يَرِد ذِكرُ قرحة المعدة Gastric ulcer في قائمة أكثر أمراض جهاز الهضم في جسم الإنسان ذيوعًا وخطورة، وحتى نسبر أغوار هذا الداء؛ يجب أن نحيطَ علمًا ببعض المعلومات التي تخصُّ معدة الإنسان، وما يعتريها من تغيُّرات مَرَضية تشهدها ساحتُها أثناء حدوث ذاك المرض.عندما يتناول الإنسان طعامه، تتولى الأسنان عملية تقطيعه إلى جزيئات صغيرة، تعبُر الفم باتجاه البلعوم، الذي يسمح بمرور هذه الجزيئات نحو المريء، وهو قناة عضلية تنقُل الطعام الذي سيستقرُّ بعدها في المعدة.وقد وهب الله - سبحانه وتعالى - تلك المعدةَ مقدرةً واضحة على التمدُّد، وهذا يمكِّنها من احتواء ما يصلها من جزيئات الطعام.وتستمرُّ رحلة قافلة جزيئات الطعام، فتدفعها المعدة بحركاتٍ عضلية خاصة، في صورة دفعات متتاليات، تصِلُ بعدها إلى الاثني عشر، وهو الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة.ويستمرُّ مسلسل سَيْر الطعام هذا عبر تلك الأمعاء، ليصل بعدها إلى الأمعاء الغليظة، ويُطرح أخيرًا باقي الغذاء المهضوم إلى خارج الجسم عبر فتحة الشَّرَج.وفي أثناء سير جزيئات الطعام عبر أجزاء الجهاز الهضميِّ المختلفة، يتوالى حدوثُ عمليات امتصاص الخلايا لِما تحتاجه من مواد الغذاء الهامة، التي تبني الجسم، وتمدُّه بالطاقة التي تلزمه لإعمار هذا الكون، ودفع عجلة الحياة فيه.حقائق تخص معدة الإنسان:للمعدة في جسم الإنسان وظائفُها الهامة؛ فهي مستودع يقوم بتخزين ما نتناوله من جزيئات الطعام، ولها في أجسامنا سَعةُ تخزين كبيرة، تصل إلى لِتْرَين تقريبًا لدى جسم الإنسان البالغ.وعندما يستقرُّ الغذاء المتناوَل في المعدة، تبدأ غُدَدُها في إفراز عصاراتها الهاضمة، التي يظهر أثرُها في هضم ما يحمله الغذاء من البروتينات، ويقوم إنزيم يعرف باسم (ببسين) Pepsin بتكسير تلك المواد البروتينية، وتحويلها إلى موادَّ ذاتِ وزن جزيئي أصغر، تُعرف بالأحماض الأمينية، التي يمكن للجسم الإفادة منها، ببناء أنسجته وما يتلف من خلاياه المختلفة.وتفرز المعدة أيضًا موادَّ أخرى تساعد في هضم ما يصلها من الغذاء، ومن ذلك إفراز حامض الهيدروكلوريك HCL، ذي الأثر الحارق في جدار المعدة.وثمة غُدَد خاصة في جزء المعدة المعروف بالبواب، تفرز مادة مخاطية، تتجمَّع في صورة طبقة تحمي جدارَ المعدة من تأثيرات إفرازاتها الهاضمة، ولولا فطرةُ الله التي سخَّرت لنا تلك الطبقة، لهُضمتِ المعدةُ تحت تأثير ما تفرزه من موادَّ كاوية وحارقة.ومن الوسائل الأخرى التي تحمي بها المعدة نفسها: إفرازُها لمادة البيكربونات Bicarbonate التي تُسهم في تعديل حمض المعدة، والتقليل من حدَّته.ما قرحة المعدة؟تظهر قرحة المعدة في جدارها الداخليِّ، وينتج ذلك عن اجتماع عدة عوامل، يأتي على رأسها زيادةُ إفراز حامض المعدة، وتعرُّضُ جدارها المستمر إلى هجومه الكاسح، بالإضافة إلى ضعف طبقة المعدة المخاطية، وفشلها في تأمين الحماية اللازمة.