ذاكرة هذه الأيام أحداث جسام، فلربما أخذكم شهر الله المحرم نحو قصة نصر الله لنبيه موسى ‘ على طاغية مصر فرعون عليه من الله ما يستحق، ولربما أخذكم شهر الله المحرم نحو استشهاد سيد شباب أهل الجنة الحسين رضي الله عنه في وقعة كربلاء الأليمة ، ولكنني سآخذكم مع إهلالة هذا الشهر نحو مكة المكرمة التي شهدت في السنة السابعة بعد البعثة مقاطعة ظالمة للحبيب ‘ وآله الطيبين وأصحابه الكرام، حيث حوصر النبي ‘ مع بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب، وتحالف المشركون على أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ‘ للقتل أو يتخلى عن دعوته، وكتبوا بذلك صحيفة بعهد وميثاق جائرين ، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة .
فحوصر بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، وبدأت قصة الحصار الشنيع
، حيث قطعت عنهم الأموال والطعام، وكان المشركون لا يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع ، بل كان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، بل ربما زاد المشركون السلع عليهم حتى لا يستطيعون شراءها .
ومن خوف أبي طالب على النبي ‘ حتى لا يغتاله المشركون كان يأمره ليضطجع في فراشه، ويأمر أحد بنيه ليضطجع في فراش النبي ‘ .

وتمر ثلاثة أعوام شداد
، أخذ المرض والجوع من المحاصرين المظلومين كل مأخذ، حتى أخذت الغيرة زهير بن أبي أمية فقال : (( يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم؟والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!!
فقال أبو جهل أخزاه الله : كذبت، والله لا تشق، فقال : زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حيث كتبت )).


ودارت سجالات حديث ونقاش، حتى أخبر النبي ‘ بأن الأرضة قد أكلت الصحيفة إلا ( باسمك اللهم ) ، فقال أبو طالب: إن صدق ابن أخي ترجعون عن قطيعتنا وظلمنا ، وإن كذب خلينا بيننا وبينكم ، فوجدوها كما قال النبي ‘ قد أكلت سوى ( باسمك اللهم ) فارتفع الحصار، وعاد النبي ‘ إلى دعوته، ولم يزدهم ذلك إلا نفورا .

ويعيد التاريخ نفسه، لتبقى الثلة المؤمنة المصابرة المرابطة على أرض الأقصى، محلا لاستهداف القوى الظالمة، التي تنظر إليها وكأنها شبح يقلق راحتها، ويهدد كيانها ويزعزع وجودها كدولة محتلة لأرض مقدسة

وتنادي الدول العظمى بما يسمى بالديموقراطية لكن الشعوب حينما تطبقها لتختار من تريد ولا يكونوا ضمن عملائها تتعامل معها بمثل هذه العداوة التي ترفضها العقول قبل القلوب، وتأباها كل المنظمات الإنسانية فضلاً عن الأديان السماوية .

لكنها سياسية التركيع والإذلال التي يعتقد الصهاينة أنها تجدي مع من وضعوا نصب أعينهم الأقصى، وتعاهدوا على نصرته، وجعلوا الموت ألذ ما يستطعمونه في سبيل الله تعالى .

فهاهم إخواننا في قطاع غزة يعيشون حصارًا ظالمًا، منعوا فيه من ضرورات الحياة، فهاهم الآن يقتسمون الكهرباء على شكل حصص كما يقتسمون الطعام، ويمنع دخول الأموال المتبرع بها إليهم من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أما رواتب الموظفين فهي حلم الصغار والنساء والشيوخ الذين ينتظرون عائلهم بفارغ الصبر ليطعمهم ويسقيهم !!

فماذا تراه يصنع وهو يشاهد عائلته تتضوع من الجوع والعري في شدة الشتاء وبرده القارس، أما آلاف المرضى فالأمر لديهم أعظم من أن يوصف ، حيث قطع عنهم الدواء، وتعطلت أجهزة كثيرة لغسيل الكلى لعطلها وعدم وجود قطع غيار لها، والمصابون بالفشل الكلوي وحدهم هم الذين يعلمون ما معنى الألم الذي يلم بهم.

ولا تسلني عن الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة ، لربما أجريت لهم العمليات الجراحية التي لا يتحملها الإنسان بطبعه من دون تخدير،وإذا انتهت بقوا يعانون من آلامها من دون مسكنات !

فماذا نقول بعد ذلك عن الأمهات الحوامل، وعن ولادتهن ، وعن مرضى السرطان وغيره ، وهم لا يجدون من ينجدهم أو يقدم إليهم التخفيف والعلاج، أو حتى يسمح لهم العبور إلى الدول المجاورة ما دامت المعابر موصدة في وجوههم .

ولنضع في دفاتر مآسينا أن غزة المحاصرة تودع المريض السابع والستين هذا الأسبوع وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ولا تنسى سياسية الإفساد الصهيوني في الأرض، حيث يتفننون في قلع الأشجار، وتدمير الممتلكات، ونسف البيوت، وتخريب الشوارع، ويصل الأمر في غزة إلى الإجرام بهدم الآبار، لقطع المياه وتلويثها بأبشع الطرق العدوانية ، فكيف لو رأيت الأطفال بقواريرهم الخاوية يتنافسون على جمع قطرات من الماء ليشربوا منها !!

أما الخوف من المصير، والوجل من المجهول الرهيب، فهذا لا يأمن منه أحد، فلا تزال طائراتهم الظالمة التي صنعها أعوانهم الفجرة تسقط وابلها عليهم، لا تفرق بين أحد، ولا تستثني أحدا ، فيا لجبنهم وخسة طبعهم، يحاربون العزل، ويهاجمون المحاصرين، ويسبلون الضعفاء، تبًا لهم من يهود نزعت من قلوبهم الرحمة، وسلبت من أفئدتهم الإنسانية .

