في التَّشريع الإسلامي طائفة من الأوامر والإرشادات المتعلقة بِهذا الجانب المؤثر - بالتَّأكيد - في صحة الإنسان "سلبًا وإيجابًا" - كما سيتَّضِحُ من مُجْمَل هذه الدِّراسة - ونذكر من هذه التَّوجيهات الإسلاميَّة ما يلي:

1- نظافة البدن: بوجوب الغسل بعد الجِماع، ولو بدون إنزال، وعقب نزول المني بِجماع، أو احتلام، ثمَّ عند انقطاع دم الحيض والنفاس، هذا فضلاً عن الأغسال المستحبَّة أو المسنونة في مناسبات، ولأسباب معينة - كما قرَّر الجمهور من الفقهاء[5] - وذلك كغسل الجمعة، والعيدين، ويوم عرفة، والغسل من غسل الميت.

ثُمَّ هُناك وجوب الاستِنْجاء بعد البَوْلِ والغائط، والوضوء للصَّلاة، وهذه كلُّها من مُقتَضَيَات الصِّحَّة الجسديَّة، وكذلك عدم إتيان النساء في المحيض، إلى جانب تحريم الزنا واللواطة والشذوذ[6]، وطبعًا في كلِّ هذه المسائل المتقدِّمة نصوصٌ صريحةٌ وقاطعة، سواء من القرآن، أوِ السنَّة المطهَّرة مِمَّا لا يتَّسع المجال لذِكْر طرف منها، مكتفيًا بِما سَيَرِدُ تباعًا في البحث.

ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الإسلام لا يكتفي بالاستِحْمام (عند وجود دواعي الغسل)؛ كسبيلٍ لِنَظافة الجسم؛ بل إنَّه يأْمُر بإزالة كلِّ ما يُمْكِن أن تتجمَّع تَحتَهُ، أو تعلق به قذارة أو ميكروبات في جسمه، وذلك كالأوامر المتعلقة بالاستحداد، أي إزالة شعر الإبط والعانة، وكذا الختان، وتقليم الأظافر، وقص الشَّارب، والسواك[7].

2- نظافة الأيدي والأقدام: فالأيدي من أهم الأعضاء التي تنقل المرض عند السَّلام على المريض، أو عند نقل طعام مُلَوَّث، أو زبالة، أو حتَّى بعد الذهاب إلى الغائط عندما يكون الشَّخص نفسه مريضًا؛ فبعض الديدان[8] تنتقل من نفس الشَّخص المصاب - عند التَّبرز - إلى فمه، حين يتناول شيئًا من طعام، أو غيره إذا لم يغسل يديه جيدًا؛ ومن ثمَّ فقد عني الإسلام بنظافة الأيدي؛ فأمر بقص الأظافر وتنظيفها، وعقد الأصابع ومعاطفها، وما أبلغ دلالة الحديث النَّبوي: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده))[9]، فقد يحك النائم بيديه قدمه، أو أنفه، أو بين فخذيه.

هذا؛ ونظافة الأقدام يسري عليها ما يسري على اليدين، ومن السنَّة تخليل ما بين أصابع اليدين والقدمين، سواء في الوضوء أو في الغسل.

3- نظافة الفم والأسنان والأنف: وأعتقد أنَّ كلَّ مسلم يعرف أنَّ المضمضة والاستنشاق، فالاستنثار - أيضًا الاستياك - من سنن الوضوء؛ بل من موجباته عند بعض الفقهاء.

والمضمضة - باختصار -: أن يجعل الماء في فيه، ثم يديره أو يحركه، ثم يمجه.

والاستنشاق: إدخال الماء في أنفه، والاستنثار: إخراجه منه منتثرًا أو متفرقًا، سواء كان الاستنشاق باليد اليمنى، والاستنثار باليسرى، أو كلاهما بيد واحدة.

