هل تكلم المسيحُ في المهدِ أم خرافة؟!
مِنَ الشبهاتِ القديمةِ التي أُثيرَت حولَ نبيّ اللهِ عيسى أن أصحابَها قالوا: أين معجزة تكلُّم المسيح في المهد؟ لماذا لم نقرأ عنها في الأناجيلِ، ولم نجدُ أنّ المسيحَ تكلم في(اللفة)، إلا في القرآنِ فقط؟ ولماذا أخترعها القرآنُ إذًا؟!
تعلّقوا على شبهتهم بالآتي:
1- قولُه : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) (آل عمران).
1- قولُه : يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا(28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29) قَالَ إنّي عبد اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أنْ يتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35) وَإنّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ(37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(38) (مريم).
الردُّ على الشبهةِ
أولًا: قولهم أين معجزة تكلُّم المسيح في المهدِ؟ لماذا لم نقرئ عنها في الأناجيلِ، لم نقرئ أنّ المسيحَ تكلم في(اللفة)، ولماذا أخترعها القرآن...؟!
أجدُ مِن قَولِهم استهزاءً بشأنِ تكلم المسيح في المهدِ، وذلك بسببِ جهلهم بكُتبِهم، وعدم تفكيرِهم وتأملهم في الأناجيلِ التي بين أيديهم؛ حيث إنّ الأناجيلَ لم تذكرْ كلَّ مراحلِ حياةِ المسيحِ فلم تتكلم عن طفولتِه، ولا عن بعضِ مراحلِ حياتِه كلِّها، وخصوصا حل صغره وبلوغه...

وعليْه أتساءل: أين نجدُ في الأناجيلِ الأربعة قصّة حياة المسيحِ بأكملها منذُ طفولته إلى نهايتِها...؟!
الجوابُ: لم يردْ ذلك قطّ، بل ثبتَ العكس مِن ذلك وهذا؛ واضحٌ من كلامِ يوحنّا في آخرِ إنجيلِه الإصحاح 20 عدد 30 " وَآيَاتٍ أُخَرَ كثيرٍةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. 31وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أنّ يسوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ ".
نُلاحظُ مِنَ النصيّن أمرين:
الأوّل: يوحنّا ذكر أنّه لم يكتبْ عن كلِّ مراحل حياةِ المسيح... !
الثاني: أنّه بيّنَ سببَ كتابتِه لإنجيله قائلًا: " كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أنّ يسوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ ".

ثم قال( يوحنّا ) في الإصحاحِ 21 عدد25 " وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كثيرٍةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ".
نُلاحظُ: أنّ هذا آخر نصّ كتبه يوحنّا يبيّنَ للقارئ ما ذكرتُ...

ثانيًا: قولهم أين معجزة تكلُّم عيسى في المهدِ، ولماذا أخترعها القرآن؟! قول سخيف من عقل خفيف؛ لأنّها مذكورة في إناجيل مفقودة، وذلك قبل أن يذكرَها القرآنِ الكريمِ، فلم تكن اخترعًا مِنَ القرآنِ الكريمِ كما ذكر المُعترضون...
وأكد النبيُّ محمدٌ r على ذلك أيضًا، ثبتَ ذلك في الصحيحين وغيرهما، واللفظُ لمسلمٍ كِتَاب (الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ) باب (تَقْدِيمِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّطَوُّعِ بِالصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا). 4626 عَنْ أبي هرَيْرةَ عنِ النَّبِيِّ rقَالَ:" لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا...".

القرآن الكريم كان منتشرًا في جزيرةِ العرب ومن حولها، ولم نسمع اعترضًا على ذلك مِنَ النصارى الذين عاصروا النبيَّr ولو اعترضوا على هذا الأمر لكان ذلك كافيًا لبطلان الإسلام من أولِ أيامِه...
بل إن ماريا القبطية كانت من زوجات محمد سمعت هذا من أناجيل قبط مصر وقد كانت نصرانية فعرفتها ولم تبدي قولًا مخالفًا، ويبدو أيضًا أن القصة كانت في إنجيل مشهور عند العرب، قد تم محو هذه الفقرات مع السنوات....
ثم إنّ الأناجيلَ في مجمعِ نقية قد قاربت المائة؛ حذفت وحرقت...واُختير منها أربعة من دون بيان أو برهان ، فوافق عليها الرهبان عبر الأزمان...
وعليْه أتساءل: أين "إنجيل الطفولة" لننظر ما فيه...؟!
أين إنجيل"بشارة توما الإسرائيلي" لننظر ما فيه...؟!
أين الأناجيل التي كانت منشره قبل زمان النبي محمد وبعده، لننظر ما فيها...؟!
ولماذا هي من أناجيل أبو كريفا؟
ما هي المعايير أو المقاييس لعدم قبولها؟!