ولا يزيد هذا الوضع الخطير الصهاينة إلا طغيانًا ولا يزيد أعوانهم إلا كيدًا، لأنهم جبلوا على العداوة ألم يقل الله تعالى
: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا }.
ولئن زاد كيدهم، فإن ذلك لا يزيد إخواننا في فلسطين إلا صبرًا، ولا يزيدهم إلا قوة وصلابة على الحق، ولأنهم لا يقع في قلوبهم شك ولا ريب أن الله معهم، وسينصرهم بعد الحصار كما نصر عبده ورسوله محمدًا ‘ ، فعاد مظفرًا منتصرًا يعلي الحق ويحكم به.

فأبشروا يا أهلنا في غزة وفلسطين الحبيبة

أن نصر الله قريب، وأن بعد العسر يسرا، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتذكروا قول الله الكريم : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175) } .

غير أن سؤالاً كبيرًا يجب أن نسأله أنفسنا:

هل فكرنا في حالهم؟

وهل أست قلوبهم لفجيعتهم؟

وهل اعتمل الحزن لألمهم؟

هل اكتنفت الدموع المآقي على أوجاعهم؟

هل بتنا نتضرع إلى الله تعالى أن يفك حصارهم؟

هل دارت أحاديث مجالسنا عن طغيان اليهود عليهم؟ أم يزال الحديث عن نزول درجات الحرارة وصعودها في قمة اهتماماتنا ونقاشنا ؟!!

ياليت هذا البرد يذكرنا بشدته على من لا يجد الرداء أو الكساء من إخواننا المستضعفين، أو قلة المدافئ لديهم، أو فقدان الوقود، فنألم كألمهم !!

أم أننا لا نريد حتى أن نألم وقد حيل بيننا وبينهم أن ننصرهم بالمال والنفس!!

هل أطلقنا لأنفسنا الخيال قليلاً لنشعل فتيل التعاطف معهم، فوضعنا أنفسنا في مكانهم، فلم يجد أحدنا الطعام والشراب والدواء ، حتى تخنقه الحيرة ماذا يصنع وماذا يفعل ، بل ربما يرى أنفاس حبيبه تودعه أما معبر من المعابر المغلقة وهو لا يستطيع أن يصنع له شيئًا ..!!

آه .. آه .. يا أمة الإسلام .. هل ما زالت تشغل أسماعنا أنغام الطرب، وتفتننا الراقصات، ونلهث خلف سراب الأموال، ونتنافس في الأرصدة!!

أين الجسد الواحد الذي أمرنا النبي ‘ أن نتمثله واقعًا مع إخواننا ، فقال ‘ :
(تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه البخاري .
نعم .. لا حول ولا قوة إلا بالله، ونعم بالله، فارفع يديك في جنح الظلام، وفي أوقات الاستجابة، وعند إفطار هذا اليوم العظيم الذي نصر الله فيه موسى على فرعون اسأله أن ينصر الله الإسلام وأهله، أخرج هذه الدعوة من صميم قلبك، استشعر بأن الله تعالى يسمعك، وأنه سيجيب دعوتك، وأن الله سيظهر دينه، ولو كره الكافرون، وأن أي قوة عظمى في الأرض ظالمة جائرة أمر إزالتها عند الله يسير، إنما أمره أن يقول : كن فيكون، ولكن للنصر أسباب، فلنعد إلى الله تعالى، ولنتكل عليه، ولتبذل أمة الإسلام على كل أصعدتها الدولية والفردية كل أسبابه، فالله قال : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) .

واغرس في قلب أولادك كره اليهود المعتدين قتلة الأنبياء ، وعلمهم أن يدعوا عليهم.

ولنوقن بأن النصر قريب مهما طال انتظاره، فالنبي ‘ يقول :
(لَتُقَاتِلُنَّ الْيَهُودَ فَلَتَقْتُلُنَّهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ) رواه مسلم .
دعـاء :

اللهم عليك باليهود ومن عاونهم، والصليبيين المعتدين ومن ساندهم، اللهم إن آذوا إخواننا فأرنا فيهم عجائب قدرتك

اللهم اقذف في قلوبهم الرعب والخوف، وانشر في أموالهم الخسارة والبوار، واجعلهم عالة يشحذون من الناس فلا يعطوهم

اللهم اجعل كيدهم بينك شديدًا، اللهم أذلهم أينما كانوا، اللهم رد كيدهم في نحورهم حتى يروا العذاب الأليم

اللهم افجعهم في دورهم وأهليهم كما فجعوا إخواننا ، اللهم أرسل عليهم جنودك ، وعذبهم بالأوجاع والأمراض ، وأقر عيوننا بهلاكهم وطردهم من فلسطين وبلاد المسلمين يا رب العالمين .

اللهم كن عونا لإخواننا في فلسطين عامة، وفي غزة خاصة، اللهم أطعم جائعهم واكس عاريهم، واشف مريضهم وتقبل موتاهم وشهداءهم، وارعهم برعايتك واحفظهم بحفظك

اللهم بارك لهم في قليل المال والعتاد والسلاح والدواء والأرزاق والطعام، اللهم اكفهم شر الأشرار وكيد الفجار، وارفع عنهم الحصار والظلم كما رفعته عن نبي محمد

وانصرهم كما نصرت عبدك ورسوله محمد

اشر مـن مـحـرم