بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

الخطبة الأولى


ثم أما بعد:

عن أبي ذر عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.

يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي : إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا.

يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))([1]).

كان السلف رضي الله عنهم يعظمون شأن هذا الحديث، كان أبو إدريس الخولاني إذا حدّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه.

الله عز وجل ذو الكرم الفياض يمنّ على عباده بنعمه، وله الحمد والمنة على كل نعمة، فقوله عز وجل: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً والظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها، ولذلك كان الشرك بالله عز وجل هو أعظم الظلم، لأنه وضع المخلوق العاجز المقهور في منزلة الإله القاهر، والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه فضلا منه عز وجل، كما قال تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء:40]، وقال تعالى: وما ربك بظلام للعبيد [فصلت:6]. وقال عز وجل: وما الله يريد ظلماً للعالمين [آل عمران:108]، وحرم الله عز وجل الظلم بين العباد، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي قال: ((إن الظلم ظلمات يوم القيامة)) وفيهما عن أبي موسى عن النبي قال: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد )) [هود:102].

فالظلم حرام في ذاته حتى ظلم الكافر كما قال الله عز وجل: ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].

ومن عظم الظلم عند الله عز وجل، حرم الله عز وجل ذكر عيوب الناس وذنوبهم، وأباح للمظلوم أن ينشر مظلمته حتى إذا نزل بالظالم عذاب الله عز وجل، علم الناس أن ذلك من شؤم الظلم، فقال عز وجل: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُِلم [النساء:148].

ومن عظم الظلم كذلك جعل الله عز وجل دعوة المظلوم مستجابة، ولو كان كافرا، فقال : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حين يفطر)) - وفي رواية ((حتى يفطر))- ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويقول : ((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين))([2]).

أرسل الأمير نوح إلى أهل سمرقند كتابا يأمر فيه بأخذ الخراج منهم، فجمع أميرها الفقهاء وقرأ عليهم رسالة الأمير، فقال له أبو منصور الفقيه قد بلغت رسالة الأمير فأردد عليه الجواب: زدنا ظلما حتى نزيد في دعاء السحر، فلم تمض أيام حتى وجدوه مقتولا، وفي بطنه زج رمح مكتوب عليه.

بغى والـبغي سـهام تـنتظر رمتـه بأيدي المنـايا والقدر

سهام أيدي القانتات في السحر يرمين عن قوس له الليل وتر

وفي صحيح البخاري عن النبي قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه))([3]).

ثم قال: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)).

فالعباد كلهم مفتقرون إلى الله عز وجل، والهداية نوعان: هداية بمعنى تبيين الهدى من الضلال، وهذه الهداية يقدر عليها الرسل وأتباعهم، كما قال الله عز وجل لنبيه : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52].

وقال عز وجل: وهديناه النجدين [البلد:10]. أي أوضحنا له الطريقين طريق الهدى، وطريق الضلال، والنوع الثاني من الهداية : الهداية بمعنى شرح الصدر للإسلام، وهذا النوع لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل، كما قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56].

ثم قال عز وجل: ((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم )).

والله عز وجل قادر على أن يهدي العباد بغير سؤال منهم، وأن يطعمهم بغير سؤال منهم، وأن يكسيهم بغير سؤال منهم ولكنه عز وجل يحب من العباد أن يسألوه عز وجل، وأن ينزلوا حوائجهم به عز وجل، وأن يعترفوا بأنهم كلهم في ضلال، حتى يهديهم الله عز وجل، كلهم جائعون حتى يطعمهم الله عز وجل، كلهم عراة حتى يكسيهم الله عز وجل، كلهم هلكى بذنوبهم حتى يغفر الله عز وجل لهم، لذا أحب الله عز وجل سؤال العباد له عز وجل، وتضرعهم إليه عز وجل، بل يبتلي الله عز وجل الناس بالبلايا والرزايا حتى يتضرعوا إليه عز وجل، كما قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون [الأنعام:42].

وعاتب الله عز وجل العباد بقوله: ((إنك تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا)) فبدأ بالليل، والله عز وجل جعل في الليل فرصة للتوبة والإنابة والاستغفار، فملأ الناس الليل قبل النهار بالمعاصي.

ثم قال عز وجل: ((يا عبادي لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) فشأن الله عز وجل أعلى وأغلى من أن يتضرر بمعاصي العباد، أو، ينتفع بطاعاتهم، بل العباد أنفسهم هم الذين ينتفعون بطاعاتهم وهم أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، والله غني حميد.

