الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله تشنيع الملاحدة على حد السرقة ودعواهم أن قطع يد السارق عقوبة وحشية فيها ضرب من القسوة التي تبعث على الاشمئزاز و تتنافى مع الإنسانية الراقية الرحيمة ، وتصيب الإِنسانِ الذي طبق عليه هذا الحد بالإِعاقةِ والبِطالة إذ يصير مقطوع اليد لا يستطيع العمل إذا كان في عمله يعتمد على يده فيصبح عالة على المجتمع ، و إذا قطع يد شخص بريء ظنا من القضاء انه سارق فلا يمكن رد يده إليه لكن في عقوبة الحبس يمكن أن يتم تعويض الشخص عنها ، و قطع يد شخص سوف يولد منه شخصا حاقدا على المجتمع و سوف يحول مشاعر الحب في قلبه تجاه الناس و المجتمع إلى مشاعر انتقام و سوف يبقى يحلم بيوم ينتقم فيه منهم ، و عقوبة قطع اليد سوف تؤثر على نظرة المجتمع للسارق حيث أنه سوف يعرفه الجميع بسبب يده المقطوعة و لن يعود يثق به أحد وقبل بيان فساد هذه الشبهة يحسن بنا ذكر بعض مفاسد السرقة .



مفاسد السرقة

للسرقة العديد من المفاسد منها :
ظلم الناس بالتعدي على أموالهم والاعتداء عليها ،وضياع أموال الناس وأكلها بالباطل ،وأخذها بغير حق وحرمان الناس من أموالهم ،وإفساد معاشهم وترويعهم ،و اضطراب أمنهم على أموالهم ،وإذا انتشرت السرقة أدت إلى إشاعة الخوف بدل الأمن والقلق بدل الطمأنينة والفوضى بدل الاستقرار .


استحقاق السارق لقطع يده التي باشر بها السرقة


من المسلم به أن عقاب أي شخص لابد أن يتناسب مع جسامة الجريمة التي ارتكبها فكلما زادت جسامة الجريمة زاد العقاب ،والسارق قد اعتدى على أموال الناس و أخذها بغير حق بغيا وظلما وحرم صاحب المال من ماله ،وأفسد على الناس معاشهم وظلمهم أشد ظلم وروعهم أشد الترويع ،وتعتبر يده أكبر مساعد له على فعله فهي آلة و أداة ظلمه وعدوانه وبطشه وسطوه فاستحق بذلك قطعها و إتلافها جزاءا وفاقا .

واللهُ – عز وجل - هو الذي مَنَحَ الإنسان اليَدَ ليكسبَ بها ويَعتاشَ ويرتزق، ولكنَه حَوَّلَها إِلى أَداةٍ للعدوان، فناسَبَ أَنْ تُقْطَع، وأَنْ تُزالَ القُوَّةُ الباغيةُ التي يَعْتَدُّ بها، ويَعْتَدي بها على الآخَرين، وهو الذي أَساءَ لنفسِه وليدِه، وهو الذي عَطَّلَها عن مهمتِها الإِيجابية، وحَولَها إِلى وسيلةٍ تخريبية، ولذلك أَدَّبَهُ اللهُ بقَطْعِها[1].

وقطع يد السارق فيه ضرب من القسوة والغلظة والعذاب نكالا له على ما اقترفه من الجرم العظيم ،وهذه القسوة التي في العقوبة سببها فعل أشد قسوة ولعظمه وعظم آثاره عظم الحد و العقاب.

وحد السرقة ليس مكافأة بل عقوبة على فعل مُجَرَم ،و لا عقوبة بلا قسوة و ألم ،و القسوة ليست شرا في كل أحوالها ،و لابد أن تشتمل العقوبة على عقاب رادع و ألم حسي أو معنوي أو الاثنين معا يزداد بزيادة جسامة الجريمة ،وإلا لما كان للعقوبة أثر في الزجر والردع .

ومن لم يبال بغلظة العقوبة وأقدم على السرقة فلا بد من إقامة الحد عليه بقطع يده لتطهير المجتمع منها كي لا يفسد باقي المجتمع كما يستأصل العضو الفاسد في جسد الإنسان كي لا يفسد باقي الجسد .

وقد يقول قائل : "إن قطع يد السارق يساوى من سرق قطعة ذهب مع من سرق ألف قطعة ، و من سرق للمرة الألف مع من يسرق للمرة الأولى " ،ويقول آخر : "إن عقاب السارق بقطع يده ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقاب، فقد يكون المسروق ضئيلاً، ولقد حدَّ نصاب السرقة على مذهب من حده بقدر ضئيل، وهو ربع دينار أو عشرة دنانير.." ، وإن ذلك الكلام يبدو بادئ الرأي وجيهاً وهو عند الله و عند أهل الفكر والإصلاح والعدل الاجتماعي والرحمة العامة الشاملة ليس بوجيه، لأنه التماثل بين الجريمة والعقوبة ليس بشرط - لا في نظر القانونيين ولا في شريعة السماء، إلا إذا كانت العقوبة قصاصا، فإن القصاص أساسه التساوي .