ثالثًا: إن استنكَارهم بقولِهم: لماذا يذكر القرآنُ قصّةً مثل هذه(تكلم المسيح في المهد)..؟!
يكون الرد عليْها من ثلاثةِ أوجهٍ:
الوجه الأوّل: أنّ القرآنَ الكريم ذكرَها على سبيلِ الأخبارِ عن حادثةٍ حدثت بالفعلِ تستحق أن تذكر في كتابِ اللهِ فهي من معجزاتِ المسيحِ ...

الوجه الثاني: أنّ المسيحَ لو لم يتكلم في المهدِ ويُبرِّأ أمَه، لحكم اليهودُ على أمِه بالحرقِ تبعًا لشريعتهم، وبما أنّ اليهود لم يحرقوها، لم يمسوها بأذى من حرقٍ أو رجمٍ... فلابد أن تكون قد أتت بالدليلُ على براءتها؛ ألا وهو تكلم المسيح في المهد؛ ففي سفرِ اََلاَّوِيِّينَ إصحاح 21 عدد 9 " وَإِذَا تَدَنَّسَتِ ابْنَةُ كَاهِنٍ بِالزِّنَى فَقَدْ دَنَّسَتْ أَبَاهَا. بِالنَّارِ تُحْرَقُ ".
إذًا: الذي يظهر لنا أن تكلم المسيح في المهد كان لتبرءة أمه من تهمةِ الزنا، ومن عقوبتها ظلمًا(حرقها بالنار طبقا لشريعة اليهود)...فلم يذكرْ القرآن القصص إلا للعبرة والعظة وتقوية الإيمان بالحق للقوم المؤمنين...
الوجه الثالث: أنّ القرآنَ الكريم ذكر تكلم المسيحِ في المهد ليعلن توحيده للهِ منذُ طفولته، ويعلن أنّه ليس إلهًا أو ابن إلهٍ، وأنه ليس بعاقٍ لأمِه بخلافِ ما نسبه إنجيل يوحنّا له بأنّه أهان أمَه في العرس وسط الحضور، وذلك في الإصحاح 2 عدد 4 " قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ".
وما نسبه إنجيل لوقا للمسيح بأنّه وصف أمه بعدم الإيمان، وذلك في الإصحاح 8 عدد 19 " وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أنْ يصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ. 20فَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ:«أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا، يُريدُونَ أنْ يرَوْكَ». 21فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا".!
قلتُ: كأنّ اللهَ أعلم المسيحَ منذُ طفولته بأنّهم ينسبون إليه مثل هذه الأقوالِ، فقال المسيح وهو طفل: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.
وبالجملة: يقولُ اللهُ عن حاكيًا عن نبيِّه عيسى لما تكلم في المهدِ: قَالَ إنّي عبد اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أنْ يتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35) وَإنّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ(37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(38) (مريم).
رابعًا: إن كاتب إنجيل لوقا ذكر لنا أنْ يوحنّا تكلم في المهدِ...وذلك في الإصحاح الأوّل عدد 7 " وأمّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا. 58وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أنّ الربَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. 59وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. 60فَأَجَابَتْ أمُّهُ وَقَالَتْ:«لاَ! بَلْ يُسمّى يوحنّا». 61فَقَالُوا لَهَا:«لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ». 62ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُريدُ أنْ يُسمّى. 63فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قِائِلًا: «اسْمُهُ يوحنّا». فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. 64وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ. 65فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ، 66فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ:«أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟" وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ".
قلتُ: إذا كان يوحنّا تكلم في المهد بحسبِ هذه النصوص فلا داعي للاستهزاء والسخرية مِن قَولِهم: تكلم في اللفة... ثم إن مِنَ المحتمل أنّ المسيحَ هو من تكلم ونسبوا هذه القصّة ليوحنا...
كتبه / أكرمُ حسن مرسي
نقلًا عن كتابي : ردّ السهام عن الأنبياءِ الأعلام، بعد المراجعة