ويمكن لنا القول باختصار: إنَّ فقدان التوازن الفسيولوجي بين ما تفرزه المعدة من جهة، وكفاءة جدارها المخاطي من جهة أخرى، هو سبب ظهور تقرُّحات المعدة.وبمرور الوقت، يظهر الأثرُ التخريبي في جدار المعدة، ويتآكل سطحُها، وتظهر فيها قرحةٌ بيضاوية أو دائرية، تمتد نحو الأسفل، وتتراوح أبعادُها في العادة بين ملليمتر واحد وملليمترين.أسباب ظهور قرحة المعدة:عرفنا الآن أنَّ أي سبب يقود إلى زيادة الإفرازات الحمضية، أو التقليل من درجة الحماية التي تؤمِّنُها طبقة المعدة المخاطية - يؤدِّي إلى نشأة قرحة الجهاز الهضمي.ومما ثبت من أسباب ذلك في هذا المجال: الاضطرابات النفسية، والقلق الدائم، وتمَّ الكشفُ عن وجودِ علاقة رابطة بين استمرار القلق من جهة، وزيادة إفراز حمض المعدة، وقلَّة تصنيعها لمادتَي المخاط والبيكربونات من جهة أحرى، ونتيجة لذلك تغدو جدرانُ المعدة هشَّةً ورقيقة، ويتوالى نضوب الطبقة المخاطية التي تقلُّ تدريجيًّا، إلى أن ينجح الحمض في إصابة المعدة بالقرحة.وللوراثة دور هام ومثبت في ظهور حالات مَرَضية جديدة في العائلات المصابة بقرحة المعدة، ويعود ذلك إلى تأثُّر إفراز المعدة بعامل الوراثة؛ إذ تميل معدة الطفل المصاب هنا إلى إفراز كميات زائدة من الحمض، ويشبه فعلها بذلك فعل معدة أحد الوالدين.وثمة بعض الأدوية التي تزيد من إفراز حامض المعدة، وتعمل على تحطيم الحاجز الميكانيكي الذي يَقِيها، ولبعض الأدوية الأخرى تأثيرات جانبية، تقلُّ بسببها مادة: "البيكربونات" في المعدة، وينتج عن ذلك كلِّه زيادةُ تركيز الحامض، ومهاجمته لجدار المعدة الذي يُظهر التقرُّحَ لاحقًا.ويأتي الأسبرين وما يعرف بمجوعة مضادات الالتهاب غير الإسترويديةNSAID (مثل عقارَي: بروفين وفولتارين) على رأس قائمة الأدوية المتهمة في هذا المجال، وعليه يجب توخِّي الحيطة عند تعاطيها، والحرص على تناولها بعد الطعام؛ لأنَّ طعام المعدة ذاك يخفف من تأثير الحامض المباشر في جدارها.وللتدخين وتعاطي الخمور أيضًا دور في زيادة معدل إفراز حمض المعدة، وبالتالي ظهور قرحاتها، كما تكثر لِذاتِ السبب تلك القرحاتُ عند إصابة الجسم ببعض الأمراض الحادة؛ كالحروق، وكسور العظام البليغة، وغيرها من الأمراض المنهكة للجسم.وتظهر قرحة المعدة في كثير من الحالات نتيجةَ تكاثُرِ نوع من البكتيريا، يعرف باسم "Helicobacter pylori"، وهي بكتريا فريدة من نوعها؛ إذ تستطيع أن تحيا في المعدة رغم وسطها الحمضيِّ المرتفع، وهي بذلك تمتاز عن غيرها من الأحياء الدقيقة التي تقتلها تلك الحموضةُ العالية، ويتمُّ تأكيد الإصابة هنا، بزراعة دم المريض في المعمل، ومشاهدة تلك البكتريا تحت عدسة المجهر.المظاهر المَرَضية لقرحة المعدة:يصاب حول العالم بقرحة الجهاز الهضمي قرابةُ ثلاثة أشخاص من بين كل ألف منهم، وتفيد الدراسات أن نسبة الرجال المصابين تبلغ ثلاثة أضعاف ما هي عليه لدى النساء، وتظهر معظم حالات الإصابة لدى الرجال فوق سن الأربعين.تبدأ مشكلات قرحة المعدة في العادة بالشكوى من ألَمٍ في الجزء العلوي للبطن، وما يميِّز هذا الألمَ هو ظهورُه بعد الأكل مباشرة، ويعود هذا إلى زيادة مستوى حمض المعدة؛ نتيجة امتلائها بالطعام؛ مما يقود إلى حدوثِ تماسٍّ مباشر بين جزيئات الحمض ونسيج القرحة، وهو ما يفسِّر الشعورَ بالألم والحرقة.وقد يحدث أن يترافق ألَمُ البطن ذاك مع ألَمِ الظهر في بعض الأحيان، ومع الشعور بالغثيان والإصابة بالقيء.الشيء الآخر الذي يميِّز ألَمَ البطن هنا أيضًا، هو ظهوره في صورة نوبات تستمر عدة أسابيع، ثم تختفي بعدها، ليعود المريض إلى وضعه الطبيعي، ثم تبدأ دورة جديدة من الألَمِ من جديد.ويخفف التقيؤ في العادة من حدة ألم القرحة، وينتج الأثرُ ذاته عن شرب الحليب؛ إذ يشعر المريض بالراحة بعده، وسبب ذلك ما للحليب من خواصَّ تعاكس التأثير الحمضي.تشهد بعض حالات قرحة المعدة حدوثَ نزيفٍ يظهر فيه الدمُ مع سائل القيء، وتبدو محتويات القيء هنا بُنيَّةَ اللون؛ وذلك لامتزاجها مع عصارات المعدة ومفرزاتها، ومن الممكن أحيانًا أن يسبِّب النزيف الشديد فقرَ دم يُدخل المريضَ في مضاعفات خطيرة، وقد يختلط الدم أحيانًا مع براز المريض، فيكسبه لونًا أسودَ مميزًا.وتقود العديد من حالات إهمال قرحة المعدة إلى انثقابها، وهو من المضاعفات الخطيرة للقُرْحة، وتظهر هنا فتحة في جدار المعدة، تعبر خلالها محتوياتُها من جزيئات الطعام والشراب نحو تجويف البطن، وهي حالة إسعافية، تستدعي سرعة إدخال المريض إلى المستشفى، وتقديم العلاج اللازم له.تشخيص قرحة المعدة:تعطي قرحةُ المعدة في الغالب صورةً مَرَضية واضحة المعالم، ويسهل بذلك وضعُ تشخيص مبدئي تدعمه بعض الفحوصات التشخيصية التي تؤكِّدُ الإصابة بالمرض.وثمة بعض الاختبارات التي تكشف عن حموضة المعدة، ومن ذلك: إدخال أنبوب خاص يصل إلى المعدة عبر الفم، ويتم من خلاله أخذ عيِّنات من محتوى المعدة؛ لقياس نسبة الحموضة، التي ترتفع بشكل واضح في حالات قرحة المعدة؛ كما ذكرنا سابقًا.وقد أفاد الأطباء أيضًا من استخدام الأشعة السينية والمواد المشعة في هذا المجال، وهنا يبتلع المريضُ مادة تعرف بالباريوم، تقوم بإظهار أجزاء المعدة المختلفة، وتبرز القرحة هنا في جدار المعدة بعد أن تملأَها المادةُ المشعة، بينما تظهر أجزاءُ المعدة السليمة على نحو طبيعي.ومن وسائل التشخيص الهامة أيضًا: استخدام منظار الجهاز الهضمي، وهو أنبوبٌ مَرِن يُدخِله الطبيب عبر فمِ المريض حتى يصل إلى معدته، فيتم سبرُها وكشفُ ما أصابها من تقرُّحات، يحدد موقعها وحجمها وشكلها.ويعدُّ تحليلُ الدم أيضًا وسيلةً تشخيصية أخرى، ويظهر إصابة المريض بفقر الدم، ويعود ذلك إلى فقْد الدم خلال التقيؤ، أو مصحوبًا مع براز المريض، كما يُظهر تحليلُ الدم أيضًا تكاثرَ البكتريا التي سبق حديثُنا عنها في الكثير من الحالات.معالجة تقرحات المعدة:يعتمد برنامج علاج قرحة المعدة الناجح على تعاون المريض والطبيب؛ ولهذا البرنامج محاورُ عدة، تضمُّ الجانبَ الغذائي والدوائي والجراحي، بالإضافة إلى تعزيز الحالة النفسية للمريض، والالتزام بالراحة، وتجنب الكحول والتدخين.وفيما يخصُّ الجانبَ الغذائي، يُذكر الإكثار من شرب السوائل، وتناول وجبات خفيفة، وتجنب الأغذية الجافة وذات القوام الصلب، والإكثار من تناول الحليب ومشتقاته، ويسهم ذلك كله في التخفيف من حموضة المعدة، وبالتالي التخفيف من تأثير الأحماض في جدارها.وتعمل الأدوية المعالجة لقرحة المعدة على معادلة أثر الحمض والتخفيف من حدته، كما أنَّ لها أثرًا في تقوية الطبقة المخاطية، ويعدُّ دواء Cimetidineمن أشهر الأدوية المستعملة هنا، وقد أدى ظهوره إلى إحداث ثورة هائلة في علاج حالات القرحة.ومن الأدوية الأخرى المخفِّفة لحموضة المعدة، والمعزِّزة لطبقتها المخاطية، نذكر كلاًّ من (مغنسيوم هيدروكسيد) و(ألمنيوم هيدروكسيد).وثمة أدوية تعمل على تعزيز طبقة المعدة المخاطية وتقوية أثرها؛ ممَّا يُسهم في صدِّ هجمات الحمض، ومن ذلك دواء Bismuth، الذي يكوِّنُ طبقة إضافية تبطِّنُ جدارَ المعدة الداخلي.أما دواء Sucralfat ، فيزيد من إفراز مادة المخاط، وتكوين مادة البيكربونات، المعاكستين لتأثير حمض المعدة.وقد يلجأ بعض الأطباء في حالات القرحة الشديدة إلى وصف الأدوية النفسية؛ تخفيفًا من حدة القلق والتوتر، اللذين يؤخران شفاءَ الكثير من الحالات المستعصية.وقد لا تستجيب أحيانًا بعضُ حالات قرحة المعدة للمعالَجة الدوائية، فتزداد الحالة سوءًا، وتزداد حدة الأعراض، وقد تتهدَّد هنا حياة المريض، فيغدو الحلُّ الجراحيُّ حينها الطرحَ الوحيد في ساحة المعالجة.ومن تلك الحالات التي تستدعي تدخُّلاً جراحيًّا: الإصابة بالنزيف المتكرر، وظهور ما يُعرف بتليف القرحة الذي يسبِّب انسدادَ المعدة، وانثقاب القرحة، واستمرار الألم بصورة غير محتملة.وثمة خيارات جراحية عديدة، تختلف وَفْقًا لاختلاف الحالة المَرَضية؛ فمن ذلك إجراء جراحة يتمُّ فيها استئصال نسيج القرحة، بالإضافة إلى الجزء المفرز للمادة الحمضية، وتعرف بعملية (بيلورث) Billorth، وهي ذات نتائج ممتازة.ومن العمليات الأخرى في هذا المجال: استئصال العصب المبهم Vagus nerve، ويؤدي هذا إلى قلة إفرازِ حمض المعدة بصورة ملحوظة.ويبقى أخيرًا التشخيصُ المبكِّر وعدمُ إهمال الحالة المَرَضية، حجَرَي الأساس، في برنامج العلاج الناجح في غالب حالات قرحة المعدة.