لنا أن عيسى - عليه السلام - رأته امرأة يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت : طوبى للبطن الذي حملك ، والثدي الذي أرضعك ؛ فقال لها عيسى - عليه السلام - : طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به .

    -

    ذَ?لِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ? قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ

    قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم أي ذلك الذي ذكرناه عيسى ابن مريم فكذلك اعتقدوه ، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار ، ولا كما قالت النصارى : إنه الإله أو ابن الإله . قول الحق قال الكسائي : قول الحق نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحق . وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله ؛ والحق هو الله - عز وجل - . وقال أبو حاتم : المعنى هو قول الحق . وقيل : التقدير هذا الكلام قول الحق . قال ابن عباس : يريد هذا كلام عيسى - صلى الله عليه وسلم - قول الحق ليس بباطل ؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال : وعد الصدق الذي كانوا يوعدون أي الوعد والصدق . وقال : وللدار الآخرة خير أي ولا الدار الآخرة . وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق بالنصب على الحال ؛ أي أقول قولا حقا . والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج : هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه . وقيل : مدح . وقيل : إغراء . وقرأ عبد الله قال الحق وقرأ الحسن قول الحق بضم القاف ، وكذلك في ( الأنعام ) قوله الحق . والقول والقال والقول بمعنى واحد ، كالرهب والرهب والرهب الذي من نعت عيسى .

    فيه يمترون أي يشكون ؛ أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون القول الحق . وقيل : يمترون يختلفون . ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون قال : اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع ؛ فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية . فقالت الثلاثة : كذبت . ثم قال اثنان منهم للثالث : قل فيه ، قال : هو ابن الله وهم النسطورية ، فقال الاثنان كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة ، الله إله وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى . قال الرابع : كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين ، فذلك قول الله تعالى : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس .

    وقال قتادة : وهم الذين قال الله تعالى فيهم : فاختلف الأحزاب من بينهم اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول الذي فيه تمترون بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه ؛ ذكره الماوردي .

    قلت : ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا ، وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار في الحلم ، وقال له : قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر ، وكن هناك حتى أقول لك ، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه ، وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر ، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر ، فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ، ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ؛ ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم ، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة ، وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا ، وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة ، فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن ، ويحضرون إليها في عيد الفصح من كل مكان ؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر ، ومنها عاد إلى الشام . والله أعلم .

    -

    مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ? سُبْحَانَهُ ? إِذَا قَضَى? أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ

    قوله تعالى : ما كان لله أي ما ينبغي له ولا يجوز أن يتخذ من ولد ( من ) صلة للكلام ؛ أي أن يتخذ ولدا . و ( أن ) في موضع رفع اسم كان أي ما كان لله أن يتخذ ولدا ؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد ، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال : سبحانه أن يكون له ولد . إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون تقدم في سورة ( البقرة ) مستوفى .

    -

    وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ

    قوله : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

    قوله تعالى : والتي أحصنت فرجها أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى - عليه السلام - ولهذا قال : وجعلناها وابنها آية للعالمين ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام : وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين . وقال الزجاج : إن الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل ؛ وعلى مذهب سيبويه التقدير : وجعلناها آية للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف . وعلى مذهب الفراء : وجعلناها آية للعالمين وابنها ؛ مثل قوله جل ثناؤه : والله ورسوله أحق أن يرضوه . وقيل : إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد . ومنها أن الله - عز وجل - غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيده . وقيل : إنها لم تلقم ثديا قط . و أحصنت يعني عفت فامتنعت من الفاحشة . وقيل : إن المراد بالفرج فرج القميص ؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة ؛ أي إنها طاهرة الأثواب . وفروج القميص أربعة : الكمان والأعلى والأسفل . قال السهيلي : فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا ؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى ، وأوزن لفظا ، وألطف إشارة ، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضف القدس إلى القدوس ، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس . فنفخنا فيها من روحنا يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها ، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها . وقد مضى هذا في ( النساء ) و ( مريم ) فلا معنى للإعادة . آية أي علامة وأعجوبة للخلق ، وعلما لنبوة عيسى ، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء .

    -

    وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى? رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ

    قوله تعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين

    قوله تعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية تقدم في ( الأنبياء ) القول فيه . وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين الربوة المكان المرتفع من الأرض ؛ وقد تقدم في ( البقرة ) . والمراد بها هاهنا في قول أبي هريرة فلسطين . وعنه أيضا الرملة ؛ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عباس ، وابن المسيب ، وابن سلام : دمشق . وقال كعب ، وقتادة : بيت المقدس . قال كعب : وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . قال :

    فكنت هميدا تحت رمس بربوة تعاورني ريح جنوب وشمأل

    وقال ابن زيد : مصر . وروى سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير وآويناهما إلى ربوة قال : النشز من الأرض . ذات قرار أي مستوية يستقر عليها . وقيل : ذات ثمار ، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون . ( ومعين ) ماء جار ظاهر للعيون . يقال : معين ومعن ؛ كما يقال : رغيف ورغف ؛ قاله علي بن سليمان . وقال الزجاج : هو الماء الجاري في العيون ؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع ، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين . وقيل : إنه فعيل بمعنى مفعول . قال علي بن سليمان : يقال معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون . ابن الأعرابي : معن الماء يمعن معونا إذا جرى وسهل ، وأمعن أيضا وأمعنته ، ومياه معنان .

    -

    وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ

    قوله تعالى : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

    قوله تعالى : ومريم ابنة عمران أي واذكر مريم . وقيل : هو معطوف على امرأة فرعون . والمعنى : وضرب الله مثلا لمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود .

    التي أحصنت فرجها أي عن الفواحش . وقال المفسرون : إنه أراد بالفرج هنا الجيب لأنه قال : فنفخنا فيه من روحنا ، وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها . وهي في قراءة أبي " فنفخنا في جيبها من روحنا " . وكل خرق في الثوب يسمى جيبا ; ومنه قوله تعالى : وما لها من فروج . ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها . ومعنى فنفخنا أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها من روحنا أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى . وقد مضى في آخر سورة " النساء " بيانه مستوفى والحمد لله .

    وصدقت بكلمات ربها قراءة العامة وصدقت بالتشديد . وقرأ حميد والأموي " وصدقت " بالتخفيف . " بكلمات ربها " : قول جبريل لها : إنما أنا رسول ربك الآية . وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله . وقد تقدم .

    وقرأ الحسن وأبو العالية " بكلمة ربها وكتابه " وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم : " وكتبه " جمعا . وعن أبي رجاء " وكتبه " مخفف التاء . والباقون " بكتابه " على التوحيد . والكتاب يراد به الجنس ; فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى .

    وكانت من القانتين أي من المطيعين . وقيل : من المصلين بين المغرب والعشاء . وإنما لم يقل من القانتات ; لأنه أراد وكانت من القوم القانتين . ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها ; فإنهم كانوا مطيعين لله . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : " أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا ، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام : مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال : حكيمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران " . فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله . وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين أربع مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم " . وقد مضى في ( آل عمران ) الكلام في هذا مستوفى ، والحمد لله

تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14-04-2017, 01:37 AM
  2. شبهة تناقض البشارتين بعيسى عليه السلام (آية 17 من سورة مريم و الآية 44 من آل عمران)
    بواسطة طالب علم شنقيطي في المنتدى شبهات حول القران الكريم
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 15-08-2015, 10:01 PM
  3. الرد على شبهة ( سن زواج السيدة عائشة أم المؤمنين ) عليها السلام
    بواسطة شعشاعي في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-02-2012, 08:35 AM
  4. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 05:28 PM
  5. قصص وحقائق حول السيدة البتول مريم عليها السلام
    بواسطة الباحث : خالد كروم في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 21-07-2009, 08:31 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم

تفسيرالقرطبي: كل ما ذكرعن السيدة الصديقة مريم ابنت عمران عليها السلام بالقرآن الكريم