دعوى تعدد آباء البشر(*)
مضمون الشبهة:


يدَّعي المغالطون وجود آباء عدة للبشر، وليس أب واحد كما أخبرت بذلك الأديان السماوية، وخاصة الإسلام في مصدريه: القرآن والسنة، ويستدلُّ هؤلاء على دعواهم تلك بوجود أربعة أجناس كبرى من البشر هي:
1. الزنجي. 2. القوقازي. 3. المنغولي. 4. الهندي الأحمر.
ويرون أنه من المستحيل أن تكون هذه الأجناس جميعًا من أب واحد؛ وذلك للفروق الجسدية الواضحة بين هذه الأجناس، كما يرون أن انتماء البشر جميعًا لأب واحد من خرافات الإسلام التي تناقض العلم.
وجها إبطال الشبهة:

1. لقد ظهرت عدة نظريات حاول أصحابها تصنيف البشر إلى أجناس، بناء على خصائصهم الجسدية، ولكن العلماء نبذوا ـ في النهاية ـ هذه النظريات ـ بعدما ثبت لهم أن هذه النظريات لا تقوم على أساس علمي ولا تحقِّق غرضًا مفيدًا، وأن ما بين البشر من فروق جسدية نشأ نتيجة عوامل بيئية، وطفرات جينية، وأن كل الدلائل العلمية تؤكِّد الأصل المشترك للبشر جميعًا.
2. لقد أثبتت دراسات الوراثة البشرية ـ بفضل التقدم التقني الهائل ـ أن الحمض النووي الذي تكتب به الشفرة الوراثية (D.N.A)يتطابق بنسبة (99,9%) بين البشر جميعًا، الأمر الذي يؤكِّد أن البشر جميعًا ينتمون إلى أصل واحد وأب واحد، لا إلى أجناس مختلفة، وآباء متعدِّدة كما يزعم المدَّعون.
التفصيل:

