[TR]
[TD="class: usermess, align: right"]لا تجعلوا قبري عيدا

سمير بن خليل المالكي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ، فهذا رد مختصر على بعض المتعالمين المعاصرين الذين ركبوا موجة التحريف والتبديل لهذا الدين بطرق فجة ، فكل يوم تصدر منهم لوثة ، ولا أحسبهم منتهين عن العبث واللعب بأصول الشريعة وفروعها ، حتى لا يببقوا مسألة إلا وقد أحدثوا فيها حدثا ، إلا أن يشاء الله فيهم أمرا .
والجدال مع مثل هؤلاء الجهلة المتحاذقين ، عادة ما يفضي إلى التطويل ، لأن إلقاء الشبهة في العامة يحصل بكلمات يسيرات ، بينما يستغرق الرد عليها وتفنيدها صفحات ، وربما مجلدات .
وهذا معلوم بالضرورة في الحس والعقل .
ومثل ذلك كمثل من ينشر جرثومة معدية في وسط مدينة مكتظة بالناس ، فيتطلب القضاء عليها جهدا حثيثا ، قد تفنى فيه أعمار وأموال .
لكنني سأكتفي هنا بالاختصار ، لأن التطويل قد يصرف العامة عن الاستفادة ، ولأن المحتسبين في الرد كثيرون أيضا ، فهذا يختصر ، وذاك يطيل ، وآخر يتوسط .. وهكذا .
ونحن _ وإن ضاقت صدورنا بما يشبه به المتعالمون في هذا الزمان _ إلا أننا نحمد الله على كل حال ، فإنه كثيرا ما يخرج من رحم المصائب عواقب حميدة ، وتنقلب المحن منحا .
واعتبر بحادثة الإفك ، وما حصل بعدها من خير ، فلله الحمد من قبل ومن بعد .
* * * * * * * *
ومن هؤلاء المبدلين ، طالب علم ، ذو أصل رفيع و نسب شريف ، وهو الدكتور حاتم العوني ، وأنا أعرفه منذ زمن بعيد ، وقد رأيت منه حرصا على طلب العلم في أول الأمر ، ثم أصبح بعدها شخصا آخر ، خاصة بعد أن عين في مجلس الشورى ، فصار همه الأكبر أن ينشر الشبهة ويشيع الخلاف في الأمة .
فقبل سنوات تكلم في مسألة الولاء والبراء ، فقرر مذهب المرجئة ، وظهر من عباراته أنه مشحون على أهل السنة ممن يرى خلاف رأيه ، وقد كفانا فضيلة الشيخ بندر الشويقي مؤنة الرد عليه ببحثه الماتع ، متعه الله بوافر العلم و الحكمة .
وقد اجترأ الدكتور حاتم ، كذلك ، على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ، وعلى دعوته وأتباعه ، ولمز قناتهم بكلام تافه ، لا يصدر إلا عن مخالف ، أو جاهل ، بمكانة الشيخ محمد ودعوته السلفية المباركة ، ورد عليه أيضا الشيخ بندر الشويقي و أجاد ، جزاه الله خيرا .
* * * * * * * *
وآخر ما قرأت لهذا المخالف ، كلام عن حكم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، حيث استدل على جوازه بأثرين عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنهما .
قال الدكتور حاتم \" ثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : ( لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين ، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل ).
وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وجوه يصحح بعضها بعضا أنه قال عن مسجد قباء < لو كان هذا المسجد بأفق من الآفاق ، لضربنا إليه آباط الإبل > \" .
ثم قال الدكتور عقب ذلك \" وهذان الأثران يدلان على جواز شد الرحل إلى مسجد غير المساجد الثلاثة .
فإن قيل : إن مسجد قباء يدخل في حكم شد الرحل إلى المسجد النبوي لأنه في حرم المدينة ، قيل : فالقبر أولى ، فهو في المسجد النبوي ، لا في حرمها فقط .
فإن قيل : قولهما مرجوح ، نقول : كونه مرجوحا عندك ، لا يلزم منه أن لا يكون راجحا عند غيرك ، إلا إذا كان خلاف هذين الإمامين السلفيين خلافا غير معتبر عندك ! أو إذا كان قولهما قولا مبتدعا ؟!!
