هل قَتَلَ موسى المصريَّ واتّهمَ نفسَه بالضلالِ؟!


ذكرَ المعترضون شبهتَين حولَ قصّةِ نبيِّ اللهِ موسى  في القرآن الكريم:


الشبهةُ الأولى: تقولُ: كيف لموسى النبيِّ أنْ يقتلَ نفسًا خلقَها اللهُ وحرّمَ قتْلَها...؟ أليس هذا ذنبٌ كبيرٌ يتناقضُ مع عصمةِ الأنبياءِ...؟!
تعلّقوا بقولِ اللهِ : وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنّه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(15) قَالَ رَبِّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(16) (القصص).


الشبهةُ الثانية: تقولُ: كيف لموسى النبيِّ أنْ يتهم نفسَه بالضلالِ ويعترفُ على نفسِه بذلك...؟
وتعلّقوا على زعمِهم بقولِ اللهِ  :قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20) (الشعراء).



الردُّ على الشبهةِ



أولًا: أبدءُ بالردُّ على الشبهةِ الأولى:
أقولُ: كان على المعترضين أنْ يفرّقوا أولًا بين القتلِ الخطاءِ، والقتلِ العمدِ قبلَ أنْ يطرحوا اعتراضَهم...فالآياتُ الكريماتُ تتحدّثُ عن قتلٍ خطأٍ وقعَ مِن موسى ، وذلك لما دخلَ المدينةَ فوجدَ مصريًّا متجبّرًا يضربُ بعنفٍ إسرائيليًّا مُستضعفًا، فتدخّلَ موسى  لنُصرةِ الإسرائيليِّ المستضعفِ الذي هو مِن شيعتِه؛ دفعَ المصري  عنِ الإسرائيليِّ بيدِه فقضى عليه دونَ قصدٍ منه...


وعليه: فإنّ موسى  لم يقصدْ قتلَه، وإنّما قصدَ دفعَه عنِ المصريِّ فماتَ، فلم يكنْ مُتعمّدًا لقتْلِه أبدًا،وهذا لا يُعد ذنبًا...


إذًا: لا تناقضَ بين فعلتِه ، وعصمتِه... فالله يحاسبُ العبدَ على التعمدِ للذنبِ، ولا يحاسبُ على الخطأِ والنسيانِ؛ يقولُ : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(5) 
(الأحزاب).

يقولُ : فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنّه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
قال القرطبىُّ - رحمَه اللهُ-: والوكزُ واللكْزُ واللهْزُ: بمعنًى واحدٍ، وهو الضربُ بجميعِ الكَفِّ. اهـ


وأتساءل: هل يُعقلُ أنّ دفعَ إنسانٍ بالكفِّ يكونُ قتلَ عمدٍ، أم أن القتل العمد له أوصاف وأدوات وعلامات... فأين أداة القتل(سكين ، سيف، خنجر ، حجر كبير...) ، وأين سبق الإسرار والترصد والمعرفة السابقة للقتيل...؟!

الجوابُ: إن الله مَنَّ على نبيه موسى  بقوة عظيمة ساحقة ماحقة...


جاءَ في التفسيرِ الميسّرِ: ودخلَ موسى المدينةَ مُستخفيّا وقتَ غفلةِ أهلِها، فوجدَ فيها رجلَين يقتتِلان: أحدُهما من قومِ موسى مِن بَني إسرائيلَ، والآخرُ مِن قومِ فرعونَ، فطلبَ الذي مِن قومِ موسى النصرَ على الذي مِن عدوِّه، فضربَه موسى بجُمْعِ كفِّه فماتَ، قال موسى حينَ قتلَه: هذا من نزغِ الشيطانِ، بأنّ هيَّجَ غضبي، حتى ضربْتُ هذا فهلَكَ، إنّ الشيطانَ عدوٌّ لابنِ آدمَ، مُضِلٌّ عن سبيلِ الرشادِ، ظاهرُ العداوةِ. وهذا العملُ من موسى  كان قبلَ النبوّةِ. اهـ



ثانيًا: إنّ الردَّ على الشبهةِ الثانيةِ التي تقولُ: كيف لموسى النبيِّ أنْ يتّهمَ نفسَه بالضلالِ، ويعترفُ على نفسِه بذلك، وهذا ما جاءَ في القرآنِ لمّا قال:  قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20) (الشعراء)؟

يكونُ الردّ مِن وَجْهٍ لا يخدمُ المعترضين للطعنِ في عصمتِه  بل هو دليلٌ على تمامها منذُ بدئها...


وذلك لمّا قال  لفرعونَ:  فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: قتلتُ المصريَّ قبلَ النبوّةِ، فالضلالُ هنا ضلالٌ عنِ المعرفةِ؛ ويقولُ  لنبيِّه محمّدٍ r: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7) (الضحى). أي وجدك بعيدًا عن معرفةِ اللهِ الحق فهداك إليه بالنبوة....


ويدعم ما سبق هو قولُه للنبيِّ محمّدٍ r: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113) (النساء).


إذًا مِنْ خلالِ ما تقدم تبين لنا: أنّ نبيَّ اللهِ موسى  قتلَ المصريَّ قبلَ أنْ يكونَ نبيًّا، ولم يكنْ متعمِّدًا للقتلِ حينها، فالطعنُ بشأنِ عِصمتِه ناتجٌ عن أوهامٍ في عقولِ المعترضين ، أحلام إلى حين...



ثالثًا: إنّ المتأمّلَ في الكتابِ المقدّسِ يجدُ أنّ النبي موسى قتلَ الرجلَ البريءَ(المصريَّ) متعمِّدا مع العلمِ أنّ الإسرائيليَّ كان ظالمًا، ووجدْنا المثلَ الشائعَ عندنا في مصرَ(أنا وأخي على ابنِ عمِّي وأنا وابنُ عمِّي على الغريبِ) وذلك لما قتلَ موسى (المصريَّ) الذي تعاركَ مع أخيه (الإسرائيليِّ) بدافع العصبية والقومية والعنصرية...


جاءَ ذلك في سفرِ الخروجِ إصحاح 2 عدد 11 "وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أنّه خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلًا مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلًا عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ، 12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ".


فإنّ قيلَ: إنّ ذلك في القرآنِ الكريمِ...


قلتُ: إنّ القرآنَ الكريمَ ليس فيه أنّ موسى قتلَ المصريَّ متعمِّدًا؛ القرآنُ يقولُ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنّه عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (القصص 15).


نُلاحظُ: " فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ". ومعنىَ وَكَزَهُ أيْ:(دَفَعَهُ).


وعليه: لم يكنْ موسى مُتعمدًا لقتْلِ المصريِّ، واللهُ  يقولُ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (الأحزاب5 ).


لكن بالنظرِ إلى نصِّ الكتابِ المقدّسِ في سفرِ الخروجِ نجدُ أنّ موسى  كان متعمِّدًا للقتلِ؛ لأنّه كان يلْتَفِتُ هنا وهناك لِيَرى هل يَرَاهُ أحدٌ قبلَ قتْلِ المصريِّ، بل وأراد أن يخفي الجريمة فقام بدفنه بعد قتله... " 12 فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ ".


ويبقى السؤالُ الذي يطرحُ نفسَه هو: أيٌّ مِنَ النصَّين: نصُّ القرآنِ الكريم، أم نصُّ الكتابِ المقدّسِ الذي أساءَ إلى النبيِّ موسى ، وطعَنَ في عصمتِه...؟!


وأمّا عن قولِهم موسى اتّهمَ نفسَه بالضلالِ فقد بيّنَتُ المعنى بأنّه كان بعيدًا عنِ المعرفة بالنبوّةِ، والعلمِ، وسُبل الهدايةِ... وأمّا الضلالُ الذي يدورُ في أذهانِهم محلُّه الكتابِ المقدّسِ ففيه تجد ضلال الربِّ لأنبيائه ولغيرِهم...
أكتفي ببعض ما جاء من نصوص حول إضلال الربِّ لأنبيائِه بما يلي:


1- سفرُ حزقيالَ إصحاح 14 عدد 9 " فَإِذَا ضَلَّ النَّبِيُّ وَتَكَلَّمَ كَلاَمًا، فَأَنَا الرَّبَّ قَدْ أَضْلَلْتُ ذلِكَ النَّبِيَّ، وَسَأَمُدُّ يَدِي عَلَيْهِ وَأُبِيدُهُ مِنْ وَسْطِ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. 10وَيَحْمِلُونَ إِثْمَهُمْ. كَإِثْمِ السَّائِلِ يَكُونُ إِثْمُ النَّبِيِّ. "!

وأتساءل: أليس هذا دليلًا على ضلالِ أنبياءِ الكتابِ المقدّسِ بزعمِ تلك النصوصِ...؟!


2- سفر ملوك الأوّل إصحاح 22 عدد 23 " وَالآنَ هُوَذَا قَدْ جَعَلَ الرَّبُّ رُوحَ كَذِبٍ فِي أَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِكَ هؤُلاَءِ، وَالرَّبُّ تَكَلَّمَ عَلَيْكَ بِشَرّ... ".


3- سفرُ إشَعْيَاءَ إصحاح 63 عدد 17 " لِمَاذَا أَضْلَلْتَنَا يَا رَبُّ عَنْ طُرُقِكَ، قَسَّيْتَ قُلُوبَنَا عَنْ مَخَافَتِكَ؟ ارْجعْ مِنْ أَجْلِ عَبِيدِكَ، أَسْبَاطِ مِيرَاثِكَ ".

اترك للقارئ الحكمَ والتعليق، ولعل واحدٌ منهم يفيق!


كتبه / أكرمُ حسن مرسي
نقلًا عن كتابي : ردّ السهام عن الأنبياءِ الأعلام، بعد المراجعة.