أمَّا الاستياك فيطلق على دَلْك الأسنان بعود الأراك ونحوه - من كل خشن - ليذهب الصُّفرة وبقايا الطعام وغيرهما عنها، وهو مُسْتَحَبٌّ في جميع الأوقات؛ لكنه أشد استحبابًا في خمسة أوقات، عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند الاستيقاظ من النَّوم، وعند تغير رائحة الفم[10].

والنصوص في كل ما سبق أكثر من أن تحصى؛ لكن حسبي أن أرشد إلى المغزى الطبي الخطير من نظافة الفم والإسنان؛ فإنَّ بقايا الطعام إذا تُرِكت في الفم فإنها تنتنه، وإذا دخلت بين الأسنان حملت معها الالتهابات وفسدت؛ فلا يجوز بلعها، وإذا تركت سبَّبت الرَّوائح الكريهة وتسوس الأسنان.

ولذلك يذكر العلماء من فوائد السلوك، وهي كثيرة جدًّا - أنَّه يطهر الفم، ويرضي الرَّب، ويبيض الأسنان، ويطيب النَّكهة، ويسوي الظَّهر، ويشد اللثة، ويقوي على الهضم، ويدر البول، ويبطئ الشيب، ويصفي الخلقة، ويزكي الفطنة، ويسهل خروج الروح[11].

أمَّا بخصوص نظافة الأنف: فاعلم أنَّ معظم الميكروبات التي تنتقل إلى الإنسان بالرَّذاذ، مثل: الأنفلونزا، وشلل الأطفال، والدفتريا، وكثير غيرها يصل الميكروب إلى الأنف والحلق أولاً، ومن هناك ينتقل على داخل الجسم فيصيبه بالمرض، وهذا الغسيل المتكرر لهما (الحلق والأنف) - في الوضوء - يجرف معه تلك الميكروبات إلى الخارج، ويقي الإنسان منَ المرض[12].

4- نظافة الشَّعر والملابس: فالإسلام لا يكتفي بالغسل المتكرر في نظافة الرَّأس؛ بل يأمر أيضًا بالعناية بالشَّعر غسلاً، وتسريحًا، وتعطيرًا، فهو "خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان"[13]، وفي الحديث الصَّحيح: ((من كان له شعر فليكرمه))[14].

ومن روائع التَّشريع الإسلامي كذلك أنَّه يشترط لصحَّة الصَّلاة طهارة البدن، والثَّوب، والمكان؛ فلا يقبل من المسلم صلاة ولا وضوء إذا كان بثوبه قذارة، أو نجاسة وهو يعلم، ويلزمه بإزالتها، وإزالة رائحتها، ولونها، أو أثرها - ما أمكن - ولو بغسل الثَّوب عدَّة مرَّات.

5- نظافة الطَّعام والشَّراب: وعن عناية الإسلام بهذا المجال حَدِّث ما شئت؛ فلقد بلغت توجيهاته - في هذا المقام - درجة عظيمة من الدقَّة العلميَّة، فضلاً عن اشتمالها على الكثير من الحقائق العلميَّة والطبيَّة التي لم تكتشف إلاَّ في عصرنا الحديث، مع أنَّه ترجع إلى ما يزيد على أربعة عشر قرنًا، وحسبُنَا أن نقرِّر الآتي:

أ- أنَّ الإسلام يأمر أتباعَه بأن يغطوا إناء الطَّعام، وأن يسدوا وعاء الماء، فلا يتركوه مكشوفًا للأتربة، والذُّباب، والميكروبات، ففي حديث جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أغلقوا الباب، وأوكوا السقاء، وأكفئوا - أو خمروا - الإناء، وأطفئوا المصباح؛ فإنَّ الشَّيطان لا يفتح غلقًا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف إناء، وإن الفويسقة تضرم على النَّاس بيتهم))[15].

ولنا إزاء هذا وقفة تأمُّل، فنقول:
من الحقائق التي لم تكن معروفة إلاَّ بعد اكتشاف "الميكروسكوب" و"الميكروب"، وطرق انتقال العدوى - أنَّ بعض الأمراض المُعدية تنتقل بالرَّذاذ عن طريق الجو المحمَّل بالغبار - أي الذر - وأنَّ الميكروب يتعلَّق بذرات الغبار عندما تحملها الريح، فيصل بذلك من المريض إلى السليم عن طريق فمه، وأنفه، وآنية طعامه وشرابه.