أولا. نبذ العلماء لنظريات تصنيف البشر إلى أجناس لعدم قيام أيٍّ منها على أساس علمي:
يعتقد معظم علماء علم الإنسان (الأنثروبولوجيين) أن البشر نشأوا في أفريقيا، ثم انتشروا تدريجيًّا في أرجاء الأرض، فقد لاحظوا أن جماعات الآدميين الذين عاشوا في أنحاء معينة من الأرض عدة آلاف من السنين يجنحون إلى الاختلاف عن جماعات أخرى عاشت في أماكن أخرى من العالم، فالعيش في مناطق تضمُّ بيئات مختلفة أحد أسباب اكتساب الناس مظاهر مختلفة. فعلى سبيل المثال؛ يميل الأقوام الذين عاش أسلافهم أجيالًا عديدة في المناطق الشمالية من العالم ـ كشمالي أوربا أو شمالي اليابان ـ لأن يكون لون بشرتهم فاتحًا، أما أولئك الذين يعيشون بالقرب من خط الاستواء ـ كأواسط أفريقيا أو جنوبي الهند ـ فيميل لون بشرتهم لأن يكون قاتمًا، وأما أولئك الذين يعيشون في بيئات بين هذين الطرفين، فيميل لون بشرتهم لأن يكون وسطًا بين الفاتح والقاتم (القمحي).
ونحن نلاحظ أحيانًا أن خصائص جسمانية معينة تميل إلى التجمع؛ فنحن قد نربط مثلًا بين الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين والبشرة البيضاء وأهل الدنمارك والنرويج والسويد، كذلك نربط أيضًا بين الشعر الأحمر والعينين الخضراوين والبشرة ذات النَمَش والإيرلنديين، ومع ذلك يوجد في الواقع كثير من الناس في هذه الدولالأربع شعورهم وعيونهم بُنِّية اللون، ولون بشرتهم بُني فاتح، ويُظهِر لنا هذا المثال بعضَ المشكلات التي تجابه علماء علم الأحياء البشري الذين يحاولون تصنيف البشرأجناسًا.
ويعرِّف علماء الأحياء العرق بأنه قسم من أحد أنواع النبات أو الحيوان، ويتشابه أفراد النوع الواحد في كثير من النواحي الأساسية، وعلى الأخص في التزاوجفيما بينهم وإنجاب الذرية الكثيرة، أما أفراد الأنواع المختلفة فلا يمكنها أنتتزاوج وتنجب ذرية؛ فالدببة الشهباء والدببة السوداء في أمريكا الشمالية، مثلًا، دببة وثيقة القرابة، ولكن على الرغم مما بينها من تشابه لا يتزاوج أفراد أيٍّ من المجموعتين مع أفراد المجموعة الأخرى؛ وذلك لأنهما ينتميان إلى نوعين مختلفين.
ويمكن تقسيم كثير من أنواع النبات والحيوان إلى مجموعات يختلف بعضها عن بعض، أُطلقت عليها أسماء مختلفة: أجناس أو نُوَيْعات، أو عشائر طبيعية، أو سلالات، أوأصناف؛ وينتمي جميع البشر إلى النويع"هومو سابينز"، ولكن العشائر البشرية تختلف من منطقة إلى أخرى، ولقد استخدم العلماء هذه الاختلافات لتصنيف الناس أجناسًا مختلفة. ومن ثم؛ ابتدعوا أقسامًا عرقية للبشر بناء على الخصائص الطبيعية، مثل: لون الشعر وملمسه، وشكل العينين.
بَيْد أن بعض الأفراد الذين يُلحقون بالجنس الواحد نفسه ـ بل بعض أفراد الأسرة الواحدة ـ يختلفون عن خصائص جنسهم اختلافًا واسعًا، وعلى مرِّ السنين، اختلف العلماء حول عدد الأجناس التي يُصنَّف البشر تحتها، وحول الأفراد الذين يُلحقون بكلٍّ منها؛ ولهذا السبب انتهى كثير من علماء علم الإنسان إلى الاعتقاد بأن إلحاق أية جماعة من البشر بجنس من الأجناس مسألة اعتباطية، ولذا فالأمر مفتوح للحوار.
وقد ظل معظم العلماء أعوامًا كثيرة يعتقدون أنه قد كانت هناك أجناس نقية من البشر في وقت ما من عصور ما قبل التاريخ، وأن تلك الأجناسالنقيةقدتكوَّنت منعزلة انعزالًا تامًّا عن بعضها، وأن أفراد كل جنس منها اتصفوا بخصائص لم تكن لتوجد في أفراد سائر الأجناس.
