بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام علىرسول الله وآله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . أراد مالعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .

موضوع حلقة اليوم من برنامجنا مجمع البحرين (( الروح والجسد )) .

على أننا نقصر في الحديث عنهما عن روح وجسد بني آدم عليه السلام ولا نعرض لغيرهما من الكائنات الحية .

فنقول وبالله التوفيق :
إن الله تبارك وتعالى هو خالق الروح وهو خالق الجسد بل هو جل وعلا خالق كل شيء كما قال سبحانه ذلك في كتابه العظيم : (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )) الزمر 62. ومما خلقه الله جل وعلا أرواحنا وأجسادنا . والروح والجسد الكلام فيهما والحديث عنهما حديث ذو شجون .

بداية نقول :
إن كلمة الروح في القرآن تطلق على أشياء كثيرة لكنها إذا أطلقت وعرفت إنما يراد بها ما يمتزج مع الجسد ويشكل منه النفس الإنسانية . فإن الروح وهو بداخل الجسد كما سيأتي تفصيله لا يقال لها روح وإنما يقال لها جسد .
قال الله جل وعلا : (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ{194} )) الشعراء . هذا إجماع أن المقصود به جبريل عليه السلام . وقال جل وعلا : (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) الشورى 52 . وإنما المقصود به ما فيه حياة الناس وهو الإسلام والقرآن على احد التفسيرين .
أما الروح التي هي مرتبطة بالجسد وهي التي نحن معنيون بالحديث عنها الآن هي الروح التي لا يدري أحد كنه ذلك عنها شيئا إلا الله تبارك وتعالى . قال الله جل وعلا : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) الإسراء 85 . يقول العلماء من المفسرين عند تفسير هذه الآية إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة مر على ملأ من يهود ومعه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال بعضهم لبعض أي اليهود : سلوه سلوه ترددوا , ثم قالوا يا أبا القاسم : " مالروح ؟ " فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل , قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فعلمت أنه يوحى إليه , ثم تلا عليهم قول الله جل وعلا في سورة الإسراء : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) . فجاء الجواب القرآني أن علم الروح وكنهها أمر اختص الله جلا وعلا به ورده تبارك وتعالى إلى علم ذاته العلية ولم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا . وإلى اليوم رغم التقدم العلمي كما هو معلوم لكل أحد إلا كنه هذه الروح لا يعلم عنه شيئا .
نقول : أما الجسد فإنه ذلك التكوين البدني الذي يحمله بنو آدم كلهم على اختلافهم في هيئة ذلك الجسد من الطول والقصر وما إلى ذلك .

ولفظ الجسد في القرآن إذا أطلق الله جل وعلا الكلام عن البدن مقروناً بالروح فإن لغة القرآن تسميه " جسم " وإن كان معزولاً عن الروح لا روح فيه فإن لغة القرآن تسميه " جسد " .
وبيان هذا أن الله جل وعلا مثلا ذكر طالوت فلما تكلم الله جل وعلا عنه في سورة البقرة قال : (( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )) ولم يقل بسطة في العلم والجسد وإنما قال في الجسم لأنه يتكلم عن جسد مقرونٍ بالروح فعبر عنه في لغة القرآن بالجسم .
وقال الله جل وعلا عن المنافقين : (( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ )) المنافقون 4 . فعبر الله جل وعلا عن أجسام هؤلاء المنافقين بالجسم ولم يقل بالأجساد لأنها آنذاك ممزوجة بالروح .
في حين أنه جل وعلا لما ذكر الإله المسموع المفترى الذي صنعه السامري لقوم موسى عليه السلام قال الله جل وعلا : (( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ )) طه 88 . فعبر عنه بكلمة جسد لأنه لا روح فيه .
وقال الله جل وعلا عن النبيين في نفي أن يكونوا بلا أرواح قال : (( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ )) الأنبياء 8 .
والمقصود من هذا كله أن لغة القرآن تفرق ما بين الجسد والجسم باعتبار اتصالها بالروح أو عدم اتصالها بالروح .
كذلك الروح إذا اتصلت بالجسد لا يقال لها روح . الروح إذا اتصلت بالجسد فلغة القرآن تسميها " نفس " . فإذا انفصلت الروح عن الجسد تسمى روح .

وقد أسند الله جل و علا لهذه النفس القول : (( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ )) الزمر 56 . أسند الله جل وعلا إليها العلم : (( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) السجدة 17 .