قال تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً [آل عمران:176].

وقال تعالى: ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً [آل عمران:144].

وقال عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد [إبراهيم:8].

وقال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [فاطر:15-16].

فالله عز وجل يحب من العباد أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه، ويحب منهم أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره عز وجل، مع أنه عز وجل غني عنهم وعن طاعتهم، ثم بين الله عز وجل ذلك بقوله: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا )). يمن الله عز وجل بكمال ملكه، فملكه عز وجل لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء قلوبهم على قلب اتقى رجل منهم، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.

ثم قال عز وجل: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل البحر)) يمنّ الله عز وجل بتمام قدرته، وكمال أسمائه وصفاته، وكمال غناه، فلو أن الأولين، والآخرين الإنس والجن اجتمعوا في مكان واحد، وقاموا واجتهدوا في إنزال الحوائج والرغائب بالله عز وجل، فمن كمال قدرته وكمال سمعه وبصره أنه يسمع الجميع في وقت واحد، على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وحوائجهم، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ومن كمال قدرته عز وجل يحقق مطالب الجميع في وقت واحد، لا يشغله إجابة داع عن داع آخر، ومن كمال غناه عز وجل لا ينقص مع ذلك ما عند الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فيا بؤسا للقانطين من رحمته، ويا بؤسا للزاهدين في عطائه، والمخيط إذا أدخل البحر لا ينقص منه شيئا، كذلك ما عند الله عز وجل كما قال تعالى: ما عندكم ينفد وما عند الله باق [النحل:96].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة – أي لا تنقصها نفقة – سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض – أي لم ينقص – ما في يمينه)).

ثم قال عز وجل: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))، يمن الله عز جل له الحمد والمنة على كل نعمة على عباده بكمال عدله فيقول: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم كما قال تعالى: يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما علموا أحصاه الله ونسوه [المجادلة:6].

وقال عز وجل: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً [آل عمران:30].

وقال عز وجل: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49] .

فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فيحصي الله عز وجل على العباد أعمالهم ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها، وتوفية الأعمال يوم القيامة، فإن المؤمن قد ينال ببركة طاعته في الدنيا، وينال الكافر بشؤم معصيته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، ومودة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في الوجه، وسوادا في القلب، وضيقا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

(أما توفية الأعمال ) فيوم القيامة ينال المحسن جزاء إحسانه كاملا، والمسيء جزاء إساءته أو يعفو الله عز وجل، قال تعالى: وإنما توفون أجوركم يوم القيامة] [آل عمران:185].

ثم قال عز وجل: ((فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) فلو وجد العبد في نفسه طاعة الله عز وجل فليحمد الله عز وجل، فما أطيع إلا بفضله ورحمته، وما عصي إلا بعدله، وحكمته، كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فلا يستطيع أحد أن يطيع الله عز وجل إلا بمعونة الله عز وجل وتوفيقه

إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

كان السلف رضي الله عنه يجتهدون في الطاعات.ويخافون من المعاصي حتى لا يلوموا أنفسهم يوم القيامة.

كان عامر بن عبد قيس يقول: (والله لأجتهدن، ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله، وإلا لم أَلُمْ نفسي).

وكان زياد بن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوان بن سليم : (الجد الجد والحذر الحذر، فإن يكن الأمر على ما نرجو كان ما عملتما فضلا، وإلا لم تلوما أنفسكما) وكان مطرف بن عبد الله يقول : (اجتهدوا في العمل، فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات، وإن يكن الأمر شديدا كما نخاف ونحذر لم نقل ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، نقول : قد عملمنا فلم ينفعنا ذلك ).

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا .

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

([1])رواه مسلم (16/132،133) البر والصلة : تحريم الظلم ، ورواه الترمذي (9/304،305) أبواب صفة القيامة وقال الترمذي : هذا حديث حسن واللفظ لمسلم .

([2])رواه الترمذي (10/5) أبواب صفة الجنة وقال : هذا الحديث ليس إسناده بذاك القوي وليس هو عندي بمعتل ، ورواه أحمد (305أ445) ، وابن ماجة في الصيام ، وقال عبد القادر الأرناؤوط : هو حسن بشواهده (11/13) جامع الأصول .

([3])رواه البخاري (5/101) المظالم : باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحلها له هل يبين مظلمته والترمذي (9/254) صفة القيامة : باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص بفظ : ((رحم الله عبدا كان لأخيه عنده مظلمة)) الحديث.

المنبر