بَيْد أن معظم علماء الإنسان الطبيعيين (أي العلماء الذين يدرسون الاختلافات الجسمانية للبشر وتطوُّرهم في عصور ما قبل التاريخ) يشكُّون في أنه كانت هناك أجناس نقية في أي وقت من الأوقات، وهم يشيرون إلى أن من المحتمل أن الناس كانوادائمًا يتخذون أزواجهم من عشائرهم أو من خارجها، وأنه بازدياد وسائل الانتقالوالتواصل يُسرًا ـ ازداد اختلاط العشائر البشرية أكثر فأكثر، ولهذه الأسباب لا يُحْسِنُ التعريف الأحيائي للجنس وصف العشائر البشرية، ويتجنَّب معظم علماء الإنسان الآن تصنيف الناس أجناسًا، ولكنهم ـ عوضًا عن ذلك ـ يحاولون أن يزدادوا معرفة بالتنوُّع البشري؛ وذلك بدراسة تباين الخصائص البشرية في أنحاء العالم، وعلى الرغم من أن الافتقار إلى نظام تصنيف للأجناس مطلوب وصحيح نظريًّا، إلا أن الناس يعدُّون ـ بصفة عامة ـ أولئك الذين يتخذون مظهرًا مخالفًا لهم أفرادًا منتمين إلى جنس آخر، ونتيجة لهذا ظل مفهوم الجنس البشري ذا أهمية ولكن بمدلول اجتماعي؛ فالمجتمعات تمضيفي تصنيف أفرادهاأجناسًا، على الرغم من أن المعايير والأسماء المستخدمة قد تختلف من مجتمع إلى آخر.
وكثيرًا ما أساء الناس فهم فكرة الجنس (العرق) البشري، بل إن المصطلح قد أُسيء استخدامه في بعض الأحيان عن عمد، وكثيرًا ما خلط الناس أيضًا بين المفهوم الأحيائي للجنس والحضارة أو اللغة القومية أو الدين، فالفروق الجسدية قد أدَّت ببعض الناس إلى الانتهاء إلى نتيجة خاطئة، وهي أن أفراد الجماعات المختلفة يولدون وبهم اختلافات في الذكاء والمواهب والقيم الأخلاقية، ولقد اتُّخذ الجنس أساسًا رئيسيًّا للتمييز في المعاملة؛ أي معاملة كل جماعة للجماعات الأخرى على أنها ذات مستوى أدنى منها.
مشاكل تواجه العلماء في محاولتهم تصنيف البشر إلى أجناس:
دأب العلماء منذ بداية تدوين التاريخ على تصنيف البشر بطرق مختلفة، وقد تباين عدد الأقسام التي يعتمدها كلُّ واحد من هذه النظم، ولقد تأثَّر تطوُّر نظم تصنيف الأجناس بثلاث نظريات رئيسية:
1- نظرية الأجناس الثلاثة. 2- نظرية التطور. 3- نظرية الجنسالجغرافي.
نظرية الأجناس الثلاثة:كان المصريون القُدامى والإغريقوالرومان على صلة بأقوام ذوي بشرة قاتمة وشعر أجعد يعيشون في أفريقيا، كما أنهم كانوا يتَّصلون بأقوام يُسمَّون بذويالبشرة الصفراءفي آسيا؛ لأن لمعظمهم ثنية منجلد جفونهم تمتدُّ إلى الركن الداخلي (الموق) لعيونهم، وهكذا كانت المعلومات المحدودة عن سكان العالم في ذلك الزمان توحي بوجود ثلاثة أجناس من البشر: الأوربي أو الأبيض، الأفريقي أو الأسود، الآسيوي أو الأصفر.
ثم أصبحت هذه المجموعات تُعرف في النهايةبالقوقازية والزنجية والمغوليةعلى التوالي، وقد دأب العلماء سنين كثيرة على محاولة تصنيف جميع العشائر البشرية؛ وفقًا لهذه الأجناس الثلاثة، أو بعض الصور المحوَّرة منها، فقد كانوا يعتقدون أن جميع الناس ينتمون إلى عدد محدود من الأجناس، وأن خصائص كل جنس ثابتة لا تتغير.
وقد أدَّت الحقبة الرئيسية للكشوف الأوربية فيما وراء البحار، التي بدأت في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ـ إلى زيادة الاتصال بأقوام من حضارات شتَّى، حتى أصبح من الواضح في القرن التاسع عشر الميلادي أنه ليس من اليسير إلحاق معظم سكان العالم بنظام الأجناس الثلاثة.