والإنسان يتكون من جسد وروح . إذا مزجت وروحه بجسده تسمى نفس . وهذه النفس هي التي أقسم الله جل وعلا بها في سورة الشمس فقال : (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} )) وتعبدنا الله بتزكيتها .

أيهما أسبق خلقاً الروح أم الجسد ؟
بالنسبة لأبينا آدم عليه السلام جسده خلق قبل روحه . أما بالنسبة لنا فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا .
وبيان ذلك أن الله جل وعلا خلق أبانا آدم عليه السلام من قبضة قبضت من الأرض خلق جسداً ثم بعد أن خلق جسداً عليه السلام نفخ الله جل وعلا فيه من روحه . بعد أن نفخ الله فيه من روحه امتزجت تلك الروح التي خلقها الله جل وعلا في جسد آدم فأصبح آدم كائناً حياً ينطق خلق منه بعد ذلك زوجته وأدخل الجنة كما هو معلوم . الذي يعنينا أن خلق آدم كجسد مقدمٌ على خلقه كروح . أما بالنسبة لنا معشر بني آدم عليه السلام فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا . وذلك أن أجسادنا إنما خلقت ونحن أجنة في بطون أمهاتنا . أما أرواحنا فقد خلقت من قبل والله جل وعلا مسح على ظهر آدم فأخرج من ظهر آدم كل نسمة من ذرية من خلقه إلى يوم القيامة . كما في الحديث فرأى في أحدهم وبيصاً من نور بين عينيه فكان هذا داوود عليه السلام . الذي يعنينا الله جل وعلا يدل ظاهر القرآن على أنه أخذ العهد والميثاق من بني آدم وهم في عالم الأرواح , ويدل عليه قول الله جل وعلا : (( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ )) الأعراف 172.

وبعض أهل العلم يقول : " إن هذا العهد والميثاق الذي أخذه الله جل وعلا من بني آدم في عالم الأرواح الأول ألقم في الحجر أي الحجر الأسود " . ولذلك شُرع وهذا من الآثار المنقولة أن الإنسان يقول عند طوافه بالبيت : ( اللهم إيمانا بك وتصديقاً بكتابك واتباعاً لسنة رسولك ووفاء بعهدك ) . فالعلماء بعضهم يقول إن هذا راجع إلى ذلك العهد الذي قطعه بنوا آدم عليه السلام على أنفسهم يوم خلقهم الله جل وعلا في عالم الروح . ثم يتممون الحديث فيقولون : " إن هذا الحجر كما يدل صالح السنة له يوم القيامة لسان ينطق به فيشهد بمن استلمه بصدق " وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم .
والجمع ما بين الحديث الصحيح والآثار المنقولة وآيات الكتاب جمعنا لهذه المادة العلمية بعضها إلى بعض يجعلنا نقرب إلى أن نقول إن هذا ممكن أن يكون حقاً كله ولا نجزم به لعدم وجود دليل صريح صحيح في ذات الموضوع لكن هذه من النقول التي تقبلها النفس لوجود كثير من الأدلة التي تعضدها من هنا وهناك من كتاب أو سنة أو أثر عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

يأتي ثمة إشكال هنا :
يقول النصارى دائماً إن من حججهم على أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا , يقولون إن الله لما تكلم عن عيسى عليه السلام قال : (( ورُوحٍ مِّنْهُ )) و (( مِّنْهُ )) الهاء فيها عائدة إلى رب الجلالة . من أحسن الأجوبة هنا أن يقال : أن الله لما خلقنا في عالم الأرواح الأول وأخرجنا من ظهر أبينا عليه السلام ورآنا أبونا آدم بين يديه فينا الصحيح والمعافى والمبتلى , فقال : ( أي رب لو سويت بين عبادك ) قال الله جل وعلا : ( أحب أن أشكر ) . المقصود أن الأجوبة على هذا السؤال الذي طرحه النصارى أن يقال : أن الله رد هذه الأرواح في ظهر آدم ليكون منه بعد ذلك الذرية إلا روح عيسى عليه السلام استبقاها الله جل وعلا عنده ثم إن الله أعطى هذه الروح إي روح عيسى عليه السلام أعطاها جبريل عليه السلام لينفخ فيها في درع أو في جيب درع مريم عليه السلام ليكون بعد ذلك حملها وولادتها لعيسى بن مريم . فيصبح يقطع بهذا القول الطريق على النصارى في قولهم أن المسيح ابن الله , وإن كان هذا الطريق مقطوع بذاته لأن الله عز وجل قال عنهم في سورة آل عمران : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) . وافتراء النصارى أو غيرهم من الأمم على الله الولد من أعظم الفرية وهذه نزه الله جل وعلا ذاته العلية عنه قال تبارك وتعالى في سورة مريم : (( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً{88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً{89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً{91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً{92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً{93} )) . فالخلق جميعاً عبيدٌ لله تبارك وتعالى , والله جل وعلا مستغنٍ عن كل أحد منزه عن الصاحبة والولد مقدس لم يلد ولم يولد تبارك وتعالى .