أو إذا كانا بهذا القول قد خالفا نصا قطعيا معلوما من الدين بالضرورة ؟
فإذا لم يكن شيئ من ذلك فيجب أن نبحث عن سبب تضخم هذه المسألة عندنا ، ولماذا صادرنا فيها آراء أكثر أهل العلم ، ولماذا جعلناها حدا من حدودنا التي ابتدعناها للتفريق بين السني والبدعي .
رضي الله عن الفاروق عمر ، وعن خال النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص ، ماذا سنقول عنهما لو كانا في زماننا \" . انتهى كلام الدكتور حاتم .
قال سمير : إن هذا التقرير الذي أورده الدكتور هنا قد كشف لنا عن مدى جهله وقصور فقهه وتأصيله في مسائل الخلاف ، فإنه لم يذكر أصل المسألة ثم يفرع عليها ، ولم يسق دليلها المشهور ، بل ذكر فرعا ونقض به أصلا ، ثم خلط في الكلام ، وجاء بما يشبه عبارات الصحفيين .
فأصل المسألة عند التحقيق : حكم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة .
ودليلها المتفق عليه بما يشبه التواتر جملة نصوص مرفوعة وموقوفة في النهي عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة.
والبحث بعد ذلك في دلالة هذه الأحاديث على ما سوى المساجد من القبور والبقاع التي تقصد بالسفر للتعبد والتبرك ، هل هي داخلة فيها بالنص ، أو بقياس الأولى .
وأما ما أورده من آثار عن بعض الصحابة فإنه لا يعد أصلا في هذه المسألة عند من يفهم أصول الفقه والعلم وطرق الاستدلال ، فإن مثل هذه الآثار ليست عامة ، بل هي خاصة في قضية عين .
ومن يحتج بالأثر فإنه يشترط فيه أن لا يعارض الحديث النبوي الصريح .
وإننا لو فرضنا أن أحدا من الصحابة نص على : جواز شد الرحال إلى غير الثلاثة ، مطلقا ، لقلنا : إن كلامه مردود عليه ، كما رد أهل العلم آثارا كثيرة مخالفة للسنة النبوية ، والأمثلة أكثر من أن تحصر .
والذي عندنا هنا أن الأحاديث قد جاءت بلفظ عام أو مطلق ، وبصيغة النهي الصريح .
وأما الآثار فإنها وردت في قباء خاصة ثم هي ليست صريحة ، لأنه يمكن أن يقال إن المقصود بها : المبالغة في تحري الصلاة في قباء ، لا أن تشد له الرحال حقيقة .
وهذا كثيرا ما يرد في كلام السلف من الصحابة وغيرهم ، كما قالت عائشة عن صلاة الضحى : لو نشر لي أبواي ما تركتها .
وقالت في إنكارها لما صدر عن بعض الصحابة في الربا : قد بطل جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وكقول شعبة بن الحجاج : لأن أزني أحب إلي من أن أدلس ... إلى غير ذلك من الألفاظ التي لا يقصد بها حقيقتها ، وإنما سيقت على وجه المبالغة في الترغيب أو الترهيب .
وعمر له أفراد مسائل لم يتابع عليها ، ومنها : إنكاره التطيب للمحرم في جسده قبل إحرامه ، مع ثبوت السنة بذلك .
وخفي على عمر سنن مشهورة كالاستئذان لدخول البيوت .
وأكثر الصحابة قد حكيت عنهم أقوال مخالفة للسنة النبوية ، كأكل البرد للصائم ، وغسل العينين في الوضوء ، فاطرح الفقهاء أقوالهم ، وعدت من الأخطاء ، التي لا يسلم منها أحد من البشر ، ولم تجعل أقوالا سلفية معتبرة لظهور مناقضتها للسنة النبوية الظاهرة .