ومن هذه الحقائق أيضًا أنَّ الأمراض المُعدية تسري في مواسم معيَّنة منَ السَّنة؛ بل إنَّ بعضها يظهر كل عدد معيَّن من السَّنوات، وحسب نظام دقيق، لا يُعْرَف تعليله حتى الآن.

ومن أمثلة ذلك أنَّ الحصبة وشلل الأطفال تكثر في سبتمبر وأكتوبر، والتَّيفود يكثر في الصيف، أمَّا الكوليرا فإنَّها تأخذ دورة كل سبع سنوات، والجُدَري كل ثلاث سنوات تقريبًا.

وكم نتمنَّى أن يلزم الباعة المتجوِّلون، ومحلات البقالة، والخضر، والفاكهة، وجميع المطاعم بأن يكتبوا هذه الأحاديث في لوحة كبيرة تعلق داخل متاجرهم؛ لكي تذكرهم بتغطية الأطعمة والأشربة من الذباب، أو وضعها داخل عارضات زجاجيَّة مغلقة غلقًا جيدًا، وأن يعتبروا ذلك من أوامر الدين، قبل أن تكون من أوامر وزارة الصحَّة وقسم الطب الوقائي... وما إلى ذلك.

فنحن لو نفَّذنا أوامر ديننا الحنيف وحدها لكفانا ذلك نقد الأوربيين الذين أصبحوا يعتقدون أنَّ الزبالة والذباب، في شوارعنا ومحال الطعام هما جزء من ديننا[16]... وحاشاه ذلك.

ب - كما يحرص الإسلام على نظافة أواني الطَّعام والشَّراب قبل وضع الطَّعام فيها، أو بعد استعمالها، فأمَّا قبل وَضْع شيء فيها فلضمان طهارتها، وخلوها من أي ميكروبات، وأمَّا بعد وضع شيء فيها فلإزالة بقايا الطعام، وهي التي سرعان ما تفسد ويختبئ فيها الميكروب.

ولذلك وجدنا - مثلاً - من هديه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرَّات إحداهنَّ بالتُّراب))، أو كما قال[17].

ولقد اكتشف العلماء في العصر الحاضر - كما أثبتت الأبحاث الطبيَّة فعلاً - أثر التراب الفعَّال في قتل وإزالة الميكروبات والجراثيم التي تكون في لُعَاب الكلب[18].

ويُبَيِّن أحد العُلماء المحدثين مدى الحكمة والرَّحمة بالمؤمنين في هذا الحديث بقوله: والعدد المقصود بالسبعة إنَّما هو لتحقيق تَكرار الغسل، وأمَّا التراب فهو أقرب المواد المنظفة للإنسان وأيسرها، وهي بلا مقابل، وذلك حتى لا يتأخر إنسان في غسل إنائه إذا ولغ فيه الكلب انتظارًا لتوفُّر المنظف، أو ما يشابهه.


ولا شكَّ أنَّ العلم الحديث قد أوضح أن لعاب الكلب يحمل من الميكروبات والجراثيم كميات لا تخطر على بال؛ ولعل ذلك يرجع إلى دوام شم الكلب ما على الأرض بما يحمله من جراثيم، خصوصًا القمامة، والفَضَلات بأشكالها، وأيضًا لدوام فتح فمه، فهو لا يغلقه أبدًا - إلا عند النوم - مما يعرضه أكثر للميكروبات.