[TR]



[/TR]


الخصائص المغوليةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة صفراء، وشعرًا خشنًا مرسلًا أسود اللون، وكذلك كان يُظن أن وجود ثنية من الجلد تمتد عبر الركن الداخلي للعين من الخصائص المغولية

الخصائص الزنجيةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة لونها بني قاتم أو أسود،وشعرًا خشنًا جعدًا أسود اللون، وكذلك كان يُظن أن العينين البنيتين والأنف العريضوالشفتين الغليظتين من الخصائص الزنجية

الخصائص القوقازيةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة شقراء، وشعرًا ناعمًا فاتحاللون، إما مُرسلًا أو متموِّجًا، وكذلك كان يُظن أن زرقة العينين ودقة الأنف ورقَّة الشفتين من الخصائص القوقازية



ظل العلماء سنوات عديدة يصنِّفون جميع العشائر البشرية في واحد من أجناس ثلاثة: القوقازي، والزنجي، والمغولي، وتظهر هذه الصور الثلاث الخصائص الجسمانية التي كان يُعتقد أنها تمثِّل الطراز المميَّز لأفراد كل جنس من هذه الأجناس

نظرية التطور: لما اتَّجه بعض البيولوجيين (علماء الأحياء) إلى تقبُّل نظرية التطور (النشوء والارتقاء) التي نادى بها عالِم الغرب داروين ـ بدأ الرأي القائل بإمكان تصنيف البشر أجناسًا على أساس خصائص جسمانية ثابتة، بدأ هذا الرأي في التغيُّر تغيُّرًا جوهريًّا؛ وذلك أن معظم البيولوجيين ـ خصوصًا في المجتمعات الغربية ـ كانوا في أوائل القرن التاسع عشر يعتقدون أن جميع أنواع النبات والحيوان ظلت ثابتة على حالها من جيل إلى جيل، بيد أن الجيولوجيين (علماء طبقات الأرض) وجدوا أحافير لنباتات وحيوانات تختلف عن الأنواع المعاصرة، فقدَّموا بذلك الدليل المبدئي على أن الأنواع لم تكن ثابتة.
ولما تفهَّم الخبراء الغربيون نظرية التطوُّر، بدءوا يدركون صعوبة محاولتهم استخدام الخصائص القابلة للتكيُّف لتصنيف الناس في عدد محدود من الأجناس البشرية الرئيسية. ومن ثمَّ؛ شرع الأنثروبولوجيون (علماء علم الإنسان) الطبيعيون في البحث عن خصائص غير قابلة للتكيف أو طبيعية؛ أي خصائص جسمانية سوف تثبت وتبقى في عشيرة ما من البشر، ولو انتقلت العشيرة إلى بيئة مخالفة. ومعنى هذا أنهم نظروا إلى الجنس البشري على أنه شيء ثابت وغير متغيِّر، وأرادوا أن يكتشفوا خصائص هي أيضًا غير قابلة للتغيُّر، وعكف علماء علم الإنسان على مقارنة كثير من الخصائص والعمليات الخاصةبوظائف الأعضاء في أقوام يعيشون في بيئات مختلفة.
نظرية الجنس الجغرافي:ابتدع بعض علماء الإنسان فيالخمسينيات من القرن العشرين نظامًا جديدًا لتصنيف الأجناس، وذلك في محاولتهم التوفيق بين نظرية التطوُّر والتباين المشاهَد بين العشائر البشرية في العالم الحديث؛ حيث قسَّموا البشر أقسامًا رئيسية، أسموهاأجناسًا جغرافية، وكانت هذهالأجناس مجموعات من العشائر التي تسودها مميِّزات متشابهة، وقد اعتمد نظام شائعالاستخدام من تلك الأنظمة تسعة أجناس جغرافية:
1.الأسترالي. 2. الآسيوي. 3. الأفريقي. 4. الأوربي. 5. البولينيزي.
6. الميلانيزي. 7. الميكرونيزي. 8. الهندي. 9. الهنديالأمريكي.
ويمكن القول: إن تلك الأجناس الجغرافية كانت تنتشر على امتداد مساحات قارية رئيسية وسلاسل جزرية كبرى، ولكنها لم تناظر القارات مناظرة دقيقة. فعلى سبيل المثال؛ شمل الجنس الجغرافي الأوربي، عشائر منتشرة في أوربا، وفي الشرق الأوسط، وشمالي الصحراء الكبرى في أفريقيا، كما شمل أيضًا أقوامًا منحدرة من تلكالعشائر في مناطق أخرى من العالم؛ مثلالبيضفي أمريكا الشمالية وفيأستراليا.

[TR]

[/TR]