وأما فيما عدا القصاص فالتساوي ليس بشرط لأن المقصد من العقوبة ليس هو المقصود من الضمان المالي، بأن يضمن المعتدي على مال غيره بقدر ما أتلف له من مال، وما ضيع له من منافع، إنما المقصود من العقوبة هو الردع، ومنع التفكير فيها من كل أمرئ تكون نفسه مستعدة لهذا الأثم، وحاله تسهل له ارتكاب ذلك الجرم، فالعقوبة إصلاح اجتماعي وتهذيب عام وزجر نفسي للآحاد و الشذاب .

ولقد نهجت القوانين الحديثة ذلك المنهاج فهي لا تنظر في جرائم السرقات ونحوها إلى مقدار المسروق بمقدار نظرها إلى نفس السارق، وما يترتب على جريمته من إشاعة للخوف وإزعاج للأمن، ولذلك تضاعف العقوبة إذا اعتاد الجريمة وتكررت منه، وقد تحكم ببضع سنين في سرقة بضعة جنيهات، والتفاوت كبير بين الجريمة والعقاب، بل تعطي الجريمة وصفاً إن ارتكبها من غير اعتياد، ووصفاً آخر إن اعتادها وألفها، فتكون العقوبة بمقدار خطر المجرم على المجتمع، وبمقدار الجرأة على الشر، ينشرها بتركه فيفسد الناس[2].


قطع يد السارق من باب ارتكاب أخف الضررين و دفع أعلى المفسدتين

لاشك أن قطع يد السارق فيه ضرر ومفسدة عليه وقد يعيقه عن العمل لكن في ترك قطعها وبقاءها سليمة شر على المجتمع ،وضرر على المجتمع ،و من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق فإنه إفساد لها، ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق [3].



وقد يقول قائل : " إن قطع يد السارق يربح المجتمع شخص معاق وعالة على غيره " والجواب أن مصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد ،والإضرار بالسارق أحد أفراد المجتمع عن طريق قطع يده أقل ضررا ومفسدة من اضطراب أمن المجتمع ،وعيش المجتمع في رعب وذعر وقلق إثر تفشي السرقة والسراق .

وإقامة حد السرقة يحتاج لإثبات شروط و انتفاء موانع والحدود تدرأ بالشبهات ،و كما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها ،و قطع يد السارق قطع ليد شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها يد خبيثة تعطِّل العمل والإنتاج وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم .

وكل ذي لب يدرك أن قطع يد السارق أقل ضررا من ظهور الآثار السيئة التي تسببها السرقة في المجتمع ،ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا، وفسد نظام العالم، وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم[4].

ويد السارق يد خبيثة خائنة ،واليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول [5].

و قطع يد السارق أهون عند الله وعند كل من يفهم حكمة شرع الله، من أن تنتهب الأموال ويسود الخوف بدل الأمن ، وترتكب الجرائم والجنايات على الأرواح في جنح ظلام الليل البهيم ، وليسأل الذين ينفذون حكم الشارع في هذا: كم جريمة سرقت أفضت إلى موت المسروق؟ وكم يد تقطع كل عام إذا أقيم حد السرقة؟ مع ملاحظة أن الحد لا يقام إلا إذا انتفت كل شبهة، كما قال عليه السلام: "أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" إن نتيجة الإحصاء ستوضح لا محالة أن عدد المقطوعين بحكم الله دون من يموتون تحت سلطان الهوى وغواية الشيطان[6].

و قد يقول قائل : " إن عقوبة قطع اليد سوف تؤثر على نظرة المجتمع للسارق حيث أنه سوف يعرفه الجميع بسبب يده المقطوعة و لن يعود يثق به أحد ،وفي هذا إضرار بالغ بالسارق" ،والجواب هذا مطلوب لمزيد من الزجر والردع على جريمة السرقة ففي القطع تنفير للمجتمع من السارق كي يعتبر به غيره ، إذ يعرف كل من يرى يده المقطوعة أنه قد سرق وأقيم عليه الحد فيعتبر و يرتدع من أن يفعل مثل فعله فلا يقدم على السرقة ، و أيضا إذا علم الإنسان أن هذا الشخص قد قطعت يده بسبب السرقة فإنه سيحذر منه و يحتاط منه حتى لا يسرقه .





[1] - القرآن ونقض مطاعن الرهبان للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي ص 382

[2] - شريعة القرآن من دلائل إعجازه لأبي زهرة ص 76

[3] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1/99

[4] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/69

[5] - فقه السنة للشيخ سيد سابق 2/485

[6] - شريعة القرآن من دلائل إعجازه لأبي زهرة ص 76