أمَّا أخطر من ذلك كله فهو مرض الكلب، الذي ينقله الكلب للإنسان وهو أخطر الأمراض وأكثرها فتكًا بمن تصيبه، ولا ينتقل بالعَضّ فقط - كما كان يظن - بل إنَّ ميكروبه في لعابه، وقد ينقله للإنسان عن طريق إفرازه اللعابي فقط دون العض، ولذلك فإنَّ الوقاية من هذا المرض - وغيره من الأمراض التي تنتقل عن لعاب الكلب - هي بغسل كل ما يلعقه، أو يقترب منه لعابه غسلاً جيدًا، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ بتكرار الغسل، وباستعمال مطهر أرخصه وأكثره توافرًا هو التراب، وذلك علاوة على أنَّ البحث العلمي قد أثبت أنَّ التراب له خاصية التَّغلب على ميكروب الكلب.

وهكذا يسبق الحديث كل ما وصل إليه العلم في آخر أبحاثه بأربعة عشر قرنًا من الزمان[19]، وبطبيعة الحال فإنَّ هناك موادَّ أخرى نَجِسَة يجب غسل الأواني وغيرها منها.

ج - أمَّا بِخُصوص نظافة الشَّراب، فاعلم أنَّ الإسلام قد اهتمَّ بنظافة الماء والحليب، وسائر أنواع الشراب المباح شرعًا، فوضع شروطًا دقيقة لطهارته، كما كانت له إرشادات سامية في كيفيَّة الشرب وتبادُلِه، ونذكر من هذه وتلك ما يأتي:

أولاً: أنَّ الفقهاء أجمعوا على أنَّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت له طعمًا، أو لونًا، أو رائحةً، فإنَّه يتنجَّس، ولا يجوز استعماله في شراب أو طهارة[20].

ثانيًا: أنَّ الشَّراب المباح في أصْلِه إذا تخمَّر أصبح نجسًا عند جمهور الفقهاء[21]، فلا يجوز شربه، لورود النَّهي في القُرآن والسنَّة عن شُرب كل مُسْكِر ومفتر.

ثالثًا: نَهَى الإسلام أن يضعوا أفواههم على مصدر الشَّراب، ففي حديث لأبي هُريْرة، وابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنِ الشرب من في - أي: فم - السقاء، وفي حديث السيدة عائشة - رضي الله عنها - زيادة: ((لأنَّ ذلك ينتنه))، أمَّا رواية أبي سعيد ففيها: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية"، أن يشرب من أفواهها، وفي رواية: ((واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه))[22].

وسواء كان النَّهي للتَّحريم أو للكراهة، فالمُهِمّ أنَّ لذلك دلالة صحيَّة وقائيَّة؛ حيث إنَّ كثيرًا منَ الأمراض - كما هو مَعْلوم - ينتقل بهذه الوسيلة منَ المريض إلى السَّليم عن طريق اللعاب، والشَّفتين، ومن هذه الأمراض: الإنفلونزا، والدفتريا، والسَّيَلان، والزُّهري، والإيدز، وغيرها كثير.

رابعًا: ويُلاحظ - كذلك - ما ورد في السنَّة الصَّحيحة من نَهْي صريح عنِ التَّنفس أوِ النَّفخ في الإناء - وهو يشرب منه[23]؛ لئلاَّ يخرج من الفم بُزَاق أو لُعَاب - يستقذره من شرب بعده منه، أو تحصل فيه رائحة كَريهة تتعلَّق بالماء، أو بالإناء[24].

ولأنَّ بعض الميكروبات قد تنتقل مع النَّفَس، وتعيش في السَّوائل أكثر مما تعيش في الهواء الخانق[25].

6- نظافة موارد المياه، مثل: الأنهار، والآبار، والبِحار، والعناية بشواطئها، فكما كانت للإسلام توجيهات في نظافة الشَّوارع، والطُّرقات، والبُيُوت - لا غَرْو أن يُنبِّه بشدَّة على عدم تلويثِ مصادر المياه، التي تستعمل للغسيل، والشُّرب... أو غير ذلك، ثمَّ هو قد نهى عنِ التَّخلي - أي التَّغوط، وهو التَّبرز - في طريق الناس، وفي ظلهم، ومنع إلقاء الزبالة، أو النجاسة فيها، وحرَّم التَّبول، أو التبرز فيها، واعتبر ذلك مجلبة للطَّرد من - رحمه الله تعالى - يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اتَّقوا اللاَّعنين))، قالوا: "وما اللاَّعنان يا رسول الله؟!"، قال: ((الذي يتخلَّى في طريق النَّاس أو في ظلهم))، وفي رواية: ((وأفنيتهم أو مجالسهم)).

