ان هذا الدين في جوهره مكارم أخلاق، لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بعثت معلماً". مسند ابن ماجه. "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". كنز العمال عن أبي هريرة.
أن العبادات الشعائرية؛ من صيامٍ، وصلاةٍ وحجٍ، هذه عباداتٌ شأنها في الحياة كشأن ساعات الامتحان، ما قيمة هذه الساعات الثلاث التي يجلس فيها الطالب على مِقْعد الامتحان، وأمامه ورقٌ أبيض، وبيده قلمٌ سيّال، ما قيمة هذه الساعات الثلاث، إن لم تسبقها دراسةٌ مضنية، وتحصيل من مستوىً رفيع؟!
في الإسلام عبادات شعائرية، وفي الإسلام عبادات تعامُلية، ما لم يُتقن المسلم عباداته التعاملية، فلا جدوى من عباداته الشعائرية؛ "قم فصل إنك لم تصل"، "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً". الجامع لأحكام القرآن عن ابن مسعود، وابن عباس. "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه". الجامع لأحكام القرآن. "حجوا قبل أن لا تحجوا". الجامع الصغير.
فأحاديث كثيرة تبيّن أن هذه العبادات لا جدوى منها إلا إذا استندت إلى مكارم الأخلاق، وما فتح أجدادنا الكرام أقطار الدنيا إلا بمكارم أخلاقهم، وما جوْهر الدين إلا مكارم الأخلاق، ماذا قال سيدنا جعفر للنجاشي؟! قال له: "كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الوثنية، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، والكف عن المحارم والدماء".
أن الأخلاق الصحيحة، الأصيلة، التي تسمو بصاحبها، لا تكون إلا مِن طريق الدين؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- عنده مكارم الأخلاق، فإذا أحبَّ الله عبداً مَنحه خُلُقاً حسناً كما ورد في بعض الأحاديث، إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسن.
بعض المفكرين، الذين يعتدُّ بنظرياتهم الفلسفية يقول: الأخلاق من غير دينٍ عَبَث. بعضهم الآخر يقول: إن الدين ومكارم الأخلاق هما شيءٌ واحد لا يقبل أحدهما الانفصال عن الآخر. مفكر آخر يقول: من دون دين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق. مفكر رابع يقول: لا يمكن أن تكون هناك أخلاقٌ إلا عن طريق الإيمان بالله أولاً، والإيمان بخلود النفس ثانياً، والإيمان بالحساب بعد البعث ثالثاً.
الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، رويا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:"أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلةٌ منهن كان فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعهـا؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كـذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". فمن كان فيه خصلة الكذب كانت فيه خصلة النفاق، والآن في بعض العلوم الحديثة علمٌ جديد اسمه "عِلْم الطباع"، وقد أشار النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى هذا العِلم إشارةً لطيفة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "يطبع المؤمن على الخلال كلها".

قد تجد مؤمناً منفتحاً على المجتمع، وقد تجد مؤمناً يحب الانطواء على نفسه، وقد تجد مؤمناً كثير العناية بمظهره، وقد تجد مؤمناً آخر أقل منه عنايةً، إلى ما هنالك من طِباع، ومن صفات، ومن سِمات، ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب". كنز العمال عن أبي أمامة.
بمجرد أن يخون، لمجرد أن يكذب، فقد انسلخ منه إيمانه، أو انسلخ من إيمانه، كان هو في واد، وإيمانه في وادٍ آخر.
"يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب".

