بسم الله الرحمن الرحيم

من أركان العقيدة
الإيمان باليوم الأخر

تعريف الإيمان باليوم الآخر:
اليوم الآخر هو يوم القيامة؛ والمراد به: من وقت الحشر إلى ما لا نهاية، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وسمي اليوم الآخر؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة؛ أو لأنه متأخر عن الدنيا؛ ولأنه لا ليل بعده؛ ولأنه آخر أيام الدنيا.

والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق الجازم بأن الله أعد وقتاً ينهي فيه الحياة الدنياً[1].

وقيل في تعريفه بصورة إجمالية: هو الإيمان بكل ما أخبر به الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه، والبعث والحشر والصحف والحساب والميزان، والحوض والصراط والشفاعة والجنة والنار، وما أعد الله تعالى لأهلهما جميعاً[2].

إذن: الإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب؛ لأن أحداً لم يشهده بنفسه، وإنما أخبرنا الله تعالى عن طريق رسله الكرام، فسبيله هو النقل الصحيح مما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة.

ولكن الله الذي أخبرنا عن اليوم الآخر، وأوجب علينا الإيمان به، وجعله ركناً من أركان الإيمان، قد أودع الفطرة البشرية القدرة على الإيمان بالغيب، وميز الإنسان بهذا الأمر من بين ما ميزه به وكرمه وفضله.

إن الحيوان يعيش في حدود ما تدركه الحواس فحسب، وعالمه محصور في ذلك النطاق، ولكن الله كرم الإنسان فلم يحصره في حدود ما تدركه حواسه فحسب، وإنما فسح آفاقه ووسعها، ومنحه تلك الخاصية، وهي القدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس، فأصبحت نفسه أرحب وأعمق من الحيوان، وأصبحت آفاقه أوسع وأعلى.

ولكن الجاهليات دائماً تشوه صورة الإنسان، وترده أسفل السافلين بعد أن يكون قد خلقه في أحسن تقويم.

والجاهلية المعاصرة تريد أن ترد الإنسان حيواناً وتحصره في نطاق ما تدركه حواسه فحسب! تريد أن تنزع عنه تلك الكرامة التي كرمه الله بها، وتلغي من عالمه عالم الغيب كله، بحجة الواقعية والروح العلمية!! ومن ثم تنتكس بالإنسان روحياً ونفسياً وخلقياً، وتفقده إنسانيته في النهاية..[3].

وجوب الإيمان باليوم الآخر وأدلته:
الإيمان باليوم الآخر دل عليه القرآن والسنة النبوية، والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال اليوم الآخر، وتفاصيل ما فيه، وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد، وكما ذكر القرآن الأدلة عليه، رد على منكريه، وبين كذبهم وافتراءتهم.

والفطرة السليمة تدل عليه وتهدي إليه، ولا صحة لما يزعمه الضالون من أن العقول تنفي وقوع البعث والنشور، فإن العقول لا تمنع وقوعه، والأنبياء لا يأتون بما تحيل العقول وقوعه، وإن جاءوا بما يحير العقول، ولذلك قال علماؤنا: الشرائع تأتي بمحارات العقول، لا بمحالات العقول[4].

أما الأدلة الدالة على البعث والنشور واليوم الآخر فهي كثيرة جداً، نذكر منها ما يلي:
أولاً: الإقسام على وقوع البعث:
قال الله تعالى آمراً نبيه أن يقسم بربه على أن البعث حق لا ريب، وأنه لا بد من وقوعه، ومحاسبة أولئك المكذبين الجاحدين له، وأن ذلك لا يعجز الله تعالى؛ بل هو عليه يسير: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7]، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ: 3]، وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53].

ففي الآيات السابقة يأمر الله نبيه - وهو الصادق المصدوق - أن يقسم على وقوع البحث والجزاء، وأنه واقع لا محالة، ومعلوم أنه ولو لم يقسم صلى الله عليه وسلم على وقوع البعث، لتلقى المؤمنون خبره بالتصديق التام، وعدم وجود أدنى شك في ذلك، ولكان ذلك الإخبار كافياً لصحة ثبوته[5].

ثانياً: التنبيه بالنشأة الأولى على النشأة الثانية:
قال تعالى: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 49-52].. أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 77 - 80]، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104].. وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66، 67].

ففي هذه الآيات المباركة يوضح سبحانه لعباده أنه يعيد المخلوقات بعد أن يموتوا ويبلوا في الأرض، فكما أنه أنشأهم أول مرة وأوجدهم من العدم، لا يعجزه أن ينشئهم مرة أخرى، ومعلوم أن النشأة الأخرى تكون أهون من النشأة الأولى.

والله وإن كان يسهل عليه النشأة الأولى والنشأة الثانية على حد سواء لكن - والقرآن يخاطب البشر - يبين لهم تنزلاً مع عقولهم دليلاً لا يستطيعون جحده، ويعرفون صدقه في أنفسهم، وهو أن من قدر على النشأة الأولى فهو على النشأة الثانية أقدر من باب أولى، فإذا كان في عرف البشر أن النشأة الثانية لأي شيء كان أسهل عليهم من النشأة الأولى؛ أفلا يليق بالله تعالى وهو القادر على كل شيء أن تكون النشأة الثانية أهون عليه، وهذه حجة قوية ظاهرة لا يستطيع دفعها إلا من كابر عقله وأجحف في حق ربه[6]. لكن لماذا ينكرون هذا مع وضوح الحجة وقوتها؟

السبب الغفلة عن النشأة الأولى تستهول هذا الأمر: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66].

إنه اعتراض منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى.

فأين كان؟ وكيف كان؟ إنه لم يكن ثم كان، والبعث أقرب إلى التصور من النشأة الأولى لو أنه تذكر وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم][7].

ثالثاً: التنبيه بخلق السموات والأرض على إحياء الموتى أو النظر في مخلوقات أكبر وأعظم من خلق الإنسان:
إن من جملة ما خلق الله تعالى ما هو أعظم من خلق الناس؛ فكيف يقال للذي خلق السموات والأرض: أنت لا تستطيع أن تخلق ما دونها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33].. لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57].

إن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على خلق هذا الإنسان الضعيف؛ لننظر إلى قدرة الله في هذا الكون، يقول العلماء: إن أقرب نجم إلينا يبعد عن الشمس فوق الأربع من السنوات الضوئية؛ أي أن النور وسرعته (186000) ميل في الثانية، يقطع المسافة من الشمس إلى أقرب نجم في نحو أربع سنوات؛ إنه على مسافة تبلغ: (26.000.000.000.000) ميل، وقالوا: المجرة قرص عظيم، وهي قرص مفرطح كالرغيف، وقطر القرص نحو من (100.000) سنة ضوئية، والسنة الضوئية نحو من (600) ألف مليون مليون، وارتفاعه عشر ذلك.

وهناك مجرات أخرى كثيرة في الكون غير المجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية.

وهذه الذنيبات التي تشبه مجرتنا.. كم عددها؟ مائة؟ ألف؟ ألفان؟ لا؛ إنها مائة مليون من المجرات، مائة مليون جزيرة في فضاء هذا الكون الواسع وقد تزيد..

هذا في المحيط الخارجي للكون، وهو مظهر واحد يعجز عن حمله الخيال وتعجز العقول..

فلننظر في الأرض وحدها، تلك الذرة الهائمة في الفضاء.

هباءة منثورة في محيط الكون، لا تمسكها إلا القدرة الخالقة المبدعة.

كم جبلاً بها؟ وكم نهراً وكم بحيرة وكم بحراً؟ كم كهفاً في جبالها؟ وكم حفرة في أراضيها؟ كم نقطة من المطر تهبط إليها، وكم ذرة من البخار تصعد منها آناء الليل وأطراف النهار؟! وكم بها من أنواع الحياة: الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية؟

كم ألفاً من صنوف النبات على وجه الأرض؟ وأي دقائق تفرق بين نبات ونبات، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4].

وكم ألفاً من صنوف الحيوان والطير والحشرات في السهول والفيافي والقفار والوديان والغابات؟

وكم من ملايين البشر من مختلف الألوان واللغات والأفكار؟

بل النبات الواحد والحيوان الواحد والإنسان الواحد كم فيه من معجزات الخلق؟

الزهرة الواحدة البديعة التناسق المعجزة التلوين؛ هل يفرغ الإنسان من تأملها؟ إن فيها من تعدد الألوان وتدرجها، وتناسقها، وما فيها من جاذبية للعين والحس...[8].

وصدق ابن عباس حين قال: "تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله".

وعظمة الخالق لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها قال الله تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]. وقال في سورة الزمر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].

فإذا كانت هذه قدرة الله العظيمة؛ فكيف ينكر هذا الإنسان الضعيف البعث..؟! روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة ا قال: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟"[9]، وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود ا قال: " جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله - سبحانه وتعالى - يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحَبْرِ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67]"[10] [11].

فإذا كانت هذه قدرة الله وعظمته فهل يليق بهذا الإنسان الضعيف أن ينكر قدرته سبحانه على البعث والنشور والجزاء والحساب..؟!

ثم إن المنكر للبعث لو تفكر في خلقه وخلق غيره، لعجز عن الإحاطة بهذه القدرة العظيمة في خلق الله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2، 3]، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21].

إن الله خلق كل شيء فسواه، وأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه.. وهو سبحانه الذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته، فهداه إلى ما خلقه لأجله، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه أيضاً..

وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود، من الكبير إلى الصغير، ومن الجليل إلى الحقير، كل شيء مسوى في صنعته، كامل في خلقته، معد لأداء وظيفته، ومثال ذلك:

إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي، وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم الطيور في أمريكا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار، ولكنها لا تضل طريقها.

والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل.

وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية؛ وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة؛ ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما.. ترى هل لتلك المخلوقات الضئيلة محطة إذاعة؟ وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي، فضلاً عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟!

في بعض أنواع النمل يأتي العَمَلة (العمال) منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء.

وينشئ النمل ما هو معروف (بمخزن الطحن) وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكاً كبيرة معدة للطحن بإعداد الطعام للمستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد، وحين يأتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت؛ فإن أعظم خير لأكبر عدد، يتطلب ذلك حفظ تلك المئونة من الطعام. وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحان؛ فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود، ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي؛ إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه..

لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك، وأرشد غيرها من الخلائق، كبيرها وصغيرها. إلى كل ذلك إنه قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] [12].

أيعجز بعد ذلك هذا الخالق العظيم على أن يبعث الناس من قبورهم للجزاء والحساب، حسب ما قدره وما خلقه لهم.. ..

أما عن الإنسان نفسه الذي ينكر البعث قال الله تعالى له: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، هذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض، ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان، وحين يحرم نعمة اليقين.

إنه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد، عجيبة في تكوينه الروحي: في أسرار هذه النفس، وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه، وهو يمثل هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير: تكوين أعضائه، وتوزيعها، ووظائفها، وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، عملية التنفس والاحتراق، دورة الدم في القلب والعروق، الجهاز العصبي وتركيبه، وإدارته للجسم و...و.[13]، ومثال بسيط على ذلك:
السمع والبصر قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك: 23].

السمع والبصر معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة،يقول العلم الحديث: "تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية، ولا يعلم إلا الله أين تنتهي؛ ثم إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن التي تنظم دخوله، ليقع على طبلة الإذن، وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن.. والتيه يشمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة، وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس.

فما طول القوس منها وحجمها؟ وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها ركب تركيباً خاصاً؟.. وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة دقة وعظمة تحير الألباب.

أما البصر: فمركز حاسة الإبصار العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مُسْتَقْبِلات الضوء، وهي أطراف أعصاب الإبصار، وتتكون العين من: الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية.. وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية، وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة، والطبقة في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات. ويقال: إن عدد الأولى: ثلاثون مليون عود، وعدد الثانية: ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض.

وبالنسبة للعدسات فإن عدسة عينيك تختلف في الكثافة؛ ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أي مادة من جنس واحد كالزجاج مثلاً[14].

وبعد هذا ينكر الإنسان البعث! فهلا نظر في هذه القدرة العجيبة لنفسه وخلقته وتراكيبه.. أليس من خلق الإنسان بهذه القدرة العجيبة قادر على إحيائه ومحاسبته؟ بلى وهو على كل شيء قدير.

رابعاً: ومن الأدلة على البعث: التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى:
قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 5-6]، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50]، وغيرها من الآيات الكثيرة التي يقرن الله بين إحياء الأرض وإحياء الموتى؛ وأن من قدر على إحياء هذه قادر على إحياء هذه: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19].

وخلاصة القول: إن هذه الأرض الهامدة اليابسة إذا أنزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج؛ وإذا بها تكسى حلة خضراء، وإذا بالزهور والأشجار على أشكال شتى؛ أفيعجز من أعاد الحياة إلى هذه الأرض الميتة أن يعيد إلى هذا الإنسان حياته مرة أخرى..

خامساً: إخبار الله تعالى بما وقع من البعث الحسي المشاهد في الحياة الدنيا: ليكون إحياء الله للموتى في الدنيا دليلاً على البعث في يوم القيامة.. كما حصل ذلك في عدة آيات في القرآن الكريم:
1- قصة العزيز المار على تلك القرية: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259].

2- طلب إبراهيم من ربه مشاهدة إحياء الموتى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260].

3- موت بني إسرائيل الذين تنطعوا في إيمانهم، واشترطوا لذلك أن يروا ربهم؛ فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله ليريهم قدرته: وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 55، 56]، وغيرها من الآيات التي تحكي المشاهدة الحسية لإحياء هؤلاء الأموات كقصة أصحاب الكهف، وقتيل بني إسرائيل، وإحياء الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] [15].

سادساً: تنزه الله عن العبث في الخلق وأن حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36].

والمعنى الذي تشير إليه الآيتان وأمثالهما: أن الخلق يصبح عبثاً وباطلاً إذا لم يكن هناك يوم آخر يبعث فيه الناس، ويحاسبون على أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا؛ أي: أن الحياة تصبح عبثاً، وخلق السموات والأرض يصبح باطلاً لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف.

ونستطيع أن ندرك الحكمة من ذلك بعقولنا: فنحن نشاهد في حياتنا الدنيا ظالمين ظلوا ظالمين حتى لحظة الموت، ومظلومين ظلوا مظلومين إلى آخر حياتهم، أفإن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف يكون عدلاً وحكمة؟ وأين هو العدل والظالم لم يقتص منه والمظلوم لم يقتص له؟! وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل ثم تنتهي على هذه الصورة؟..

ونشاهد عصاة لا يقفون عند حدود الله التي أمر الله بها، وينتهبون اللذات في الحياة الدنيا، وآخرين التزموا بأمر الله فلم يأخذوا من المتاع إلا ما أحل الله، وهو -في الدنيا- قدر أقل دون شك مما يستمتع به العصاة الغارقون في الملذات. أفإن كانت الحياة الدنيا هي نهاية هؤلاء وهؤلاء يكون الأمر حقاً وعدلاً؟! هل تستقيم الأمور بأن ينهب من أراد نهبته ويمضي بها بغير حساب، بينما الملتزم يحرم نفسه من المتاع الزائد ثم يمضي بحرمانه بغير ثواب؟!

كلا بغير شك! ولا يجوز ذلك في حق الله.

لا يجوز في حق عدالته وحكمته سبحانه أن الأمور على هذه الصورة؛ بل تكون الحياة عبثاً لا معنى لها ولا حكمة فيها.

من أجل ذلك نجد القرآن يربط في كثير من آياته بين خلق السموات والأرض بالحق وبين بعث الناس لسؤالهم عما عملوا في الحياة الدنيا ومجازاتهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شر فشر: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] [16].

[1] نظرات في العقيدة الإسلامية، مجموعة مؤلفين، (ص:71).
[2] الإيمان، د. محمد نعيم ياسين، (ص:89).
[3] ركائز الإيمان، محمد قطب، (ص:393).
[4] القيامة الكبرى، د. عمر الأشقر، (ص:73).
[5] الحياة الآخرة، د. غالب عواجي، (1/78).
[6] الحياة الآخرة، د. غالب عواجي (1/81).
[7] اليوم الآخر في ظلال القرآن، أحمد فائز (ص:27).
[8] انظر: قبسات حول الرسول، محمد قطب، (ص:65).
[9] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب(44) يقبض الله الأرض(7/192) ومسلم في كتاب المنافقين(3/2147) حديث رقم(23).
[10] الحديث أخرجه: مسلم في كتاب المنافقين (3/2147) حديث رقم (19).
[11] راجع: مختصر تفسير ابن كثير؛ لأحمد شاكر، (3/198) والتفسير المنير، د. وهبة الزحيلي، (23/50).
[12] للتوسع في هذه الأمثلة العجيبة راجع: العلم يدعو إلى الإيمان، ترجمة محمود صالح الفلكي. وراجع في ظلال القرآن، سيد قطب (6/3884) وما بعدها.
[13] في ظلال القرآن: سيد قطب، (6/3379).
[14] العلم يدعو للإيمان، محمود صالح الفلكي، (ص:113).
[15] انظر فيما سبق، الحياة الآخرة، د. غالب عواجي،(1/88).
[16] ركائز الإيمان، محمد قطب، (ص:395).
موقع الألوكة