ورُوِي أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتَّقوا الملاعن الثَّلاث: البُراز في الموارد، وقارعة الطَّريق، والظِّل))[26].

ثم هو - صلى الله عليه وسلم - قد ((نهى أن يُبال في الماء الرَّاكد))، أوِ الدَّائم الذي لا يجري، وقال أيضًا: ((لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم ثمَّ يغتسل منه))[27].

وهو - عليه السَّلام - الَّذي اعتبر البُصاق في المسجد خطيئة[28]، ولعلَّ الحِكْمة من ذلك أنَّ البُصاق قد يكون مشتَمِلاً على ميكروب مُعْدٍ - كميكروب السُّل – ((الظاهر أنه لتوقير المسجد)) فتنقله الريح إلى السَّليم، ورغم أنَّ الحديث خصَّ أرض المسجد بالذِّكر فهو يعم طُرق المسلمين جميعًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((جُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا، وتُربتُها طهورًا))[29]، وقد جزم النَّووي بالمنع - أي منع البُصَاق - في كل حالة؛ داخل الصلاة وخارجها، سواء كان في المسجد أو غيره[30].

وإذا كانت تلك الأحاديث - وما في معناها - من مكارم الأخلاق تحث على النَّظافة، وتحرم مثلاً "التَّخلي في طريق النَّاس وظلهم؛ لِمَا فيه من أَذِيَّة المسلمين بتنجيس من يمر به، ونتنته، واستقذاره))[31]، فإنَّ كثيرًا من الأوبئة مثل: الكُولِيرَا، والتَّيفود، وشلل الأطفال، والْتِهاب الكبد المُعدي، قد تنتقل بالماء وتعيش فيه، وإنَّ البلهارسيا تنتقل إلى الماء - عند التَّبوُّل فيه - وبعد أن تتطوَّر في الماء تنتقل إلى من يستحم أو يشرب منه، أمَّا الإنكلستوما فإنَّها تخرج مع البُراز وتعيش في الطِّين قُرْب الشَّاطئ إلى أن تصل إلى جسم السَّليم[32].

وقد أصبح معلومًا أنَّ من أهم أسباب حِرْص الطِّب على النَّظافة هو مَنْع توالد - أو تكاثر - الحشرات النَّاقلة لميكروبات الأمراض؛ كالذباب، والصرصار، والبرغوث، والقَمْل، والنَّاموس، أوِ البعوض؛ وكذلك منع الإنسان من نقل الميكروبات في بيته أو أدوات الطعام من المريض إلى السليم[33].

ونُضيف إلى ذلك أنَّ الطِّبَّ الوقائي يعتمد أساسًا في منع الأمراض على عاملينِ، أحدهما: التَّوعية الصحيَّة؛ أي: النَّظافة والسلوك الصِّحي، وثانيها: حملات التَّطعيم الشَّاملة.

وبرغم تطور الطب الحديث ورغم الاكتشافات الهائلة التي توصَّلت إليها الإنسانيَّة في هذا التَّطعيم الوَاقي من الأمراض، وما أنفقَتْه من ملايين (الدولارات) في هذا المجال، فما زال الوَعي الصِّحي، والنَّظافة في المقام الأَوَّل من حيث الفاعليَّة في الوقاية من معظم الأوبئة؛ بل إنَّها في معظم الأمراض تغني عنِ التَّطعيم.