نعود للحديث عن الجسد والروح وإنما استطردنا فيه بالحديث على أن هذا من الأجوبة التي نراها مستحسنة والعلم عند الله في القطع على النصارى بعض حججهم في زعمهم أن المسيح ابن لله .

فنقول : أن اتصال الأجساد بالأرواح فإن الله جل وعلا كتب للجسد أن ينشأ أولاً قبل الروح ونحن أجنة في بطون أمهاتنا . والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( أن الإنسان يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة وأربعين يوماً علقة وأربعين يوماً مضغة ثم يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ) التي هي مخلوقة من قبل فإذا اتصلت الروح بالجسد دبت الحياة في ذلك الجنين فيتحرك وتشعر به الم وهي حامل فإذا اتصلت الروح بالجسد أصبح نفساً ولا يقال لها روح .
فهذه النفس الإنسانية وإن كانت جنين في بطن أم فإنها نفس معصومة لا يجوز قتلها لأي سبب كان .
فنقول : هذه النفس المعصومة يختلط فيها الروح بالجسد وتصبح نفساً يحصل نوع من الامتزاج حتى يخرج الإنسان من بطن أمه قال الله جل وعلا في سورة المؤمنون : (( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )) .
ثم يمكث الإنسان ما شاء الله له أن يمكث في هذه الحياة , هذا يطول عمره وهذا يقصر , أي كان الأمر طال العمر أو قصر فإن هناك امتزاج بين الروح والجسد الذي اصطلحنا على تسميته بالنفس .

ومن الأدلة على أن تسميته بنفس قلنا قول الله جل وعلا : (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا )) . وأمر الله جل وعلا لعباده أن يزكوا أنفسهم . أما الأدلة على أنها إذا صعدت تسمى روح فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أحد أصحابه وقد توفي وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه فأغمض بصره أي النبي صلى الله عليه وسلم أغمض بصر عثمان رضي الله عنه ثم قال لمن حوله من أهل الدار : ( إن الروح إذا صعدت يتبعه البصر ) . فسماها صلى الله عليه وسلم روحاً ولم يسمها نفساً لانفصالها من الجسد . ولهذا هذه الروح لا يختارها الإنسان وإنما تمتزج ببدنه . والله جل وعلا خلق الأرواح كما قلنا يأتي الملك فينفخ الروح في الجسد , ولهذا في قصيدة فلسفية لابن سينا وهو الطبيب المعروف يقول :
هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزز وتمنع
هبطت على كره إليك لربما * كرهت فراقك وهي ذات توجع
يتحدث عن امتزاج الجسد بالروح وعن كرهها لفراقه الجسد لأنها آيسته عند الممات , وهذه قصيدة عليها صبغة فلسفية بحتة وقد عارضها شوقي ببيت مشهور وهو :
ضمي قناعك يا سواد أو ارفعي * هذي المحاسن ما خلقن لبرقع
لكننا إذا أردنا أن نتكلم شرعياً عن اتصال الروح بالجسد فنقول :
الاتصال الأول في عالم الأجنة ثم الاتصال الثاني في عالم الحياة الدنيا يستمر حتى يكون الانفكاك , فإذا انفكت الروح عن الجسد وخرجت تخرج من الحلقوم وهذا نص الله جل وعلا عليه بقوله : (( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ{83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ{84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ{85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ{86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{87} )) الواقعة .
(( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ )) أي الروح (( وَأَنتُمْ )) أي من حول الميت (( حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ )) تنظرون إلى الميت (( وَنَحْنُ )) هذا قرب الله في ملائكته (( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ )) أي لا تبصرون الملائكة حال قربها من الميت . ثم يتحدى الله سائر البشر (( فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ )) تقولون لا جزاء لا بعث لا نشور (( فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ{86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{87} )) أعيدوا الروح إن كنتم صادقين .
هذا الانفكاك بين الجسد والروح وخروج الروح من الجسد هو الذي اصطلحنا على تسميته بالموت وهو الذي قال الله جل وعلا عنه : (( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
والإنسان إذا فارقت نفسه جسده وخرجت روحه منه سمي ذلك موت , يتعلق به أحكام لا تخفى منها غسله ومواراته كفرض كفاية وانفكاك حبل الزوجية بينه وبين زوجته وتقسيم ميراثه وما إلى ذلك من الحكام التي تتعلق بالإنسان بعد موته . ولا يقال هذه الأحكام لا تمشي ولا تمضي حال كون الروح متصلة بالجسد ولو اتصالاً لا حركة فيه , لكن ما دامت متصلة بالجسد ولو اتصالاً ضعيفاً عن مرض أو وهن أو غيرهما لا نصطلح على تسميته بالميت وإنما الموت هو خروج الروح من الجسد .

هذا الانفكاك الأول بين الجسد والروح ثم تعود الروح مرة أخرى إلى الجسد وظاهر السنة أنها تعود أول ما تعود إلى الجسد محمول على أعناق الرجال ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الجنازة إذا حملت على أعناق الرجال تنادي إن كانت صالحة قدموني قدموني وإن كانت غير ذلك تقول يا ويلها أين يذهبون بي ) وهذا لا يكون إلا باتصال الجسد بالروح .

كما أنه يتم الانفصال بصورة أكبر فيما يبدو والعلم عند الله عندما يأتي الملكان ليسألا المقبور : ( من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ ) فهذه الثلاثة التي هي أصول الدين عندما يسألها الميت يجيب عليها وقد اتصلت روحه بجسده , وهذا يدل عليه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ( أن الروح ترتفع فإن كانت صالحة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت غير ذلك تغلق ) وعليه يحمل قول الله جل وعلا : (( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ )) الأعراف . نعوذ بالله من ذلك كله .
والمقصود أن الروح تعود إلى الجسد وأن الله جل وعلا يقول لملائكته فإني قد وعدتهم (( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )) طه . فتعود الروح إلى الجسد حتى تكون قادرة على إجابة الملكين سواء وفقت للإجابة أم لم توفق عياذاً بالله .

نعود فنقول : ثم يقع على الروح والجسد على مذهب أهل السنة النعيم و العذاب .
هذا النعيم والعذاب نحن لا نعلم كنهه ولا يمكن لي ولا لغيري أن يصله لأننا لا نعلم عنه إلا بمقدار ما صح نقله عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد دل القرآن الكريم والسنة على وقوعه . والنبي عليه الصلاة والسلام لما كان في المدينة كان ذات يوم على بغلته فمر على حائط ـ أرض , بستان ـ عند الأنصار فالبغلة تحركت به عليه الصلاة والسلام حتى كادت أن تسقطه فقال صلى الله عليه وسلم لم حوله : ( أثمة قبور هاهنا ) قالوا : يا رسول الله أنها قبور خمس أو ست ـ وفي رواية أنها أربعة ـ لقوم ماتوا في زمن الإشراك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ) .

وقوله عليه الصلاة والسلام : ( لولا أن تدافنوا ) فيه تربية عظيمة للأمة :
أن الإنسان لا يحسن به أن يطلع على عورات أخيه . لأنك لو اطلعت على أي إنسان نقبت كثيراً عنه قلبت عثراته بحثت عن أخطائه بكثرة سيصغر في عينيك , فإذا قدر أنك بُلغت بموته تكون في نفسك غضاضة في أنك تشارك في موته لأنه يغلب عليك سيطرة تلك الفكرة السيئة عن أخيك ولذلك الأفضل في أحوال الناس أن تبقى مستورة وحتى من علمنا عنه شيئاً من خطأ أو زلل أو وقوع فاحشة وما إلى ذلك لا يمنعنا ذلك من أن نشارك في دفنه والصلاة عليه ومواراته طلباً للأجر ورحمة بأخينا ما دام لم يخرجه ذنبه من الملة . ومحمد بن المنكدر رحمه الله أحد التابعين تبع جنازة رجل كان مدمن خمر فكأنه عوتب فقال رحمه الله قولة عالم فذ قال : " إني لأستحيي من الله أن أجد في نفسي أن رحمته جل وعلا ضاقت عن أحد " والله جل وعلا يقول عن رحمته : (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )) الأعراف . ثم نحن نطلب الأجر من الله نطلب القيراط والقيراطين في تتبعنا للجنائز والصلاة عليها بصرف النظر عن أحوال أصحابها وإنما نخشى على العاصي النار ونرجو للمؤمن الجنة ومرد الجميع إلى الله جل وعلا (( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )) الزمر 46 .