دور لون البشرة في تصنيف الأجناس وفقًا لنظرية الأجناس الجغرافية،ينتمي الأفراد في الصف العلوي من الصور إلى الجنس الأوربي، في حين ينتمي الأفرادفي الصف السفلي إلى الجنس الأفريقي، بَيْد أن لون البشرة يتباين تباينًا واسعًا في كلٍّمن هاتين المجموعتين
وكان من المعتقد أن الأجناس الجغرافية قد نشأت بسبب الانعزال الناجم عن الحواجز الطبيعية، مثل: المحيطات والجبال والصحاري، واعتمد هذا الرأي على أن هذه الحواجز قد فصلت جماعات من البشر بعضها عن بعض آلافًا عديدة من السنين، وهذا جعل العشائر تتطور في اتجاهات مختلفة.
وقد استخدم علماء علم الإنسان مصطلحالأجناس المحليةلوصف الأقسامالفرعية المتميزة من الأجناس الجغرافية، وكان بعض تلك الأجناس المحلية يضمُّ ملايين الأفراد، في حين كان بعضها الآخر يضم جماعات قليلة العدد، وقد استخدم بعض علماء علم الإنسان مصطلح الجُنيْسات أو الأجناس الصغرى للأقسام الفرعية من العشائر التي تعيش في داخل الأجناس المحلية.
وقد مثَّل هذا النظام التصنيفي المفصَّل والموسَّع تغييرًا جوهريًّا في النظرة إلى الأجناس البشرية، ولكن لم يكن من المستطاع تقدير المعايير الجنسية بوضوح؛ وذلك لأن أفراد الأجناس المختلفة يمكن أن يتَّصفوا بالخصائص الجسمانية نفسها.
نبذ العلماء لفكرة التصنيف الجنسي (العرقي) وتبنِّيهم لفكرة الأصل المشترك للبشر جميعًا:
أقام العلماء إذًا التصنيف الجنسي في الماضي على أساس مجموعات من الخصائص الجسمانية، كان يُفترض أنها تمثِّل الفردالنموذجي من كل جنس، ولكن كثيرًا من الأفرادالذين كانوا يُصنَّفون في جنس ما لم تظهر فيهم جميع الخصائص التي كانت تُنسب إلى ذلك الجنس، هذا فضلًا عن أن العلماء الذين أقاموا نظم التصنيف لم يتفقوا دائمًا علىماهية الخصائص التي ينبغي عليهم الاعتداد بها ولا على عددها.
ويمكننا أن نتخذ لون البشرة مثالًا لكي نتفهَّم المشكلات المرتبطة بتعريفنا الأجناس باستخدام الخصائص النموذجية، ثمَّة صبغة تُسمَّى الملانين تحدِّد لون البشرة؛ فالبشرة القاتمة تحوي من الملانين مقدارًا يفوق ما تحويه البشرة الفاتحة، وقد استُخدم لون البشرة خاصيةً تصنيفية أساسية في جميع نظم الأجناس؛ فعلىسبيل المثال عُدَّ لون البشرة البني الفاتح نموذجيًّا للأفراد من الجنس الجغرافي الأوربي، ولكن لون بشرة بعض أفراد ذلك الجنس أفتح كثيرًا من ذلك اللون النموذجي، كما أن أفرادًا آخرين لون بشرتهم أكثر قتامة، ومما يزيد الأمور اختلاطًا أن بعض ذوي البشرة القاتمة من أفراد الجنس الجغرافي الأوربي يماثلون في لون بشرتهم بعضَ ذوي البشرة الفاتحة من أفراد الجنس الجغرافي الأفريقي، ونظرًا لهذه التعقيدات أصبح من العسير إلحاق بعض الناس بجنسٍ ما؛ اعتمادًا على لون البشرة وحده.
ولم تُسْفر زيادة عدد الخصائص المستخدمة في تعريف الأجناس إلَّا عن إضافة مشكلات جديدة، فشكل الشفتين وحجمهما ـ مثلًا ـ يتباينان تباينًا واسعًا بين أقوام كانوايُعدون أعضاءً من الجنس نفسه، ثم إن شكل الشفتين أظهر ذلك اللون من التداخل بين ما يُفترض أنهم أعضاء أجناس مختلفة، كما حدث في حال لون البشرة.
وقد قادت هذه المشكلات كثيرًا من علماء علم الإنسان إلى نتيجة مؤدَّاها: أن التصنيف المبني على الخصائص الجسدية ليس صحيحًا علميًّا ولا يحقِّق غرضًا مفيدًا، وهم يجدون أن دراسةالتنوُّع البشري أجْدَى من مجرد وضع علامات جنسية محددة على جماعات البشر([1]).

ثانيًا. تطابق (DNA) بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%) يؤكد أصلهم المشترك:

1) الحقائق العلمية:

