إن أحداً من كتاب العهد الجديد - سوى بولس - لم يدع لنفسه الإلهام ، بل سجلت كتاباتهم أن هذا العمل جهد بشري خالص لم يقصد كاتبوه أن يسجلوا من خلاله كتباً مقدسة.
فها هو لوقا في مقدمة إنجيله يقول “ إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة ، رأيت أنا أيضاً - إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق - أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس ، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به “ ( لوقا 1/1-4 ) .
فيفهم من هذه المقدمة أمور منها : أن إنجيله خطاب شخصي ، وأنه دوّنه بدافع شخصي ، وأن له مراجع نقل عنها بتدقيق ، وأن كثيرين كتبوا غيره ، ولم يذكر لوقا شيئاً عن إلهام إلهي أو وحي من روح القدس .
وإذا كان الحواريون والتلاميذ غير عارفين بإلهامية ذواتهم وبعضهم ، فكيف عرف النصارى ما جهله أصحاب الشأن ؟ لا دليل في الأناجيل على إلهامية أحد منهم .

رسائل شخصية لا علاقة للإلهام والوحي بها :

ثم إن في رسائل بولس خصوصاً والحواريين عموماً عشرات المواضع التي تشهد لهذه الرسائل بأنها شخصية لا علاقة للوحي بها ، ومن ذلك :
“ يسلم عليك أولاد أختك “ ( يوحنا (2) 13 ).

ويرسل يوحنا المزيد من السلامات لأحبابه “ غايس الحبيب الذي أحبه بالحق. أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً ... سلام لك ، يسلم عليك الأحباء ، سلم على الأحباء بأسمائهم ( يوحنا (3) 1-14) .
وفي رسائل بولس مثل ذلك ، ومنه : “ تسلم عليكم كنائس آسيا ، يسلم عليكم … أكيلا وبريسكلا .. يسلم عليكم الإخوة أجمعون ، سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة “ ( كورنثوس (1) 16/19 - 20 ).
ويواصل بولس تسجيل رغياته الشخصية، فيقول: “ الرداء الذي تركته في تراوس عند كابرس أحضره متى جئت ، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق .... سلم على ريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس. اراستس بقي في كورنثوس ، وأما ترو فيمس فتركته في ميليتس مريضاً . بادر أن تجيء قبل الشتاء ..…. ( تيموثاوس (2) 4/13 - 21 ).
وهكذا تستمر رسائل بولس وسلاماته إلى أصدقائه وأفربائه، وتطول كما في رسالة رومية، وفيها: " أوصي إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا، كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتقوموا لها في أي شيء احتاجته منكم. لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضاً، سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع، اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي، اللذين لست أنا وحدي أشكرهما، بل أيضاً جميع كنائس الأمم، وعلى الكنيسة التي في بيتهما. سلموا على أبينتوس حبيبي الذي هو باكورة إخائية للمسيح.
سلموا على مريم التي تعبت لأجلنا كثيراً. سلموا على أندرونكوس ويونياس نسيبيّ المأسورين معي اللذين هما مشهوران بين الرسل، وقد كانا في المسيح قبلي. سلموا على أمبلياس حبيبي في الرب. سلموا على أوربانوس العامل معنا في المسيح وعلى أستاخيس حبيبي. سلموا على أبلّس المزكى في المسيح. سلموا على الذين هم من أهل أرستوبولوس.
سلموا على هيروديون نسيبي. سلموا على الذين هم من أهل نركيسوس الكائنين في الرب. سلموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب. سلموا على برسيس المحبوبة التي تعبت كثيراً في الرب. سلموا على روفس المختار في الرب وعلى أمه أمي. سلموا على اسينكريتس فليغون هرماس بتروباس وهرميس وعلى الإخوة الذين معهم. سلموا على فيلولوغس وجوليا ونيريوس وأخته وأولمباس وعلى جميع القديسين الذين معهم.
سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة.كنائس المسيح تسلم عليكم،... يسلم عليكم تيموثاوس العامل معي ولوكيوس وياسون وسوسيباترس أنسبائي. أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة اسلم عليكم في الرب. يسلم عليكم غايس مضيفي ومضيف الكنيسة كلها. يسلم عليكم اراستس خازن المدينة وكوارتس الأخ. "( رومية 16/1 – 21).
وتتكرر المشاهد الشخصية في رسالة فيلبي، حيث يقول: " أنا أيضاً سآتي إليكم سريعاً، ولكني حسبت من اللازم أن أرسل إليكم ابفرودتس أخي والعامل معي والمتجند معي ورسولكم والخادم لحاجتي، إذ كان مشتاقاً إلى جميعكم ومغموماً، لأنكم سمعتم أنه كان مريضاً..، فأرسلته إليكم بأوفر سرعة، حتى إذا رأيتموه تفرحون أيضاً وأكون أنا أقل حزناً " (فيلبي 2/26 -28).
ولا يبسى بولس أن يسجل هنا أيضاً بعض تحياته، فيقول: " سلموا على كل قديس في المسيح يسوع. يسلم عليكم الإخوة الذين معي، يسلم عليكم جميع القديسين، ولا سيما الذين من بيت قيصر.. كتبت إلى أهل فيلبي من رومية على يد ابفرودتس " ( فيلبي 4/21 – 22).
ومثل هذا كثير، انظر (كورنثوس (1)16/20)، و (فيلمون 1/21 - 24 ) ...... فهل هذه العبارات من إلهام الله ووحيه؟!