نقول : هذه نوع من الاتصال بين الروح والجسد في عذاب القبر .
لكن هل يستمر هل ينقطع إذا استمر ما حاله هذه كله علمه عند الله جل وعلا . لكن نقول جملة إن أصحاب القبور تتساوى قبورهم في ظاهرها لكن أرواحهم وأجسادهم الله أعلم بها , أما الأجساد فنحن نقطع أنها تبلى . من أين نقطع بقوله عليه الصلاة والسلام : ( كل جسد ابن آدم يبلى ـ وانظر إلى تعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل جسد ) لأن الروح قد خرجت ـ إلا عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) . ومشهور عند الناس أن أجساد الشهداء لا تبلى وهذا لا يدل عليه حديث , هذا الحديث العام مخصص فقط لأجساد الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) لما قيل عليه الصلاة والسلام :كيف نصلي عليك وقد أرمت ؟ ـ وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم استقر في أذهانهم وفي علمهم وهم ربيبوا مدرسة النبوة أن الأجساد جميعاً تبلى ـ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) .
نعم نقول أن يبقى الجسد فترة من الدهر طويلة أو قصيرة دون أن يبلى إكراماً من الله لذلك المقدور وهذا ربما اطلع بعضنا على وقوعه لكن لا نجزم أن هذا يبقى إلى أبد الدهر . وقد قال أبو العلاء المعري على ما في أبا العلاء من زندقة في شعره على الأقل يقول :
غير مجدي في ملتي واعتقادي * نوح باك ولا ترنم شاد
سر إن استطعت في الهواء رويداً * لا اختيالاً على رفات العباد
رُب لحد قد صار لحداً مراراً * ضاحك من تزاحم الأضداد
وهو يقول أن أكثر ثراء الأرض كلها أصلها أجساد وقبور تدفن وتبتلى ويوضع هذا وهذا ينتهي .
لكن ثمة اتصال بين الروح والجسد يكون يوم القيامة . هذا الاتصال بعد أن ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام يقوم الناس لرب العالمين , فإذا قام الناس لرب العالمين الذي يحصل قبل ذلك القيام أن الأرواح تفارق عليين إن كانت أرواحاً مؤمنة وتفارق سجين إن كانت أرواحاً كافرة وتصل إلى الأجساد في قبورها فتتصل الروح بالجسد وتدب الحياة تعود النفس كما كانت تسمى نفساً الآن يدعى بالناس يحشرون حفاة عراة غرلا قال الله جل وعلا عن أهل طاعته : (( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) وقال جل وعلا : (( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى )) الزمر . وقال وهو الأهم : (( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ )) آل عمران .
الاتصال هنا بين الروح والجسد هو الاتصال الكامل التام جداً لأن أهل الجنة جعلنا الله وإياكم من أهلها إذا دخلوها واطمأنوا فيها وأهل النار إذا دخلوها ووجدوا ما فيها من العناء يناد مناد : ( يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيها أبدا ) .

الذي يعنينا أن هذا هو الاتصال الأبدي بين الجسد والروح قال الله جل وعلا عن أهل الجنة في سورة هود : (( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ )) . وقال قبلها عن أهل النار : (( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ )) .

السؤال الأهم قبل نهاية الحلقة هو أن نسعى في تزكية أنفسنا بالإيمان والعمل الصالح والخوف من الله ومراقبته جل وعلا سراً وجهارا وليلاً ونهارا عل الله جل وعلا أن ينقلها ـ أي أنفسنا ـ إلى عالم الطهر والنقاء .

نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم حسن الوفادة عليه وأن يكتب لنا حسن المنقلب وحسن المآب أنه ولي ذلك والقادر عليه .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
صيد الفوائد

هل الروح مخلوقة؟
الدار الآخرة أسئلة وأجوبة حول القبر

س: هل الروح مخلوقة؟
ج: ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن الروح غير مخلوقة، بل هي قديمة أزليَّة.

وذهب صِنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلَّالها من المتكلمة والمتصوِّفة إلى أن الروح من ذات الله، وهؤلاء أشرُّ قولاً من الصنف الأول؛ حيث جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت: وهو روحه، ونصف ناسوت: وهو جسده، فنصفه رب ونصفه عبد"؛ (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/222).

وذهب أهل العلم من السلف والخلف إلى أن الروح مخلوقة مبتدعة، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن يُخالف فيه، ويدل على ذلك أمور، منها:
أولاً: الكتاب والسُّنة:
أ- قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، [الزمر: 62].

يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية: "فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه عام".

ب- وقال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].

ج- وقال تعالى لزكريا عليه السلام: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9].

والإنسان مركب من روح وبدن، وخطاب الله لزكريَّا لروحه وبدنه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى" (4/222):
الإنسان عبارة عن البدن والروح معًا، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مَطيَّة للروح، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إنما بدني مطيتي، فإن رَفقتُ بها بلَّغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغْني".

وقد روى ابن مَنده وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنتِ أمرتني، فيبعث الله ملَكًا يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلاَ بستانًا، فرأى المُقعَد فيه ثمرًا معلقًا، فقال للأعمى: إني أرى ثمرًا ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العُقوبة؟ قالا: عليهما جميعًا، قال: فكذلك أنتما".

د- ومما يدل على أن الروح مخلوقة:
أن الأرواح تُقبض وتُوضع في كفن وحَنوط تأتي بهما الملائكة، ويُصعد بها وتُنعَّم وتُعذَّب، وتُمسك في النوم وتُرسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث.

ه- لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبيَّة، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد، وهم في عالم الذَّرِّ: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾، وذلك ما قرره الحق في قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: 172].

وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون.

و- لو لم تكن الأرواح مخلوقة، فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى عليه السلام، ولا في قولهم: "إنه ابن الله" أو "هو الله".

ز- لو كانت الروح غير مخلوقة، فإنها لا تدخل النار ولا تُعذَّب، ولا تُحجب عن الله، ولا تُغيَّب في البدن، ولا يملكها ملكُ الموت، ولما كانت صورة توصف، ولم تحاسب ولم تُعذَّب، ولم تتعبد ولم تخَف، ولم تَرْجُ، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم"؛ (انظر القيامة الصغرى لعمر سليمان الأشقر).

ثانيًا: الإجماع:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "روح الآدمي مُبدَعَة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السُّنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمَّد بن نصر المروزي (الإمام المشهور الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم)، وكذلك أبو إسحاق بن شاقلَّا، وأبو محمد بن قتيبة، وكذلك أبو عبدالله بن منده في كتابه "الروح والنفس"، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النَّهرجوري، والقاضي أبو يعلى وغيرهم؛ (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/216).

• شبهات الذين زعموا أن الروح غير مخلوقة والرد عليهم:
الشبهة الأولى: قالوا: مما يدل على أن الروح غير مخلوقة، قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85].

والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الأول: أن الروح هنا ليست روح الآدمي، وإنما هو اسم ملك، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ﴾ [النبأ: 38]، وقال: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4]، وقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم ﴾ [القدر: 4].

وهو قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير هذه الآية.

الثاني: وإذا قلنا: إن المراد بالروح هنا روح الآدمي - كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية - فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة، وأنها جزء من ذات الله، كما يقال: هذه الخِرقة من هذا الثوب، بل المراد أنها تُنسب إلى الله، لأنها بأمره تكونت، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو المأمور به، كقوله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1]؛ أي المأمور به، ويمكن أن يقال أيضًا: إن لفظة ﴿ مِنْ ﴾ في قوله: ﴿ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]؛ لابتداء الغاية، ومعلوم أن "مِنْ" تأتى لبيان الجنس، كقولهم: "باب من حديد"، وتأتى لابتداء الغاية، كقولهم: "خرجت من مكة".

فقوله: ﴿ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ ليس نصًّا في أن الروح بعض الأمر أو من جنسه، بل هي لابتداء الغاية؛ إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد - رحمه الله - في قوله: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171] حيث قال: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ يقول: من أمره كان الروح، كقوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، ونظير هذا أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].

فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته، بل منه صدرت، لم يجب أن تكون معنى قوله في المسيح: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171] أنها بعض ذاته؛ (راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/226-235).

الشبهة الثانية: قوله تعالى في آدم عليه السلام: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]، وقوله في مريم عليها السلام: ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ﴾ [الأنبياء: 91].

فقالوا: فقد أضاف الله الروح إلى نفسه.

والجواب عن هذا كما قال شارح الطحاوية رحمه الله: "ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: الأول: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه.

الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، كقوله: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، وقوله: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وقوله: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾ [الحج: 26]، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضى تخصيصًا وتشريفًا، يتميَّز بها المضاف إلى غيره"؛ (شرح الطحاوية: ص 442).
موقع الألوكة