بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

أهمية الإيمان باليوم الآخر:


ـ إن الإيمان باليوم الآخر أحد الركائز الأساسية , التي يقوم عليها الإيمان بالغيب , إذ يمثل الإيمان به حقيقة الإقرار بالجزاء الموعود به من الله تعالى , والذي يحمل صاحبه على الامتثال لكل ما يأمر به الرب عز وجل ؛ فتتحقق بذلك الغاية التي من أجلها كان الخلق والأمر, وهي عبادة الله وحده بكل ما تعنيه هذه الكلمة من شمولية المنهج تنظيرا وتطبيقا .



ـ أما عن منزلته من أركان الإيمان ؛ فهو الركن السادس منها .



ـ وحقيقة الإيمان باليوم الآخر ترتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان بالله تعالى , فهذا المجازي وذلك هو الجزاء , ولعل هذا أحد ما يترجح به تفسير الاقتران الذي كثيرا ما يتكرر بين هذين الركنين من الإيمان في القرآن الكريم ؛ الإيمان بالله تعالى ، والإيمان باليوم الآخر.



يقول تعالى في بيان حال المنتفع بأوامر الله تعالى و نواهيه : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة:232).



والقرآن يؤكد على هذه الحقيقة العظمى ببيان ما يرتبط بتحققه من الإيمان بصفات الله تعالى , ببيان أن ذلك هو ما يقتضيه عدل الله تعالى , وحكمته البالغة ؛ لهذا أتى الوعيد شديدا في حق من أنكره وتجرأ على الله تعالى بنفي إمكانه , قال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } المؤمنون:115ـ116)



وقال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (ص:27ـ28).



وقال : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21).



وقال : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}(القلم:35)



وذلك أن وقوع اليوم الآخر كما أخبر به المولى تعالى هو الحقيقة التي يقتضيها ما يتصف به عز وجل من صفات الكمال والعظمة , حيث يعتمد في حجية تحققه كما سبقت الإشارة إليه على الحكمة الثابتة في كل ما يكون منه سبحانه , قال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ.فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}( المؤمنون:115ـ116).



فقد أناط المولى تعالى في هذه الآية الكريمة إرادته للبعث وإرجاع الناس إليه يوم القيامة ؛ بنفي إرادة العبث منه سبحانه , وتعليقه هذا يقضي بأن تصرفه في جميع مخلوقاته إنما يتأتى من جهة إرادته لتمام الحكمة , الدائرة بين العدل والفضل .



وإذا تقرر هذا الأصل وهو الإيمان بحكمة الله تعالى , المقتضية لإحقاق الجزاء العادل منه سبحانه في اليوم الآخر , فلا بد من معرفة أن تحقق الجزاء في الآخرة متوقف لإثباته على حقيقة أخرى , تمثل في مكانتها الوسيلة التي يرتكز عليها إثبات ذلك الأصل , وهذه الحقيقة هي التي كثر إنكار الجاحدين لها من أهل الكفر والمراء ؛ إذ في إنكارهم لها هدف لجحد ما يترتب عليها من إثبات الجزاء العادل المرتبط بحقيقة الحكمة , فلا يمكن بحال انفصالها عنه , تلكم هي حقيقة البعث بعد الموت, وإعادة الحياة إلى الأجساد بعد مفارقتها لها , والتي تستند في إثباتها إلى اتصاف الله تعالى بالقدرة التامة المتعلقة بكل ما هو من شأنه الإمكان .



وإلى هذا المعنى يشير قول المولى تعالى : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن:7)



وقد كانت العناية بشأن هذه الحقيقة تأصيلاً ودفاعاً ؛ بإبطال شبه المنكرين لها ظاهرة في كتاب الله تعالى , هذا وقد تنوعت دلالته في إثباته لها ؛ فمرة يتجه في تأصيلها إلى تنبيه وازع الإيمان , الذي يقضي بالتسليم لكل ما أخبر به المولى تعالى من أمور الغيب , ومرة يتجه إلى الغريزة الفطرية بما هو مغروس فيها من مبادئ أولية مسلمة , لا يمكن بحال أن يقف المتجرد أمامها موقف الإنكار , فتحمله بما غرس فيه على التسليم لها , والإذعان التام بوجوب تحققها.