ولو دققت، وتأملت، في أكثر ما يعاني منه المجتمع المسلم صغاراً وكباراً، إنه الكذب؛ كذبٌ في البيع والشراء، كذبٌ في إلقاء الأفكار، كذبٌ في مَدْح الآخرين، ظاهرة الكذب ظاهرةٌ تُدَمِّر المجتمعات، وما من فضيلةٍ، وما من أساسٍ لبناء مجتمعٍ صحيح إلا أن يكون الصدق محور هذا المجتمع.
يكفي أن يكذب الإنسان حتى ينسلخ من إيمانه، ويكفي أن يكذب حتى يُعَدَّ من المنافقين.
وقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذابٌ أليم: شيخٌ زانٍ، ورجلٌ كذَّاب، وعائلٌ مُستكبر".
تعرفون جميعاً الحديث القدسي: "أحب ثلاثاً وحبي لثلاثٍ أشد؛ أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائـع أشد، أحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاثٍ أشد؛ أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض المتكبريـن، وبغضي للفقير المتكبر أشد، أبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد".
الشيخان البخاري ومسلم رويا عن ابن مسعودٍ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار".
أي أن الكذب طريقٌ إلى النار، لا تكذب، إن لم تكذب تشعر بإحساس لا يعرفه إلا من فقده، احترامك لذاتك، تقدير الإنسان لذاته، أحد أركان سعادته النفسية، فإذا كذبت -وفرضاً لم تُكشف هذه الكذبة- احتقرت ذاتك، وانهارت ثقتك بنفسك.
يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً". الجامع لأحكام القرآن.

أما ما يقوله عامة الناس، جهلة الناس: من أنك إن لم تكذب لا تربح، إن لم تكذب لا تُفْلِح، إن لم تكذب لن تستطيع أن تقف على قدميك. هذا كلامٌ باطل، هذا كلام الشيطان، النجاةُ في الصدق، قد يتراءى لك أن الكذب يريحك من أعباء كثيرة، قد تتوهَّم أنك إذا كذبت أنفقت هذه السلعة، اليمين الفاجرة منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة، لا تكذب؛ لا في تجارتك، ولا في صناعتك، ولا في وظيفتك، ولا في مهنتك، ولا في بَيعك، ولا في شرائك، ولا في أهلك، ولا مع أولادك، ولا معك أصدقائك، كن صادقاً.

النبي -عليه الصلاة والسلام- يعد الكذب من أكبر أنواع الخيانة، لم يقل: هو خيانة بل قال: "كبرتٌ خيانةً أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق، وأنت به كاذب". الدر المنثور عن النواس بن سمعان.
خيانةٌ وأية خيانة أن تحدث أخاك المسلم بحديث في البيع والشراء، في كل شيء، في أي موضوع، أن تحدثه بحديث هو لك به مصدق وأنت له به كاذب.
ألف محاضرةٍ في الصِدق يُسقطها كذبةً واحدة، ألف توجيهٍ لأولادك في الصدق يسقطها ويلغيها أن يضبطك ابنك وأنت تكذب، فلذلك قبل أن تُعَلِّم الناس الصدق كن صادقاً، التعليم بالقدوة من أجدى أنواع التعليم.
كان النبي -عليه الصلاة والسلام- في بيت أحد أصحابه، قالت امرأةٌ لابنها: تعال أعطك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما أردت أن تعطيه؟!"، قالت: أردت أن أعطيه تمراً، قال: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتب عليكِ كذبة". من تخريج أحاديث الإحياء.
فهذه المرأة التي تريد أن تجلب ابنها الصغير، في عمرٍ صغير، في عمر سنتين، إن قالت له: تعال أعطك من أجل أن تجلبه إليها. النبي -عليه الصلاة والسلام- عَدَّ هذا كذباً، بل إن علماء الحديث يعدّون: إذا كذبت على حيوان فهذا يسقط العدالة. على حيوان!! كلكم يعلم قصة عالم الحديث الذي جاء من المدينة إلى البصرة، ليتلقى حديثاً عن أحد الرجال، فإذا بهذا الرجل يجمع ثوبه ليوهم فرسه أن في هذا الثوب شعيراً، كي يُقبل عليه، فلما اقترب منه لم يجد في ثوبه شيئاً، فعاد أدراجه إلى المدينة، ولم يكلمه كلمةً واحدة، فهذا الذي يكذب على حيوان، ليس أهلاً أن يَحمل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
مهما تراءى لك أن الكذب ينجي فالصدق أنجى، مهام بدا لك في بيعك وشرائك أنك إذا كذبت تبيع هذه السلعة، لا، كن صادقاً؛ في نوعها، وجنسها، وتاريخ صنعها، ومواصفتها، ووزنها، ونوع خيوطها، وكل ما فيها، كن صادقاً ولا تكذب، يبدو لك من قواعد خاطئة مُستنبطة من تعامل الناس مع بعضهم بعضاً أن الكذب طريقٌ سهلٌ.
لكن الإنسان إذا كشف كذبه يسقط من عين الناس، بل هو يسقط من عين الله، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتَنْحَطِم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله.

