هَلْ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرَاهُ كما سأل بنو إسرائيلَ ؟!


أُثيرَت شبهةٌ حولَ النبيِّ موسى يقولُ أصحابُها: إنّ بني إسرائيلَ لمّا سئلوا موسى أنْ يُريَهم اللهَ جَهْرَةً أخذَتهُم الصاعقةُ بالهلاكِ، وذلك في سورةِ النساءِ:  يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(153) .


ثم قالوا: ونجدُ أنّ النبيِّ موسى قد سألَ ربَّه مثلَ ذلك...
في سورة الأعراف: قَالَ رَبِّ أَرِنِي انْظُرْ إِلَيْكَ(143) .


فكيف يطلبُ هذا الأمرَ، وقد حلَّ العقابُ على سائلِيه مِن قبلِه...؟!


الردُّ على الشبهةِ



أولًا: أذكرُ ما قاله ابنُ حزمٍ - رحمَه اللهُ- في المِلَلِ والنِّحَلِ قال: وهذا لا حُجّةَ لهم فيه لأنّه خارجٌ على وجهيَن؛ أحدُهما أنّ موسى  سألَ ذلك قبل سؤالِ بني إسرائيلَ رؤيةَ اللهِ تعالى وقبلَ أنْ يعلمَ أنّ سؤالَ ذلك لا يجوزُ فهذا لا مكروهَ فيه لأنّه سألَ فضيلةَ عظيمةً أرادَ بها عُلُوَّ المنزلةِ عند ربِّه تعالى، والثاني أنّ بني إسرائيلَ سألوا ذلك مُتَعَنِّتين وشِكاكا في اللهِ  وموسى سألَ ذلك على الوجْهِ الحَسَنِ الذي ذكرَنا آنفًا‏. اهـ
قلتُ: إنّ هذا كافٍ لِنسْفِ الشبهةُ نسفًا ... فموسى طلب رؤية الله قبل أن يطلب بنو إسرائيل هذا الطلب على سبيل الشك والتعنت....ولم يطلبُه بعدَهم، وهذا بخلاف ما فهم المعترضون....



ثانيًا: بعد أنّ نُسِفَتِ الشبهةُ نسفًا- بفضلِ اللهِ - ثم بكلامِ ابنِ حزمٍ - رحمَه اللهُ - تذكّرْتُ شبهةً أخرى في الآيةِ الثانيةِ التي ذكرَها المُعترضون: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي انْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإنّ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143) (الأعراف).


سمعتُ أحدَهم يقولُ: لماذا تُنكرون علينا أنّ اللهَ ظهرَ وتجسّدَ في يسوعَ المسيحِ، والقرآنُ يقولُ: إنّ اللهَ تجسّدَ في الجبلِ لمّا طلبَ موسى رؤيةَ ربِّه؟!
قلتُ: يُجابُ على ذلك بعدّةِ أوْجُهٍ منها:


أولًا: إنّ هناك فرقًا بين التجلِّي والتجسّدِ؛ الآيةً الكريمةُ لا تتكلّمُ عنِ التجسّدِ كما فهِمَ المُعترضُ.


ثانيًا: إنّ معنى قولُه :  فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا يكونُ على وجهَين:


الأوّلُ: أنّ اللهَ تجلّى تجلٍّ يليقُ بجلالِه وكمالِه، وهذا مذهبُ السلفِ.
الثاني: ظهرَت قدرةُ اللهِ  في الجبلِ فانهارَ....
وكلاهما حسنٌ والأسلم الأحسن القول الأول.


ثالثًا: إنْ قيلَ: لماذا سألَ موسى  التوبةَ مِن ربِّه  بعد أنّ خرَّ صعِقًا؛ مغشيًا عليه:  فلمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ؟!
قلتُ: إنّ الإجابةَ على ذلك ذكرَها ابنُ الجَوزيِّ في تفسيرِه زادَ المَسِيرِ: قائلًا:
قولُه : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } فيما تابَ منه ثلاثةُ أقوالٍ.

أحدُها: سؤالُه الرؤيةَ، قاله ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ.
والثاني: مِنَ الإقدامِ على المسألةِ قبلَ الإذنِ فيها.
والثالثُ: اعتقادُ جوازِ رُؤْيتِه في الدنيا.
وفي قولِه : { وَأَنَا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ } قولان. أحدُهما: أنّك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالحٍ عنِ ابنِ عباسٍ.
والثاني: أوّلُ المؤمنين مِن بني إسرائيلَ، رواه عكرمةُ عنِ ابنِ عباسٍ. اهـ


رابعًا: إّن قصّة طلب موسى الرؤية من ربِّه في الكتابِ المقدّسِ تحمل تناقضات واضحات...
جاءت القصة في سفرِ الخروجِ إصحاح 33 عدد 17 " فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هذَا الأَمْرُ أَيْضًا الَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ».18فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ». 19فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». 20وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأنّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». 21وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. 22وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي، أنّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. 23ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وأمّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى ".

قلتُ: إنّني أرى تعارضًا بيّنًا مِنَ النصوصِ السابقة... فقد لَفَتَ انتباهي نصان:

الأوّل: " 20وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأنّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ".
الثاني: " 23ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وأمّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى ".


فْهمتُ مِنَ النصين استحالةَ رؤيةِ وَجْهِ الربِّ أبدًا... وأكد ذلك قول يسوعُ في إنجيلِ يوحنّا إصحاح 5 عدد37 " وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قطّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ ".

وبالتالي فإن النصوص السابقة تؤكد استحالة رؤية وجه الربّ، بينما جاءت نصوصٌ أُخرى تقول إن يعقوب رأى وجهَ الربِّ ، وموسى رأى وجهَ الربِّ وجهًا لوجهٍ كما يكلم الرجلُ صاحبَه...وذلك في الآتي:
1- سفرُ التكوينِ إصحاح 32 عدد30 " فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلًا: «لأنّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي".

2- سفرُ الخروجِ إصحاح 33 عدد11 " وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ".
3- سفرُ التثنيةِ إصحاح 5 عدد4 " وَجْهًا لِوَجْهٍ تَكَلَّمَ الرَّبُّ مَعَنَا فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ".!


ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بعد الإجابة على شبهتهم:هل وجه الربّ لا يُري أم أن وجهه يُرى، وما هو السبيل لحل هذا التناقض الظاهر من النصوصِ السابقةِ...؟!


كتبه / أكرمُ حسن مرسي
نقلًا عن كتابي : ردّ السهام عن الأنبياءِ الأعلام، بعد المراجعة.