وعلى كل فإن الارتباط بين واضح بين القدرة على البعث ؛ وبين إثبات حكمة المولى تعالى , التي تتجلى في إلحاق الجزاء العادل بكل المكلفين , فقد أشرت سابقا إلى أن إرادة المولى تعالى للبعث إنما تأكدت لأن به يكون إحقاق الحق , الذي قامت به السموات والأرض , وهذا مقتضى اتصاف الباري تعالى بالكمال المطلق , ثم إن دلالة الكتاب والسنة في إثبات ذلك ظاهرة صرحت بها الآيات في عدد من المواضع, قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } (ص:27)

هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن في تكذيب الكافرين لحقيقة البعث دلالة أخرى على هذا الارتباط ؛ ذلك أن الكافرين ما أنكروا البعث حقيقة لشكهم في قدرة الباري تعالى على ذلك مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض وخالق أنفسهم , وإنما كان منهم ذلك لعلمهم بالتلازم الذي بين البعث , وبين الجزاء العادل , الذي تقتضيه حكمة الباري تعالى , أو بعبارة أخرى لعلمهم بأن ذلك البعث لم يكن إلا لمجازاتهم على ما قدموه في الحياة الدنيا , وإلى هذا المعنى دل قوله تعالى آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتحدى اليهود على محبتهم الآخرة بتمني الموت ؛ فإنهم لما أيقنوا بالبعث ضرورة يعلمها أهل الكتب السماوية ؛ علموا أنهم مجازون على أعمالهم الشريرة , والتي من أعظمها جرماً عداء المصطفى عليه الصلاة والسلام , وتكذيبهم إياه , بل ومحاولة قتله صلوات ربي وسلامه عليه , فكرهوا من أجل ذلك الموت , وكانوا أحرص الناس على حياة , قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } (البقرة:94ـ95ـ96) .



بل وأظهر من هذا دلالة ما ذكرته سابقا , من إبطال الباري تعالى لزعم الذين كفروا , بقوله : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ( التغابن:7)



وكذلك قوله : { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ.تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين}





ـ وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بالإيمان به في كثير من المواضع , يقول عز من قائل : {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(البقرة:4)



ـ وللإيمان باليوم الآخر ثمرات عظام , ولمكانة هذا الأصل وماله من عظيم الثمرة والنفع , في إصلاح الفرد والمجتمع توالت الآيات الكريمة واستفاضت الأحاديث النبوية في ذكر تفاصيله وحكاية ما سيكون فيه من أحداث ومهام , وما سينتهي به من خلود في الجنة أو النار, مع وصف كامل لتلك المراحل الأخروية , واستفاضة في بيان مآل المؤمنين والكافرين .

هذا والحديث في بيان ثمرة الإيمان باليوم الآخر ؛ حديث عظيم ذو شجون , ولا يخفى للمتفكر في ما يجنيه التفصيل الآنف من تأكيد للإيمان بذلك اليوم , ومن ثم الاستعداد المنبغي له بفعل الخيرات , والبعد عن المعاصي الموبقات.



يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ موجهاً الأنظار إلى هذه الفوائد العظام : " إن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة , التي لا يصح الإيمان بدونها , وكلما ازدادت معرفته بتفاصيله ؛ ازداد إيمان العبد به , ثم إن فى " معرفة ذلك حقيقة المعرفة ما يفتح للإنسان باب الخوف والرجاء , اللذين إن خلا القلب منهما خرب كل الخراب , وإن عمر بهما أوجب له الخوف والانكفاف عن المعاصي , والرجاء تيسير الطاعة وتسهيلها , ولا يتم ذلك إلا بمعرفة تفاصيل الأمور التي يخاف منها وتحذر , كأهوال القبر وشدته , وأهوال الموقف , وصفات النار المفظعة , وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم والحبرة والسرور , ونعيم القلب والروح والبدن , فيحدث بسبب ذلك الاشتياق الداعي للاجتهاد في السعي للمحبوب المطلوب بكل ما يقدر عليه " [1]

ويقول رحمه الله : " إن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلوب , وأصل الرغبة في الخير , والرهبة من الشر , اللذين هما أساس الخيرات ".