ثم من أين فهم الدكتور أن قول عمر وسعد يعم كل المساجد _ سوى قباء _ حتى يشمل جواز شد الرحال إليها، فضلا عن شموله سائر البقاع والمشاهد والقبور ؟
ثم نقول : لم يكن الدكتور في حاجة إلى أن يستحضر هذين الأثرين في تقرير مذهب جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، فإن القائلين به كثيرون ، والمسألة أشبعت بحثا وتقريرا وجدلا من قبل أكثر من ثمانية قرون في كتب المذاهب الفقهية الأربعة ، وشروح الحديث ، وقد أفردت في مصنفات ، فما الذي جد في الأمر ؟ إلا أنه أراد أن يشيع فتنة وشبهة لدى العامة و طلبة العلم ، حتى يتركوا ما تعلموه من مشايخهم وأئمتهم ، وفيهم كبار علماء بلاد الحرمين ، الذين اتفقت كلمتهم _ ولله الحمد والمنة _ من عدة عقود على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، وخاصة القبور ، فإن ذلك مدعاة للغلو فيها وفي أهلها ، كما هو مشاهد .
وأنا أقول لهذا المخالف : هب أن كلا القولين في مسألة شد الرحال إلى كل البقاع معتبر : القول بالجواز ، والقول بالتحريم ، وأنك اخترت لنفسك الأول ، ولا حرج عليك أن تختار لنفسك ما تدين الله به ، لكن أين المصلحة ، وأين الحكمة ، في إشاعة الخلاف في العامة في مسألة أطبق عليها كل أهل العلم والفتوى في هذه البلاد؟
خاصة وأن القول بالمنع والتحريم هو الأقوى في الدليل ، والأحوط في الدين ، والأقرب إلى مراعاة أصول وقواعد الشرع .
بل لو حكى شخص الاتفاق العملي على منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، في القرون الثلاثة الفاضلة ، لما كان كلامه بعيدا ، فإنه لا يستطيع أحد أن يأتي بأثر واحد صحيح صريح عن أحد من الصحابة ، أو التابعين والأئمة المعروفين ، أنه شد الرحال إلى مسجد _ سوى الثلاثة _ أو إلى قبر أو بقعة بقصد التعبد والتبرك بها .
وعندما أراد بعضهم إتيان الطور أنكر عليه ، كما سيأتي .
وحتى الأئمة الذين حكوا جواز ذلك ، كابن قدامة والنووي وابن حجر وغيرهم ، لم ينقلوا أثرا واحدا عن السلف في إباحة ذلك .
ومعلوم أن من يتكلم في مسائل الخلاف ، في كتب المذاهب وشروح الحديث ، عادة ما يحكي أقوال السلف ، إذا كان لهم قول ، فيقول : وهو قول فلان وفلان من الصحابة ، وقول فلان وفلان من التابعين ، وهكذا .
ولم ينسب أحد من العلماء المتأخرين مذهب الجواز لأحد من الصحابة ولا لأحد من التابعين ، بل إنهم لم ينسبوه أيضا لأحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا من هم في طبقتهم من أئمة المسلمين ، كسفيان الثوري ، وابن عيينة ، والأوزاعي ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وإسحق بن راهويه ، وأضرابهم من أئمة الأمصار في القرنين الثاني والثالث .
دعك مما شغب به بعض المخالفين كالسبكي في كتابه \" شفاء السقام \" ، فإنه شذ عن أهل العلم في كثير مما أورده في كتابه ، وقد كفانا الإمام ابن عبدالهادي وشفانا في الرد عليه في كتابه \" الصارم المنكي \" .
وكل المخالفين من بعد السبكي إنما قلدوه في شبهاته وضلالاته ، ولم يأتوا بجديد .
وأما ما ذكره الأئمة الفقهاء الذين رجحوا جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، فإنهم لم يسندوه إلى أحد من السلف .
وهذا يؤيد ما قلناه من أن أثري عمر وسعد لا دلالة فيهما على ما ذكره المخالف ، وإلا لحكوه مذهبا لهما .
قال النووي \" واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة ، كالذهاب إلى قبور الصالحين ، وإلى المواضع الفاضلة ، ونحو ذلك .
فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : هو حرام ، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره .
والصحيح عند أصحابنا ، وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره \" .
انتهى من شرح صحيح مسلم [ 9 / 106 ] .
وذكر نحو هذا الكلام الحافظ بن حجر في الفتح [ 3 / 65 ] لكنه فصل أكثر .
ونحوه أيضا كلام ابن قدامة في المغني [ 3 / 117 ] .