الخلية ودورها في الوراثة:
تتكوَّن أجسام الكائنات الحية ـ الراقية منها والأولية ـ من وحدات لا تُرى إلا بالمجهر وهي الخلية، التي يبلغ عددها في جسم الإنسان البالغ نحو ثلاثين تريليون خلية، ومن بين محتويات الخلية النواة التي تعدُّ أهم المكونات الحيوية للخلية، والتي تحتوي على أجسام صغيرة تُعرف باسم الصبغيات أو الكروموسومات، وهي المسئولة عن حمل المعلومات الوراثية جميعها، والتي تحدِّد الصفات المميَّزة لكل كائن حي.
ويتميَّز كل كائن بأن خلاياه تحتوي على عدد ثابت من الصبغيات؛ فالإنسان تحتوي كل خلية من خلاياه ـ عدا الخلايا الجنسية ـ على ستة وأربعين صبغيًّا، وهي على نوعين:
الأول: صبغيات جسدية، وعددها أربعة وأربعون صبغيًّا.
الثاني: صبغيان جنسيان، ويُرمز له عند الذكر (XY)، وعند الأنثى (XX).
وهذه الصبغيات مُصنَّفة كأزواج، كل زوجين يحملان صفات وراثية متماثلة، نصفها جاء من الأب والآخر من الأم، فالحيوان المنوي والبييضة يحتوي كل منهما على ثلاثة وعشرين صبغيًّا، منهما اثنان وعشرون صبغيًّا جسديًّا، وصبغيٌّ واحد يحدِّد الجنس.
تنتقل هذه الصبغيات بما تحمله من معلومات وراثية، دون أي تغيير من خلية إلى أخرى أثناء انقسام الخلية، لكنه إذا حدث أي خلل في عملية الانقسام نتيجة التعرُّض لأشعة معينة أو عقاقير أو مواد كيميائية ـ فإن هذا يؤدي إلى انقسام غير طبيعي في الخلية،الأمر الذي ينشأ عنه ما يعرف بالطفرة التي قد تسبِّب أمراضًا وراثية، أو تشوُّهات خلقية، أو أورامًا سرطانية، وهذه الطفرات التي تحدث لا تنتقل إلى الأجيال التالية، هذا بالنسبة للطفرات الحاصلة للخلايا الجسدية. أما الخلايا التناسلية؛ فإن الطفرات تُورَّث إلى الجيل اللاحق، وهناك طفرات محمودة العواقب تحدث أثناء عملية الانقسام للخلايا التناسلية؛ حيث يحدث تقاطع بين أجزاء صبغي الأبوين بما يعرف بالعبور، وهذا ضروري في تنوُّع الكائنات الحية.
إن الصبغيات هي التي تحمل المورِّثات التي تحدِّد صفات الكائن الحي، سواء أكان إنسانًا أم حيوانًا أم نباتًا أم فيروسًا... إلخ، فهي تحدد تركيب الخلايا والأنسجة والأعضاء، والصفات من طول أو قصر أو لون العينين، وشكل الوجه... إلخ، فالمورِّثات إذًا هي الجزيئات المكوِّنة للصبغيات، التي تحمل الخصائص الوراثية للكائن الحي.
هذه المورِّثات عبارة عن قطاع من قطاعات ما يُعرف بالحمض النووي (DNA) اختصارًا لكلمة (DeoxyRibonucleicAcid) المكون للصبغيات؛ فالحمض النووي يحمل إذًا الآلاف من المورِّثات، وقد قدَّر العلماء عدد المورثات في الخلية الإنسانية الواحدة بمئة ألف مُورِّث، والحمض النووي عبارة عن سلم حلزوني ذي جانبين متوازيين ومتعاكسين ملتفين حول نفسيهما بصورة لولب مزدوج، ويتكوَّن الجانب أو الشريط من وحدات تُسمَّى نيوكليوتيد التي تتكوَّن من السكر ومجموعة فوسفات، وواحدة من أربع قواعد نيتروجينية، اثنان منهما تنتميان إلى مجموعة البيورين وتُسمَّى الأدينين (A) والجوانين (G)، واثنتان تنتميان إلى مجموعة البايريميدين وتُسمَّى الثايمين (T) والسيتوزين (C)، ودرجات هذا السلم تتكوَّن من هذه القواعد النيتروجينية؛ حيث تلتقي فيه إحدى القواعد المنتمية إلى المجموعة الأولى مع أخرى من المجموعة الثانية؛ حيث يلتقي الأدينين (A) بالثايمين (T) والجوانين (G) بالسيتوزين (C)، فمثلًا تتابُع AGT على أحد جانبي السلم يلتقي بتتابع TCAعلى الجانب المقابل وهكذا، وهذه السلالم أو السلاسل الموجودة في خلايا جسم الإنسان لو وُضعت في خط مستقيم لبلغ طولها المسافة الواقعة بين الأرض والشمس؛ حيث يُقدَّر طولها في الخلية الواحدة ما يقرب المتر، وقد قدَّر علماء الوراثة أن الثروة الوراثية للإنسانية جميعها يمكن احتواؤها بالشكل الذي وضعها فيه سبحانه وتعالى ـ أي: بالشكل اللولبي ـ في مكعب حجمه سنتيمتر مكعب واحد([2]).


