وتدور هذه الشبهة على تأويل بعض الأحاديث الصحيحة ابتغاء الفتنة، فمن هذه الأحاديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي» فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، قال ابن قتيبة رحمه الله: (قالوا: حديث يحتج به الروافض في إكفار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيَرِدَنَّ على الحوض أقوام، ثم لَيُختلجن دوني، فأقول: أُصيحابي أصيحابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»، وهذه حجة الرافضة في إكفارهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علياً وأبا ذر والمقداد وسلمان وعمار بن ياسر وحذيفة) ، والحاصل أنهم يزعمون أن في هذا الحديث نصاً على ارتداد الصحابة عن الإسلام، وبالتالي انتفاء عدالتهم.

* جواب الشبهة:
إن مدار اللبس في هذه الشبهة هو ورود لفظ (أصحابي) في الحديث ، وفي بعض الروايات (أصيحابي)، وما عدا ذلك لا إشكال فيه، ولقد تكلم شراح الحديث على هذا الحديث واعتنوا ببيان مقصود هذا اللفظ، وحاصل الأقوال فيه ما يلي:
1. أنهم من ارتدوا عن الإسلام على عهد أبي بكر رضي الله عنه وقاتلهم وماتوا على ردتهم.
2. أنهم قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين.
3. أنهم المنافقون والمرتدون .
4. أنهم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام.
والذي يقوى ويرجح من هذه الأقوال أن المقصود بهم من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ومات على ردته وكفره وهم نفرٌ قليل، ويقوي هذا الاختيار قرائن عدة منها ما يلي:
1- أن لفظ «أصحابي» في الحديث محمول على المعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي للصحبة كما تقدم تعريفه.
قال الحافظ ابن حجر: (وأُجيب بحمل الصحبة على المعنى الأعم) ، وهذا مثل قوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22]، قال الإمام الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره وما صاحبكم أيها الناس محمد بمجنون فيتكلم عن جنة ويهذي هذيان المجانين بل جاء بالحق وصدق المرسلين).
وهذا خطاب لكل الناس من آمن منهم ومن لم يؤمن، ومع ذلك استعمل لفظ الصحبة وهو قطعاً بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي.
ومثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46].
قال الإمام الطبري رحمه الله: (وقوله: تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ يقول لأنه ليس بمجنون، وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول ما محمد إلا نذير لكم ينذركم على كفركم بالله عقابه).
وهذا خطاب صريح للكفار ومع ذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه صاحبهم، وهذا كما لا يخفى بالمعنى اللغوي العام لا بالمعنى الاصطلاحي.
2- إن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم لا يلزم أن تكون معرفة بسيما المؤمنين بل يحتمل أن تكون معرفته لهم بأعيانهم، قال ابن حجر رحمه الله: (ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر أنهم من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما لأنها كرامة يظهر بها عمل المسلم، والمرتد قد حبط عمله، فقد يكون عرفهم بأعيانهم لا بصفتهم باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم).
3- إن كونهم من أصحاب البدع بعيد جداً، لأن الصحابة لم تظهر منهم البدعة أبداً، فلم يؤثر أو يثبت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث أو ابتدع شيئاً في الدين، قال ابن حجر: (وأما دخول أصحاب البدع في ذلك فاستُبعد لتعبيره في الخبر بقوله «أصحابي» وأصحاب البدع إنما حدثوا بعده).
4- إن كونهم أصحاب الكبائر بعيد أيضاً لأن من تلبس من الصحابة بشيء من الكبائر فقد ثبتت له المغفرة إما على الإجمال أو على التفصيل كما قدمنا في جواب الشبهة الثالثة.
5- إن لفظ «أُصيحابي» يقوي كونهم من ارتدوا بعده صلى الله عليه وسلم ، قال ابن قتيبة رحمه الله بعد ذكره هذه الشبهة: (ونحن نقول: إنهم لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا على أنه لم يُرد بذلك إلا القليل، ويدلك على ذلك قوله (ليردن على الحوض أقوام)، ولو أرادهم جميعاً إلا مَن ذَكروا لقال «لتردن على الحوض ثم لتختلجن دوني»)، وقال رحمه الله: (وكذلك أيضاً قوله «أُصيحابي» بالتصغير وإنما يريد بذلك تقليل العدد).
ومما يشهد لصحة هذا الترجيح رواية مسلم وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيرِدنَّ على الحوض رجالٌ ممن صاحبني، حتى إذا رايتهم ورُفعوا إلي اختُلجوا دوني، فلأقولنَّ: أي رب أُصيحابي أُصيحابي، فليقالنَّ لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
ووجه الدلالة في قوله صلى الله عليه وسلم: «رجالٌ ممن صاحبني» فهذا يكاد يكون نصاً في المسألة.
قال الإمام النووي رحمه الله: (قال القاضي: هذا دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة، ولهذا قال فيهم: سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة، بل يشفع لهم ويهتم لأمرهم).
فهذه القرائن ترجح بل تؤكد على أن المقصود باللفظ وبالحديث هم من ارتد بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان قد آمن به أو أظهر إسلامه في حياته صلوات الله وسلامه عليه ثم ارتد بعد ذلك ومات على الكفر، وهؤلاء ليسوا من الصحابة فلا يكون حالهم مورداً للطعن في الصحابة، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهد الله تعالى لهم برضاه عنهم فليسوا منهم قطعاً، قال ابن قتيبة رحمه الله: (فكيف يجوز أن يرضى الله عز وجل عن أقوام ويحمدهم ويضرب لهم مثلاً من التوراة والإنجيل وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إلا أن يقولوا إنه لم يعلم، وهذا هو شر الكافرين).
قلت: وهذا الجواب في غاية الحسن.
وثمة دليل آخر يدفع الشبهة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد صح في الحديث عن أُسيد بن حُضير رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ قال: «ستلقون بعدي أَثَرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه صراحةً بما لا يحتمل التأويل أنهم يلقونه على الحوض، فدل هذا على أن الذين يُختلجون دونه ليسوا صحابته رضوان الله تعالى عليهم، وإنما هم أقوام آخرون كما تقدم.
ويتوجه هذا الاستدلال على القول بأن الراجح فيمن يُختلج دون الحوض هم الذين صحبوه ثم ارتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، والله أعلم.

* المرجع:
- حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله.