صحيح البخاري (256 هـ) الجزء8 صفحة67 باب التعبير وأول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة

حدثنا بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي وأخبرها الخبر وقال قد خشيت على نفسي فقالت له كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا انك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة أي ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة ابن أخي ماذا ترى فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي انزل على موسى يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم فقال ورقة نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وان يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقه أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد انك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك * قال ابن عباس فالق الإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل

الرد والجواب على هذه الشبهة:

قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث: " القائل: "فيما بلغنا" هو الزهري، وهو من بلاغاته وليس موصولا".
فهذا الجزء من الحديث الذي يُذكر فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال جاء في رواية معمر عن الزهري، والزهري ـ كما هو معلوم ـ تابعي لم يُعاصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يراه أو يسمع منه، فالواسطة بينه وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجهولة، ولم يذكر الزهري مَن أبلغه بهذه القصة، فتكون هذه الزيادة - التي فيها محاولة الانتحار - مرسلة، والحديث المرسل هو الذي يرويه التابعي مباشرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحديث المرسل من أقسام الحديث الضعيف الذي لم يثبت، ولذلك هذه الرواية تسمى من: بلاغات الزهري، فالزهري قال: "فيما بلغنا"، ومن أبلغه بذلك مجهول، ولا يُعرف هل هو عدل أم لا؟، وهل هو ضابط للحفظ أم لا ؟، والعدالة والضبط من شروط صحة الحديث عند علماء الحديث، ومن ثم فحكم هذه الزيادة الإرسال، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند علماء الحديث .
وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه القصة، ولم يورد معها نص الزهري، والرواية التي ذكرت هذه الحادثة قد وردت مُدرجة في الحديث، فالبخاري نقل نصين مختلفين، الأول: حديثا صحيحاً متصل السند عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ليس فيه هذه القصة الباطلة، والثاني فيه زيادة ضعيفة للزهري لا سند لها.
لكن هؤلاء المشككين ينقلون الثاني ويخفون الأول ولا يذكرون تضعيف العلماء لزيادة الزهري ليوهموا الناس أنهما حديثاً واحداً، وأن البخاري يصحح هذه الزيادة، ومن ثم يطعنون في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو يطعنون في البخاري وصحيحه .
قال الدكتور عماد الشربيني: " لعل الإمام البخاري وغيره ممن أخرج هذه الزيادة أرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحي الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة، وخصوصاً أن البخاري لم يذكر هذه الزيادة في بدء الوحي ولا التفسير، وإنما ذكرها في التعبير " .
وقال الشيخ الألباني رداً على من عزى نص الزهري للبخاري: " هذا العَزْو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري، وليس كذلك "، ثم قال: " وخلاصة القول أن هذا الحديث ضعيف لا يصح، لا عن ابن عباس ولا عن عائشة، ولذلك نبهت في تعليقي على كتابي مختصر صحيح البخاري على أن بلاغ الزهري هذا ليس على شرط البخاري كي لا يغترّ أحد من القراء بصحته لكونه في الصحيح " .

وقد وردت قصة محاولة الانتحار هذه من طرق أخرى، كما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: وسندها فيه محمد بن عمر ـ وهو الواقدي ـ، والواقدي عند علماء الحديث لا تُقبل أحاديثه، قال يحيى بن معين عنه: " ليس بثقة "، وقال عنه البخاري في كتاب الضعفاء: " متروك الحديث "، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب، وقال عنه الذهبي: " واستقر الإجماع على وهن (ضعف) الواقدي " .
وكذلك في تاريخ الطبري رواية مشابهة للسابقة عن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، وعبيد بن عمير ليس صحابيًا بل هو من التابعين، ولم يُدرك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعندما يروي حديثاً عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون حديثه مرسلاً، والحديث المرسل من أقسام الحديث الضعيف، وهذه الرواية فيها أيضا سلمة وهو ضعيف، وفيها ابن حميد الرازي كذّبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره .
وبهذا يتبين أن قصة محاولة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التردي من فوق الجبل ضعيفة واهية .

هذا مع أنه لا يوجد حرج فى أن يكون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اعتراه شيء من الحزن بسبب فتور الوحي وانقطاعه، ولا عجب في أن يغدو إلى قمم الجبال تطلعاً لتجليات أمين الوحي الذى عهد لقاءه فى هذا المكان، فهذا أمر فطرى وطبيعى، فالإنسان إذا حصل له خير أو نعمة فى مكان ما، فإنه يحب هذا المكان، ويلتمس فيه ما افتقده، ولذلك لما فتر الوحي: صار ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل فى حراء، فليجده فى غيره، فرآه راوى هذه الزيادة وهو يرتاد قمم الجبال، فظن أنه يريد أن يلقى بنفسه لحزنه، وقد أخطأ الراوى المجهول فى ظنه قطعاً، فإن الله ـ عز وجل ـ عصم رسله لأنهم أمناء وحيه إلى عباده، وجعلهم قدوة لمن آمن بهم واتبعهم من خلقه، والحكمة تقتضي أن يكون الرسل معصومين في قلوبهم وعقولهم وأخلاقهم، لأنهم لو لم يكونوا معصومين لجاز عليهم ما يجوز على غيرهم من الكذب، أو عدم تبليغ ما أمروا بتبليغه، أو فِعل ما نُهوا عنه، أو محاولتهم الانتحار .
فائدة :
الأحاديث الصحيحة في البخاري هي الأحاديث المسندة، أما الأحاديث غير المسندة فهذه تكون صحيحة وقد تكون ضعيفة، وبهذا يتبين قول الإمام السخاوي: " تأيَّد حمل قول البخاري: ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، على مقصوده به وهو الأحاديث الصحيحة المسندة، دون التعاليق والآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم، والأحاديث المترجم بها، ونحو ذلك " .
ولذلك وقع البعض في خطأ كبير بسبب طعنهم في الإمام البخاري لذكره قصة التردي الباطلة في صحيحه، ولا يعرفون ولا أمثالهم من الطاعنين قدر وعلم الإمام البخاري، الذي لا يعرف قدره في هذا العلم إلا أهله .
قال ابن كثير في البداية والنهاية: " جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقبَّله بين عينيه، ثم سأله عن بعض الأحاديث فذكر له علتها، فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، يا أستاذ الأستاذين، ويا سيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله ".
وقال النووي: " أجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين (صحيحي البخاريّ ومسلم)، ووجوب العمل بِهما "، وقال: " اتفق العلماء على أنَّ أصحَّ الكُتب بعد القرآن الكريم الصحيحان: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف "، وقال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحفظ له من البخاري "، وقال الذهبي: " وأما جامع البخاري الصحيح فأجَّل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى ".
وقال العلامة أحمد شاكر: " الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر: أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف "، وقال الشيخ الألباني: " كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم " .

المصدر : http://articles.islamweb.net/media/i...icle&id=198760