عبارات لا يمكن أن تكون وحياً :

لو تتبعنا الأناجيل لما وجدنا ما يشعر بأن أياً منها صادر من ملهم يكتب وحياً ، فمثلاً يقول لوقا :
“ ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة ، وهو - على ما كان يظن - ابن يوسف .. “ ( لوقا 3/23 ) فلفظه “ نحو “ “يظن” لا تصدر عن ملهم جازم بما يقول، وقد أزعجت هاتان العبارتان علماء الكنيسة ، فحذفوهما من طبعة الكتاب المقدس المنقحة.

ومثله في خاتمة يوحنا يقول : “ وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ( يوحنا 20/30 - 31 ) ، وقد كتبه بطلب من أساقفة آسيا لا الروح القدس، وهو لا يقول بأن الله ألهمه ذلك.
ويقول : “ هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا ، وكتب هذا ، ونعلم أن شهادته حق “ فلم يذكر شيئاً عن إلهام هذا الإنجيل ، ثم قال بعدها ما أثبت صفة البشرية لكلامه “ وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة “ ( يوحنا 21/24 - 25 ) ، فمثل هذه المبالغة لا يغيب أنها صنع بشري لعادة البشر في ذلك.
وعلاوة على هذا كله فإن في الرسائل فقرات تنفي هي عن نفسها دعوى الإلهام وتكذبه، وتشهد لصاحبها بأنه يتحدث ببشرية تامة ، وأن الوحي لا علاقة له بما يكتب
ومن ذلك قول بولس : “ أقول لهم أنا لا الرب “ ( كورنثوس (1) 7/12 ) .
ثم يقول “ حسب رأيي “ ( كورنثوس (1) 7/40 ).
ويقول : “ ليس عندي أمر من الرب فيهن “ ( كورنثوس (1) 7/25 )، فهل نصدق بولس، وهو يصف كلامه هنا بأنه رأي شخصي أم نصدق النصارى الذين يقولون عن هذه العبارات أنها أيضاً ملهمة .
ويقول بولس أيضاً وهو ينفي عن كلامه صفة القداسة “ الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب، بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه “ ( كورنثوس (2) 11/16 - 17 ).
ويؤكد أن بعض ما يصدر عته هو محض رأي بشري واجتهاد شخصي منه، فيقول: “ لست أقول على سبيل الأمر، بل باجتهاد ... أعطي رأياً في هذا أيضاً “ ( كورنثوس (2) 8/8 - 10 ).
ويقول بولس: “ ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً “ ( كورنثوس (2) 11/1 )، فهل أوحى الله له أن يصف نفسه بالغباء، وهل يعتذر الله ويخشى أن يكون ملهمه قد أثقل على أولئك الذين يقرؤون رسالته.
ويقول معتذراً، والمفروض أن القائل وحي الله الذي يسجله بولس: “ لقد اجترأت كثيراً فيما قلت أيها الإخوة“ ( رومية 15/15 ).

إنكار المحققين لإلهامية كتبة العهد الجديد :

وقد أنكرت بعض فرق النصارى وبعض مقدميهم وغيرهم من المحققين إلهامية الأناجيل والرسائل .

ويقول مؤلفو الترجمة المسكونية: “ جمع المبشرون ، وحرروا، كل حسب وجهة نظره الخاصة ما أعطاهم إياه التراث الشفهي “ فليس ثمة إلهام إذن.
ويقول لوثر عن رسالة يعقوب: “ إنها كلّاء .. هذه الرسالة وإن كانت ليعقوب .. إن الحواري ليس له أن يعين حكماً شرعياً من جانب نفسه ، لأن هذا المنصب كان لعيسى عليه السلام فقط “، فقول لوثر هذا، يفهم منه عدم اعتباره ليعقوب الحواري ملهماً.

ثم يقول ريس في دائرة معارفه: “ والكتب التي كتبها تلاميذ الحواريين - مثل إنجيل مرقس ولوقا وكتاب الأعمال - توقف ميكايلس في كونها إلهامية “.
ويقول" حبيب سعيد" عن بولس في كتابه "سيرة رسول الجهاد" منبهاً إلى حقيقة هامة وصحيحة : " لم يدر بخلده عند كتابتها - أو على الأصح عند إملائها - أنه يسطر ألفاظاً ستبقى ذخراً ثميناً تعتز به الأجيال القادمة"، ويا للعجب ، بولس لا يعلم بقدسية كلماته بينما النصارى عنه يناضلون.
وفي الفاتيكان شكل البابا ( جون ) لجنة لدراسة الإنجيل برئاسة العلامة (هانز كومب)، وبعد دراسة متأنية ، قررت اللجنة:" أن الإنجيل كلام بشر ، وأنه لا يوجد دليل على أن الإنجيل ينحدر مباشرة عن الله “ .

أحداث مهمة لا يصح أن يذهل عنها الملهم :

ومما يردّ دعوى الإلهام ذهول بعض الإنجيليين عن ذكر أحداث هامة رغم اجتماعهم على ذكر أحداث لا قيمة لها.

ومن ذلك أن الإنجيليين أجمعوا على ذكر حادثة ركوب المسيح على الجحش وهو يدخل أورشليم ، لكن صعود المسيح للسماء لم يذكره التلميذان متى ويوحنا اللذان حضرا المسيح وهو يصعد للسماء ، بينما ذكر ذلك لوقا ومرقس الغائبان يومذاك.
بالأحرى إن أحداً من الإنجيلين لم يلهم كتابة خبر الصعود ، لأن خبر الصعود قد أضيف فيما بعد،كما اعترفت بذلك لجنة تنقيح الكتاب المقدس التي أصدرت النسخة (R.S.V) .
ومما ذهل عنه الإنجيليون فلم يسجله على أهميته إلا واحد منهم معجزة تحويل الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/1 - 11 ).
وكذا معجزة إحياء لعاذر أمام الجموع الكثيرة التي آمنت به بعد ذلك ( انظر يوحنا 11/1 - 46 ).
وكذا انفرد يوحنا بذكر قدرة التلاميذ على مغفرة الذنوب ( انظر يوحنا 20 / 23 ) لكنه لم يذكر شيئاً عن العشاء الأخير على أهميته وشهوده له .
وينفرد متى بذكر نص التثليث الوحيد في الأناجيل ( انظر متى 28/19 ).
كما انفرد بذكر زيارة المجوس للمسيح ( انظر متى 2/1 - 12 ).
وهو الوحيد الذي كتب سفر المسيح وأمه لمصر ( انظر متى 2/14 ) ، وكل هذا مما ينقض دعوى الإلهام إذ لا يليق بالملهِم أن يغفل عن إلهام التلاميذ هذه الأمور الهامة.