[1] تيسير الكريم الرحمن : (1/28ـ29).
موقع أم القرى
فوائد الحديث عن اليوم الآخر

1- الإيمان باليوم الآخر يُحْيي في نفوس المؤمنين معاني الصبر والرضا والاحتساب، فالمؤمن يعلم أن الدنيا دار بلاء، وليست دارًا للجزاء أو النعيم، فإذا أصيب ببلاء يتعزَّى بالصبر والاحتساب، ويعلم أن الله يُوفِّي الصابرين أجرَهم بغير حساب، فيرضى بثواب الله، ويُسلِّم لقدر الله؛ فهو في خير دائم، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن))، وهذا مُشاهَد بالعيان فضلاً عن الدليل والبرهان.

• فأهل الدنيا وعُبَّاد الشهوات إذا أصيبوا ببلاء؛ كمرض، أو سجن، أو فقر، تراهم في غاية الجزع والهلع؛ لضعف الإيمان بالآخرة.

2- الإيمان باليوم الآخر يُحْيي في النفوس معاني العفو عن الظالم، وقبول الأعذار، وكذا يحيي معاني التضحية، والبذل، والإنفاق؛ لأن مَن أيقن بالخلف جاد بالعطية، وكلما ازداد الإيمان بالآخرة، ازدادت هذه العبادات وضوحًا؛ ولذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - قادة وأئمة يُهتَدَى بهم في البذل، والإنفاق، والتضحية، والعفو، فهذه صفات المحسنين المتقين، المؤمنين باليوم الآخر.

3- الإيمان باليوم الآخر يجعل القلب لا يتعلَّق بالدنيا؛ لعلم صاحبه أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا، وهذا ما يعرف بالزهد، وهو عبارة عن الرغبة عن الشيء لاستحقاره واستقلاله، والرغبة فيما هو خيرٌ منه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا الفارق بين نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم أصبعَه في اليم، فلينظر بمَ يرجع))، وهذا يجعلنا نردِّد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قولَه: ((اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة)).

4- ذكر اليوم الآخر يُطهِّر القلوب من الحسد والفُرْقة والاختلاف.

5- ذكر اليوم الآخر يُهدِّد الظَّلَمة ليكفُّوا ويرتدعوا، ويعزِّي المظلومين ليسكنوا، فالكل سيأخذ حقَّه لا محالة، حتى يُقَادَ للشاة الجَلْحَاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم.

6- ذكر اليوم الآخر يمسحُ على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين، تسكن معه القلوب؛ لأنهم يتطلعون لِمَا أعدَّه الله للصابرين، من نعيم يُنسَى معه كل ضرٍّ وبلاء، وسوء وعناء، ويهوِّن عليهم ويعزِّيهم، وما أعدَّه الله للظالمين من بؤس يُنْسَى معه كل هناء.

7- الإيمان باليوم الآخر يجعل المسلم له هدف يصبو إليه، فهو يأمل دخول الجنَّة، ويسعد برؤية وجه الله الكريم، ويكون بصحبة النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، فهو يطمع في النعيم المقيم والخلود الأبدي، بخلاف مَن لا يؤمن باليوم الآخر، فليس له غاية يصبو إليها، فجنته هي دنياه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدنيا سجن المؤمن، وجنَّة الكافر))؛ (مسلم عن أبي هريرة).

8- ذكر اليوم الآخر يجعل أهل الغفلة ينتبهون من غفلتِهم، ويجعل أهل المعصية يتوبون ويرجعون، فأصل المصائب وأساس الذنوب والمعايب، هو الغفلة عن اليوم الآخر.

يقول الحارث المحاسبي - رحمه الله -: "ما من أحدٍ يعصي ربه - عز وجل - إلا وهو ناسٍ للحسابِ ومقاساةِ الأهوال، وإني أحذِّركم وأحذِّرُ نفسي من يومٍ آلَى اللهُ على نفسه ألاَّ يترك عبدًا حتى يسأله عن عملِه كله، دقيقه وجليله، سرِّه وعلانيته".

9- ذكر اليوم الآخر طمأنينة للقلب، وراحة للبال.

يقول الدكتور عائض القرني - حفظه الله - في كتابه "لا تحزن" (ص 47):
"أيها الأخ الكريم، إن جُعْت في هذه الدار، أو افتقرت، أو حزنت، أو مرضت، أو بخست حقًّا، أو ذقت ظلمًا، فذكِّر نفسَك بالنعيم المقيم في جنات رب العالمين، إنك إن اعتقدتَ هذه العقيدة، وعَمِلتَ لهذا المصير، تحوَّلَت خسائرك إلى أرباح، وبلاياك إلى عطايا، إن أعقل الناس هم الذين يعملون للآخرة؛ لأنها خير وأبقى، وإن أحمقهم الذين يرون أن هذه الدنيا هي قرارهم ودارهم ومنتهى أمانيهم، فتجدهم أجزع الناس عند المصائب، وأندمهم عند الحوادث؛ لأنهم لا يرون إلا حياتهم الزهيدة الحقيرة، لا ينظرون إلا إلى هذه الفانية، لا يتفكرون في غيرها، ولا يعملون لسواها، فلا يريدون أن يعكَّر لهم سرورهم، ولا يُكدَّر عليهم فرحهم، ولو أنهم خلعوا حجاب الرانِ عن قلوبهم، وغطاء الجهل عن عيونهم، لحدَّثوا أنفسهم بدار الخلد ونعيمها، ودُورها وقصورها، ولسَمِعوا وأَنصَتوا لخطاب الوحي في وصفها، إنها والله الدار التي تستحق الاهتمام والكدَّ والجهد، وهل تأملنا طويلاً في أهل الجنَّة بأنهم لا يمرضون، ولا يحزنون، ولا يموتون، ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، في غرف يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يسير الراكب في شجرة من أشجارها مائة عام لا يقطعها، طول الخيمة فيها ستون ميلاً، أنهارها مطردة، قصورها منيفة، قطوفها دانية، عيونها جارية، سُرُرها مرفوعة، أكوابها موضوعة، نَمَارِقُها مصفوفة، زَرَابِيُّها مبثوثة، عظم حبورها، فاح عَرْفها، منتهى الأماني فيها، فأين عقولنا ألا تفكِّر؟! ما لنا لا نتدبر؟ إذا كان المصير إلى هذه الدار، فلتخفُفِ المصائبُ على المصابين، ولتقرَّ عيون المنكوبين، ولتفرح قلوب المعدومين؛ اهـ.

فهيَّا لِنَعِشْ معًا هذه الرحلة - رحلة إلى الدار الآخرة - والتي قال عنها رب البرية: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجنَّة فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]؛ فالناظر في الآية يرى أن الرحلة تبدأ بالموت، وتنتهي بجنة نعيمُها مقيم، أو نارٍ عذابُها أليم، لكن بين البداية والنهاية مواقف عظيمة، ومشاهد مهولة، يشيب لها الولدان، وهذه المشاهد يبيِّنها لنا رب العالمين في كتابه الكريم، وأكثر لنا من ذكرها الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم- وهذه المشاهد وتلكم المواقف تحيي القلوب الموات، وتوقظ الضمائر النائمة، فهيا لنبدأ معًا الكلام عن هذه الرحلة والتي تبدأ بالموت.

• المراد بالموت: "هو انقطاع تعلُّقِ الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدُّل حال، وانتقال من دار إلى دار"؛ (التذكرة للقرطبي: ص 4).

ذكر الأزهري عن الليث أنه قال: "الموت ضد الحياة، والاسم منه: الميتة"، وحكى الجوهري عن الفراء أنه قال: "يقال لمَن لم يَمُت: إنه مائتٌ عن قليل، ولا يُقال لمَن مات: هذا مائت".

وكلمة: "مَيِّت" تطلق على مَن مات، ومَن سيموت، قال -تعالى-: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ [الزمر:30]، ويقال في الجمع: قوم "موتى، وأموات، وميِّتُون".

• ويُطلَق الموت على كلِّ ما سكن بعد حركة، فيقال: "ماتت النار موتًا": إذا بَرد رمادها، فلم يبقَ من الجمر شيء، ويقال: "ماتت الرِّيحُ"؛ أي: رَكَدت وسَكَنت، ويُقال: "ماتت الخَمْرُ"؛ أي: سكن غليانها؛ (لسان العرب: 3/547).

والأرض المَيْتَةُ: هي الأرض الجدباء التي لا زرع فيها ولا ماء، وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس: 33]؛ أي: دبَّت فيها الحركة؛ كما قال -تعالى-: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39].

والممات: مصدر بمعنى الموت، قال -تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162].
موقع الألوكة