رسم يبيِّن شريط الشفرة الوراثية داخل الخلية
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ونحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية هو: كيف توصَّل العلماء إلى هذه الحقائق حول الخلية البشرية؟
الطريق إلى معرفة الجينوم البشري:
يمكننا القول بأن تاريخ التقدم العلمي الذي غيَّر علم الوراثة خلال القرنين الماضيين قد مرَّ بمراحل مميَّزة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل، يمكن الحديث عنها بإيجاز فيما يلي:
المرحلة الأولى (1839 ـ 1941م):
تميزت بوصفها الدقيق للظواهر العلمية، وبدأت بالوصف الرائع لبنية الخلية الدقيقة على يد العالم (تيودو شوان) Schwon في عام 1839م، وقد تضمنت أيضًا وصف الصفات الوراثية، وكيفية انتقالها من جيل لآخر من قِبل العالم (مندل) Mendelفي عام 1865م، وتم اكتشاف الصبغيات من قِبل العالم فليمنغ (Fleming) في عام 1877م، وفي عام 1927م استطاع العالم مولر (Muller) أن يشرح آلية حدوث الطفرات الوراثية، وفي عام 1946م اقتُرحت النظرية القائلة: إن كل إنزيم في الخلية يقابله مورث معين.
المرحلة الثانية (1942 ـ 1969م):
تميزت هذه المرحلة بدراسة المادة الحية على المستوى الجزيئي، وتجلَّى ذلك بالوصف الدقيق والرائع لذرات المادة الحية، وفي هذه المرحلة أُثبت لأول مرة أن الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (D.N.A) هو المادة الوراثية، وكان ذلك في عام 1944م من قِبَل العالم آفيري (Oswald T.Avery)، ولقد شهد عام 1953م أعظم تطور علمي، وقد جاء على يد العالمين واتسون Watson)) وكريك Crick).)، وهذا يُعدُّ أهم اكتشاف جديد في القرن العشرين ـ برأي العلماء ـ حيث قدَّم العالمان (واتسون وكريك) وصفًا دقيقًا ومتكاملًا للبنية التركيبية ثلاثية الأبعاد لجزيء الـ (D.N.A)، ومُنحا جائزة نوبل لعام 1962م تقديرًا لجهودهما في هذا الاكتشاف، وقد أسهمت البنية المقترحة لجزيء الـ (D.N.A) في توضيح الآلية التي يجري من خلالها تضاعف وتناسخ جزيئات لجزيء الـ (D.N.A)، وعملية حفظ المادة الوراثية من جيل لآخر.
وفي عام 1961م تم اكتشاف ما يُسمَّى بالحمض النووي الريبوسومي (R.N.A)، وهو المادة التي يجري نسخها من الـ (D.N.A) ليقوم بنقل الرسالة الوراثية، ذلك بفرض الصبغة التي يتشكَّل منها البروتين.


رسم يوضِّح الحمض النووي البشري (D.N.A)

المرحلة الثالثة (1970م ـ 1996م):
وتُسمَّى بمرحلة تأشيب الـ (D.N.A)، وتتميز هذه المرحلة بتطوُّر التقنيات المتعلقة بطرق تحليل الأحماض النووية (D.N.A)و(R.N.A).
وفي عام 1997م توصَّل العلماء (Gilbert / Maxam/Sanger) إلى اختراع طريقة جديدة لقراءة الحروف الكيميائية التي يتألَّف منها الـ (D.N.A)، وباستخدام هذه التقنية أصبح ممكنًا قراءة السلسلة الكيميائية التي تتركَّب منها المورِّثات المختلَّة.
وخلال الثمانينيات اكتُشفت تقنية جديدة قادرة على تركيب أو نسخ المادة الوراثية بواسطة جهاز صغير، بعد تأمين المادة الأولية التي تتكوَّن منها المادة الوراثية. وهكذا؛ فإنه قد أصبح ممكنًا بشكل اصطناعي تركيب أيَّة مورثة بهذه الطريقة.
المرحلة الرابعة (1997ـ الآن):
وتُسمَّى بعصر المورِّثات أو الحقبة الجينية، وأهم ما يميز هذه المرحلة هو الاكتشافات المتزايدة لعدد كبير من المورثات، وقد بدأت هذه المرحلة باستنساخ النعجة دُولِّي عام 1996م من قِبل الباحث (إيان ويلموت).
أما التطور الآخر الذي تحقَّق في هذه الفترة، فهو الإنجاز المذهل الذي أُعلن في السادس والعشرين من يونيو عام 2000م، والذي تضمَّن اكتشاف الخريطة الوراثية للإنسان، وفي الرابع عشر من أبريل عام 2003م أُعلن الانتهاء الكلي من قراءة الجينوم البشري([3]).


انتهى مشروع الجينوم البشري.. وتم فك شفرته الوراثية..
فهل انتهى البحث العلمي الخاص بالجينات البشرية؟

