الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه..
وبعد..
فقد قال الله سبحانه و تعالى :
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
و ظاهر الآيات أن المسيح عليه السلام قال للناس ( اعبدوا الله ربي و ربكم )..وهو ما يقتضي أنه رسول للناس جميعا.. في حين أن الله سبحانه و تعالى قال عنه في آية أخرى ( و رسولا إلى بني إسرائيل )..و نعلم أن رسولنا محمدا صلى الله عليه و سلم هو الوحيد المبعوث كافة للناس..
إذا..إذا فالآيات متشابهة..
و لم يبق لنا لحل الإشكال إلا أن نقول إن الضمير في قوله ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم ) لا يعود على الناس..
يعود على من إذا ؟
أقول إنه يعود على بني إسرائيل..و اقرأ إن شئت قوله تعالى من نفس السورة :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)
لاحظ أولا أن الله لم يقل في رده على من ألهوا المسيح ( و قال المسيح يا أيها الناس اعبدوا الله ربي و ربكم )..بل قال ( وقال المسيح يا بني إسرائيل... ) ..و ذلك أنه كما قلت رسول لقومه فقط
و لاحظ ثانيا أن الذين قال لهم المسيح ( اعبدوا الله ربي و ربكم ) هم بنو إسرائيل..
إذن فالضمير في قوله ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم ) يعود على بني إسرائيل..
و لكن..كيف يعيد المسيح الضمير على بني إسرائيل و لم يكن لهم ذكر سابق في كلامه ؟
أقول لقد أعاد الضمير على معناهم الذي في نفسه..
بيان ذلك :
لما سأل الله المسيح ( و إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله ) علم المسيح أن هذا السؤال ليس استخباريا بل هو تقريعي للذين أضلوا هؤلاء الناس و أوردوهم ذلك المهلك .. و اقرأ إن شئت قوله تعالى : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) )
فكان جوابه كجواب الرسل قمة في الأدب : ( قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق..إن كنت قلته فقد علمته ) فلم يقل ( لم أقل ذلك ) حتى لا يكون في مقام كأنه يعلم الله سبحانه و تعالى ما لم يعلم..و لأن السؤال ليس استخباريا أصلا..
ثم إنه من أدبه أيضا و لنفس السبب أي حتى لايكون في مقام كأنه يعلم الله مالم يعلم لم يشأ أن يقول ( بنو إسرائيل من أضلهم ) و لكن قال ( تعلم ما في نفسي )أي أن ما في نفسي من أن بني إسرائيل هم الذين أضلوهم أنت تعلمه..
(و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب )..
و ﻷن المسيح يعلم أن سؤال الله تقريع لبني إسرائيل فقد انتقل إلى التبرؤ من فعلهم معيدا الضمير على معناهم الذي في نفسه لأن الله يعلم ما فيها :
( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) )
و اقرأ إن شئت قوله تعالى : ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون )..
أختم بكلام للدكتور بهاء الأمير المتخصص في الدراسات اليهودية :
( آيتا سورة المائدة التي تخبرنا عن تحريف بني إسرائيل للوحي ونسيانهم حظاً مما ذكروا به بينما تنص على نسيان النصارى لما ذكروا به دون أن يتعمدوا التحريف, الآيتان معاً تخبرنا بمعلومة خفية, وهي أن كل ما تجده من تحريف عند النصارى هو من عمل بني إسرائيل لا من عمل النصارى“)
و الحمد لله رب العالمين.