كلكم يعلم أن المرأة التي كانت تمزج الحليب باللبن في عهد عمر، قالت لها ابنتها: يا أمي إن عمر نهانا عن ذلك. فقالت الأم الكبيرة في السن: وهل يرانا عمر الآن؟! فماذا قالت البنت؟! قالت: يا أمي: إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
إذا نَمَّيْتَ في ابنك حس مراقبة الله -عز وجل-، هذا البدوي الذي قال له سيدنا عبد الله بن عمر: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها. فقال: ليست لي. قال: قل لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب. قال: والله لو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟!
هذا هو الدين كله؟! إذا قلت: أين الله؟! فقد وضعت يدك على جَوْهَر الدين، هذا جوهر الدين؛ أن تشعر أن الله معك، يراقبك، في كل أقوالك، حينما كان الراعي يقول: أين الله؟! رفرفرت رايات المُسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحينما تظن أن الله لا يراك، وأن الذكاء والحنكة في كسب المال الحرام، وأن تجميع المال من أي طريقٍ يُعَدُّ مفخرةً وذكاءً هذا هو طريق الهلاك وطريق الهاوية.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.
الحقيقة أن العمل الصالح هو جوهر الحياة الدنيا، والدليل: حينما يأتي مَلَك الموت ماذا يقول هذا الإنسان؟! (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ).
العمل الصالح جوهر الحياة الدنيا؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح؛ (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
الإيمان في القرآن الكريم كُلِّه مقترنٌ بالعمل الصالح: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).
بيتك، زوجتك، أولادك، بناتك، حقلٌ كبيرٌ جداً خصْبٌ للعمل الصالح، لأنك إذا رَبَّيْتَ ابنك كما يرضي الله -عز وجل-، فقد قدَّمت للمجتمع عُنصراً صالحاً، طرحت للمجتمع عنصراً صالحاً، فكل خيرٍ يصدر منه، كل معروفٍ، كل استقامةٍ، كل ورعٍ، كل إحسانٍ، كل خدمةٍ، في صحيفة الأب، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- عَدَّ الولدَ الصالح صدقةً جارية: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
فالأعمال إذا كانت مشروعةً في الأصل، وإذا مارستها بطريقة مشروعة؛ لم تكذب فيها، لم تُدَلِّس، لم تَغُش، لم تبع بسعرين، لم تقبل الربا في البيع والشراء، الآن إذا ابتغيت منها أن تكفي نفسك وأهلك وأولادك، إذا ابتغيت منها أن تكسب مالاً تنفع به المسلمين، إذا ابتغيت منها نفع المسلمين، إذا لم تُلْهِكَ عن صلاةٍ أو ذِكرٍ أو مجلس علم، حرفتك، مهنتك، دكانك، تجارتك، وظيفتك، حقلٌ خصيبٌ آخر للعمل الصالح، من أنت بلا عمل صالح، عندما سقى سيدنا موسى للمرأتين قال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). استنبـط العلماء أن الغنى هو غنى العمل الصالح، وأن الفقر هو فقر العمل الصالح، قال سيدنا علي: "الغنى والفقر بعد العرض على الله".
قبل أن تنام، بعد أن تستيقظ اسأل نفسك: ماذا فعلت في اليوم الماضي؟! يومٌ يمضي بلا عملٍ صالح خسارةٌ كبيرة، مهما استمتعت فيه، لأن الآخرة لا تقبل في نقدها إلا العمل الصالح.

يكفي تربيتك لأولادك، يكفي أن تلقى الله بهذا العمل، يكفي أن تكون مع المسلمين صادقاً في بيعك وشرائك، مُخلصاً لهم، يكفي أن تُتْقِن صنعتك، وأن تبع سلعتك بسعرٍ معقول، وأن تَجْتَنِب كل ما نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عنه، حتى تكون حرفتك؛ عملك الصالح الذي يصلح للعرض على الله -عز وجل-.