وأثر عمر أورده عبدالرزاق في المصنف [ 5 / 133 ] وقد روى قبل ذلك أحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، وأتبعها بآثار في تأييد ذلك ، ثم ذكر أثر عمر بلفظ ( لو كان مسجد قباء في أفق من الآفاق ضربنا إليه أكباد المطي ) .
قلت : هذا يمكن أن ينزل على المبالغة في تحري الصلاة في مسجد قباء ، دون أن يقصد شد الرحل إليه حقيقة ، أو يقال : هذا خاص بمسجد قباء فلا يعمم على غيره ، فمن أين أخذ الدكتور حاتم تعميم الحكم حتى شمل القبور؟
وتبويب عبدالرزاق يؤكد أن شد الرحال لا يشمل قباء ، لأنه قال :
\" باب ما تشد إليه الرحال ، والصلاة في مسجد قباء \" .
فخص قباء بالصلاة دون شد الرحال إليه .
يؤيده ما رواه عبدالرزاق بعد أثر عمر السابق من طريق ابن المسيب قال : بينا عمر في نعم من نعم الصدقة مر به رجلان ، فقال من أين جئتما ؟ قالا من بيت المقدس ، فعلاهما ضربا بالدرة ، وقال : حج كحج البيت ؟ قالا يا أمير المؤمنين إنا جئنا من أرض كذا وكذا ، فمررنا به فصلينا فيه ، فقال : كذلك إذا ، فتركهما > .
قال سمير : هذا مع أن شد الرحال إلى بيت المقدس مشروع بنص الحديث ، ومع ذلك أنكر عمر أن يحج إليه كما يحج البيت .
فيمكن أن يقال : إن من فقه عمر التشديد في شد الرحال إلى غير البيت الحرام .
أو أن حديث شد الرحال لم يبلغه ، كما لم تبلغه أحاديث وسنن معروفة ، قد بلغت من هو دونه بكثير ، في العلم والفضل من الصحابة .
وأياً ما كان الأمر ، فتبقى الحجة في السنة النبوية الصحيحة الصريحة ، وأنا أسوقها إليك الآن :
1 _ حديث أبي هريرة (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى). متفق عليه . خ [ 3/ 51 ] م [ 1397]
2 _ حديث أبي سعيد الخدري ، بنحو اللفظ السابق ، وبلفظ آخر أيضا < لا تشدوا الرحال .. > . الحديث .
متفق عليه . خ [ 3/ 57 ] م [ 827 ]
3 _ حديث أبي بصرة قال : لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه ، فقلت له : لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت .
فقال : ولم ؟ فقلت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول < لا تشد الرحال .. > . الحديث .
رواه أحمد [ 6 / 397 ] وله طريق آخر كذلك في الموطأ [ 1 / 108 ] والنسائي [ 3 / 113 ] .
4 _ حديث ابن عمر من طريق قزعة قال : أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال : أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال .. \" فذكر الحديث .
أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ص 304 .
وروى نحوه عبدالرزاق في المصنف [ 9171 ] عن ابن عمر موقوفا .
قلت : فهذه الأحاديث ، بعضها في غاية الصحة ، وقد صرحت بالنهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، وهي في حكم المتواتر لفظا ومعنى ، وهي ترد على قول الدكتور \" أو إذا كانا بهذا القول قد خالفا نصا قطعيا معلوما من الدين بالضرورة \" !!
قلت : أليست أحاديث شد الرحال التي سقناها آنفا نصوصا قطعية ، وبعضها مخرج في الصحيحين ؟
قلت : ويدخل في النهي كل مساجد الأرض ، عدا الثلاثة ، ويدخل فيها القبور والمشاهد والأماكن التي تقصد للتبرك والعبادة عندها من باب أولى ، كما هو ظاهر .
فلا يصلح أن تعارض بآثار يدعى أنها تناقضها ، و يسوغ مخالفة قول الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم بقول غير معصوم ، فإن هذا عين الشقاق ، لأن الله سبحانه قد افترض على عباده طاعة الرسول ، ولم يفرض على أحد طاعة سواه إلا تبعا ، لا استقلالا .
وقد قال سبحانه { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .
وقال { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
وقد قال ابن عباس لمن عارضه في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر \" يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أجيئكم برسول الله وتجيئونني بأبي بكر وعمر \" .
وقد قال بعض الأئمة :
العلم قال الله قال رسوله
إن صح والإجماع فاجهد فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
بين الرسول وبين قول فقيه
* * * * * * * *
وإتماما للبحث فإني أقول : إن هذا المخالف لم يقصد بهذا التشغيب إلا أن يسوغ شد الرحال إلى القبر النبوي ، وهو قد صرح بأن القول بجوازه أولى من القول بجواز شد الرحل إلى قباء لقرب القبر إلى المسجد النبوي .
وهذا يعم القول بجواز شد الرحال إلى سائر القبور ، وهو قول يؤدي إلى محذورات شرعية لا تخفى ، فإن عبادة القبور إنما ظهرت و تفشت بسبب مثل هذا الغلو في تعظيمها وشد الرحل إليها ، كما فصل ذلك أئمة الإسلام ، كابن تيمية ومن بعده ، وكأئمة الدعوة النجدية رضوان الله عليهم .
وثمة أحاديث وآثار سلفية تنقض ذلك التعميم الذي ذهب إليه المخالفون .
وسأكتفي بنقل أثرين عن حفيدي الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن قصد قبره صلى الله عليه وسلم للسلام من دون شد رحال .
أ _ عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : أنه رأى رجلا يجيئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه ، فقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال < لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم > .
رواه أبو يعلى في مسنده [ ح 469 ] .
ب _ عن سهيل بن أبي سهيل قال :
رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر ، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى ، فقال : هلم إلى العشاء .
فقلت : لا أريده .
فقال : مالي رأيتك عند القبر ؟
فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال : إذا دخلت المسجد فسلم .
ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال < لا تتخذوا قبري عيدا .. > الحديث .
ثم قال الحسن : ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء \" .
رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي [ ح 30 ] .
قال سمير : احتج شيخ الإسلام ابن تيمية بهذين الأثرين ، وبغيرهما من نصوص السلف على أن الصحابة لم يكونوا يتحرون المجيئ إلى القبر للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ( ولو من غير سفر ) و إنما كانوا يكتفون بالسلام عليه عند دخول المسجد ، كما هي سنة دخول كل مسجد في الأرض والخروج منه ، وأنه لا مزية لمن سلم عليه في مواجهة القبر على من بعد عنه ولو كان في الاندلس ، كما قال الإمام الحسن .
وأيد هذا الفهم حديث < لا تجعلوا قبري عيدا > .
فإن معناه : لا تقصدوه بالاجتماع عنده ، ولا تنتابوه ، كما يفعل بالأعياد المكانية التي شرعت في الإسلام ، كالمسجد الحرام و عرفة ومزدلفة ومنى .
وإنما اشتهر عن ابن عمر خاصة أنه كان يقصد القبر للسلام ولم يكن بشد رحل .
قال سمير : فإذا كان هذا في زيارة القبر المجردة عن شد الرحل ، فكيف بشد الرحل ؟
قال ابن تيمية \" ووجه الدلالة أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض ، وقد نهى عن اتخاذه عيدا ، فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان .. \"
إلى أن قال \" ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما ، نهى ذلك الرجل أن يتحرى
الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم ، واستدل بالحديث ، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي ، وأعلم بمعناه من غيره .
فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا .
وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته ، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه ، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا .
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت ، الذين لهم من رسول الله قرب النسب و قرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط \" .
انتهى باختصار من اقتضاء الصراط المستقيم [ 2 / 654 _ 660 ] .
* * * * * * * *
قال سمير : ومسألة زيارة القبر النبوي من دون شد رحل ، قد استدل أكثر أهل العلم على جوازها بالأحاديث العامة في مشروعية زيارة القبور ، وبفعل ابن عمر [ الموطأ 1/ 166] .
وأما شد الرحل من أجل زيارة القبر النبوي أو غيره من القبور ، فهو منهي عنه ، وليس في كلام أئمة السلف ما يدل على جوازه .
وبسط هذه المسألة مما يطول ، وقد بسطها ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه، وأفردها بكتاب \" الجواب الباهر\"
فليرجع إليه من أراد الاستزادة ، والله تعالى أعلم .
صيد الفوائد.

[/TD]
[/TR]