لعل من عرضنا السابق لتاريخ قراءة الجينوم البشري يتبيَّن مدى الدقة التي توصَّل لها العلماء سواء على المستوى الطبي أو المستوى التكنولوجي، والمتتبِّع للآثار والنتائج المترتبة على قراءة العلماء للجينوم البشري يجدها من الكثرة حيث لا يسعها مقام حديثنا، وكل خلية تتألَّف من نواة داخلها، وكل نواة تحتوي على شريط الحامض الأميني النووي (DNA) وهو ملفوف بشكل لولبي، ويحمل الثروة الوراثية للإنسان والمؤلَّفة من مواد كيميائية، ويقدِّر العلماء أنه لو فردت جميع الشرائط التابعة لجسم إنساننذأنه
واحد بشكل خط مستقيم لبلغ طولها 150 مليون كيلو متر؛ أي المسافة بين الأرض والشمس([4]).
هذا؛ وقد أثبتت دراسات الوراثة البشرية أن الحمض النووي الذي تُكتب به الشفرة الوراثية (DNA) يتطابق تركيبه الكيميائي بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%) لا فرق في ذلك بين أحد من البشر أسود أو أبيض أصفر أو أحمر، كما أن عدد الخلايا واحد في جميع البشر رغم اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم، ومن طلاقة قدرة الله المبدعة أن تعطي لكل فرد ـ لا لكل جنس ـ من بلايين البشر بصمة وراثية مميزة له من الفارق في تركيب الحمض النووي الذي لا يتعدَّى (0,1%).
2) التطابق بين حقائق القرآن والسنة وحقائق العلم:
من الحقائق التي لا يتطرَّق إليها شك في الإسلام؛ بل لا نبالغ إذا قلنا إنها من المسلَّمات فيه ـ أن البشر جميعًا ينتمون إلى أصل واحد، وأب واحد هو آدم عليه السلام، وأم واحدة هي حواء عليها السلام.
ولقد وردت هذه الحقيقة في كثير من آيات القرآن الكريم وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى:)وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)( (الأنعام).
وقد أجمع المفسرون جميعهم على أن المقصود بالنفس الواحدة التي أنشأ الله تعالى منها البشر جميعًا في الآية الكريمة هي آدم عليه السلام، ولم يخالف أحد منهم هذا الرأي.
أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نصَّت على الأصل المشترك للبشرية؛ فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب»([5]).
هذه النصوص الصريحة في القرآن الكريم والسنة تشير إلى حقائق علمية لم تدرك المعارف المكتسبة شيئًا عنها إلا حديثًا، حين أتمَّ العلماء قراءة الجينوم البشري، وتبين لهم أن الحمض النووي الذي تكتب به الشفرة الوراثية يتطابق تركيبه الكيميائي بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%)، وأن عدد الخلايا واحد في كل البشر، ثم كان ما كان في إثبات انقسام الصبغيات باستمرار لتكرار ذاتها، الأمر الذي يؤكد حقيقة الأصل المشترك والأب الواحد لجميع البشر مهما تعددت ألوانهم أو خصائصهم الجسمانية.
3) وجه الإعجاز:
لقد أثبتت الدراسات العلمية في مجال الهندسة الوراثية، التي امتدَّت لقرابة قرنين من الزمان إلى عدة نتائج لا تحتمل الشك، وهي أن عدد الخلايا في جسم الإنسان البالغ مليار خلية، وهذا العدد واحد في كل البشر على اختلاف بيئاتهم وأجناسهم وألوانهم، كما أثبتت تلك الدراسات أن الحمض النووي (D.N.A) يتطابق بنسبة (99,9%) بين البشر جميعًا، لا فرق في ذلك بين أوربي أو أفريقي أو آسيوي، أو أبيض أو أسود، وأن الفارق في تركيب الحمض النووي الذي لا يتعدَّى (0,1%) هو ما يعطي لكل فرد من بلايين البشر بصمة وراثية مميزة له، ولا يعني اختلاف الأعراق والأجناس، وكل هذا يشير إلى الأصل الواحد لجميع البشر، ويزيد هذه الحقيقة تأكيدًا ما أثبته العلماء من انقسام الصبغيات باستمرار لتكرار ذاتها، الأمر الذي يرجع البشر جميعًا إلى شفرة واحدة كانت في صلب أبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه، ويبطل أي ادعاء بوجود أربع آباء للبشرية كما يزعم المدعون.



(*)الكون والقرآن، محمد علي حسن الحلي، مرجع سابق.

[1]. الأجناس البشرية، مقال بموقع: الموسوعة العربية العالمية www.mawsoah.net. وانظر: )وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)((الروم)، صبحي رمضان فرج، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي www.quran-m.com.

[2]. الهندسة الوراثية بين معطيات العلم وضوابط الشرع، د. إياد أحمد إبراهيم، مرجع سابق، ص17- 19.

[3]. انظر: العصر الجينومي، د. موسى خلف، مرجع سابق، ص22: 31.

[4]. الموسوعة الكونية الكبرى:آيات الله في خلق الإنسان وبعثه وحسابه، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج14، ص82- 83.

[5]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: فضل اليمن، (10/ 317)، رقم (4215). وحسَّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3956).