ذكرت في الجزء السابق طريقة حفظ القران بالصدور و هو الاساس الذي يعتمد عليه

و ذكرت ان هذه القراءات العشر كلها موافقة للرسم العثماني للمصاحف اذ ان المصحف الذي جمعه ابو بكر و نسخه عثمان رضي الله عنهما يحتوي على القراءات العشر المتواترة كما ذكرنا في موضوع اسانيد القراءات العشر .

و الان نذكر كيف جمع القران كتابة على ثلاث مراحل مهمة

اولا الكتابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم
كان للنبي عليه الصلاة و السلام كتبة يكتبون القران من اصحابه مثل عبد الله بن مسعود و عمر بن الخطاب و علي بن ابي طالب و ابو موسى الاشعري و معاذ بن جبل و ابي بن كعب و ابو الدرداء و عمرو بن العاص و معاوية بن ابي سفاين و خزيمة بن ثابت
و غيرهم رضي الله عنهم
الا ان اشهر هؤلاء هو زيد بن ثابت رضي الله عنه فهو احد الاربعة الذين كانو يكتبون القران للنبي عليه الصلاة و السلام و احد الاربعة الذين حفظوه كاملا زمن النبي عليه الصلاة و السلام

صحيح البخاري كتاب مناقب الانصار ، باب مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه
3599 حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد بن ثابت قلت لأنس من أبو زيد قال أحد عمومتي

قال ابن حجر رحمه في فتح الباري شرح صحيح البخاري
قوله : ( جمع القرآن ) أي استظهره حفظا .

ثانيا جمع ابي بكر رضي الله عنه القران
يمتاز هذا الجمع انه اول جمع للقران اذ ان القران انذاك كان متفرقا في الالواح و العظام و الجلود و الاهم صدور الرجال
فقام ابو بكر رضي الله عنه بجمع القران بعد استشهاد جماعة من حفظة القران يوم اليمامة كسالم مولى ابي حذيفة رضي الله عنه فخاف الصديق و الفاروق من ضياع القران فجمعه في مصحف سمي المصحف الامام ليكون مرجعا للناس حال اختلافهم ووكل لهذه المهمة زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي جمع القران حفظا زمن النبي عليه الصلاة و السلام و كان يكتب له القران .
و لما انتهى زيد من كتابة هذا المصحف و تدقيقه و مراجعته مع الصحابة و تتبعه ايات كتاب الله عز وجل من الرقاع و الجلود وصدور الرجال اعطي المصحف لابي بكر ثم لعمر بعد وفاة ابي بكر ثم لام المؤمنين حفصة بعد وفاة عمر رضي الله عنهم الثلاثة

صحيح البخاري كتاب فضائل القران باب جمع القران
4701 حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه

ثالثا نسخ عثمان رضي الله عنه لمصحف ابي بكر رضي الله عنه و ارساله للامصار و احراقه لبقية المصاحف
لما اختلفت القراءات بين الناس بدا الناس يكفرون بعضهم البعض فالذين على قراءة بن مسعود رضي الله عنه من اهل العراق يكفرون الذين على قراءة ابي بن كعب رضي الله عنه من اهل الشام و العكس صحيح !!!! و كل هذا بسبب اختلاف المصاحف التي ايديهم فهؤلاء يكتبون و يقرؤون بقراءة فلان و العكس صحيح للاخرين
و هم لا يدرون ان كلا القراءتين صحيحتين !!! بل ان بعضهم كان يكتبون تفاسير القران بين سطور الايات و البعض ما زال يبقي على الايات المنسوخة تلاوة !!!!!
فاغضب و اخاف هذا الامر الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه و استنجد و ابلغ امير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بضرورة تدارك الامر فاتخذ عثمان رضي الله عنه القرار ان يجمع الناس على مصحف واحد جامع للقراءات العشر الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق نسخ المصحف الذي جمعه ابو بكر رضي الله عنه الي عدة نسخ ووضع لهذا الامر لجنة يتراسها زيد بن ثابت رضي الله عنه ورهط من قريش من الثقات الضابطين لكتابة المصاحف .
و لما انتهت عملية نسخ المصاحف ارسل عثمان النسخ الى ولاة الامصار و امر باحراق باقي المصاحف احتياطا و درءا للفتنة و الاختلاف

صحيح البخاري كتاب فضائل القران باب جمع القران
4702 حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فألحقناها في سورتها في المصحف

و للاضافة فانه بعد ان نسخ عثمان رضي الله عنه المصاحف ارسلها الي ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها لتدققها فوافق ما في المصاحف ما عندها

تاريخ المدينة لابن شبة النميري :
(كتابة القرآن وجمعه) (كتابة عثان رضي الله عنه المصاحف وجمعه القرآن (3) * حدثنا الحسن بن عثمان قال، حدثنا الربيع بن بدر، عن سوار بن شبيب قال: دخلت على ابن الزبير رضي الله عنه في نفر فسألته عن عثمان، لم شقق المصاحف، ولم حمى الحمى ؟ فقال: قوموا فإنكم حرورية (1)، قلنا: لا والله ما نحن حرورية.
قال: قام إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رجل فيه كذب وولع، فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد اختلفوا في القراءة، فكان عمر رضي الله عنه قد هم أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة، فطعن طعنته التي مات فيها.
فلما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه قام ذلك الرجل فذكر له، فجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة رضي الله عنها فجئت بالصحف التي كتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فعرضناها عليها حتى قومناها، ثم أمر بسائرها فشققت.
تاريخ المدينة (3/991) .

و لذلك فان هذا العمل من عثمان رضي الله لاقى قبول جميع الصحابة رضي الله عنهم و هذا ما صرح به علي رضي الله عنه نفسه و مصعب بن سعد

في فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني رحمه الله :
(( وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال : " لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا " وفي رواية بكير بن الأشج " فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ، ثم بث في الأجناد التي كتب " ومن طريق مصعب بن سعد قال : " أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف ، فأعجبهم ذلك - أو قال : - لم ينكر ذلك منهم أحد "))

فهكذا تمت عملية جمع القران بقراءاته العشر كتابة
و من ثم حفظ لنا القران عن طريق الصدور و تواتره باسانيد عشر صحيحة موافقة للنسخ العثماني و للنحو العربي كما قال ابن الجزري رحمه الله

ملاحظة : قلنا ان ما ميز زيد بن ثابت رضي الله عنه هو انه كان احد الاربعة الذين حفظو القران زمن النبي صلى الله عليه وسلم و لكن هناك ميزة اخرى له و هو انه حضر العرضة الاخيرة و هي القراءة التي قراها النبي عليه الصلاة و السلام في عامه الاخير.

قال السيوطي رحمه الله :
" أَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ : الْقِرَاءَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ ، هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ .

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَرَّةً ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ ، فَيَرَوْنَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُنَا هَذِهِ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ .

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ : يُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي بُيِّنَ فِيهَا مَا نُسِخَ وَمَا بَقِيَ ، وكتبها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ ، وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمْعِهِ وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ كَتْبَ الْمَصَاحِفِ "
. الإتقان " (1/177) .