وترجع أهميَّة النَّظافة (بشكل عام) في عصرنا إلى عدَّة أسباب:

منها: أنَّ النظافة - وحدها - تغني عنِ التَّطعيم في منع كثير من الأمراض الوافدة، مثل: الكوليرا، والتَّيفود، والحُمَّى الصفراء، ومنع انتشارها إذا دخلت، وجميع البلاد المُتطَوِّرة لا تلزم مواطنيها بالتَّطعيم العام من هذه الأمراض؛ إلاَّ عندما يسافرون إلى بلد متخلِّف لا تتوافر فيه النظافة، وتتوطن فيه الأمراض.

ومنها: أنَّ التَّطعيم العامَّ باهظ التَّكاليف أوِ النَّفقات، ولا يخلو منَ الأخطار والمُضاعَفات في بعض الأحيان؛ كما أنَّ كلَّ طعم معيّن يؤثّر أساسًا على مرض معيَّن، أمَّا النَّظافة فهي وقاية من كل الأوبئة مجتمعة.

ومنها: أنَّه رغم التَّطورات العلميَّة الحديثة، فهناك بعض الأوبئة والحميات والأمراض لم يتوصَّل الطب - حتَّى الآن - إلى تطعيم معين ضدها، مثل التهاب الكبد المعدي، والدوسنتاريا، والبلهارسيا... وغيرها كثير، كما أنَّ بعض الطعوم المعروفة، كطعم الكوليرا غير أكيدة الفاعليَّة في الوقاية من المرض، مما جعل الهيئات الصحيَّة تفكر في إلغائها.

من هذا كلِّه نرى أنَّ النَّظافة والوَعْي الصحِّيَّ ما زالت العامل الأوَّل والرَّئيس في مكافحة المرض في جميع بلاد العالم، سواء منها المتطورة أم المختلِّفة[34].

المطب الثاني: منع العدوى


فالتَّشريع الإسلامي يُحَرِّض على عدم نقل العَدْوى، ويسد كل الطُّرق المؤدية لها، والشَّواهد على ذلك كثيرة، نذكر بعضها على سبيل الاستدلال، فيها يلي:

1- أنَّ المريض بمرضٍ مُعد لا يجوز له في الإسلام أن يدخل على الأصِحَّاء، والسليم لا يدخل على مريض كهذا[35]، وكأنِّي بالإسلام يضع قواعد (الحجر الصِّحِّي)، أو عَزْل المريض فيما يشبه الدستور الدَّائم للأمَّة الإسلاميَّة، وذلك واضِح من نصوص السنَّة الصَّحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في مرض الطَّاعون - وهو منَ الأمراض المُعدية -: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه))[36]، وفي الحديث أيضًا: ((لا يحل الممرض على المصح))[37]، و((فِر من المجذوم كما تفر من الأسد))[38]؛ بل إنَّ الإسلام ليعتبر من يكون في منطقة موبوءة بمرض مُعدٍ ولا يخرج منها؛ التزامًا بهذا التَّوجيه النَّبوي - مثل الشَّهيد في الأجر، متى كان صابرًا محتسبًا، حيث يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ليس من عبد يقع الطَّاعون فيمكث في بلده صابرًا، يعلم أنَّه لن يصيبه إلاَّ ما كتب الله له، إلاَّ كان له مثل أجر الشَّهيد))[39].

فإذا قيل: إنَّ هذه الأحاديث السَّابقة تتعارض مع حديث: ((لا عَدْوى، ولا طيرة))[40]، وما في معناه.

فالجواب: أنَّه ليس في هذا اختلاف ولا تناقُض، فلكلٍّ منها وقت وموضع، فإذا وضع موضعه زال الاختلاف، وقيل: بل الخطاب بهذينِ الخِطابينِ جزئي لا كُلي، فكل واحد خاطبه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بحاله؛ فبعض النَّاس يكون قوي الإيمان قوي التَّوكل، تدفع قوة توكله قوة العَدْوى؛ كما تدفع قوة الطَّبيعة قوَّة العلَّة فتبطلها، وبعض النَّاس لا يقوى على ذلك فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتَّحَفُّظ، وقيل: إنَّ الجاهليَّة كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النَّبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادهم ذلك، مبينًا أنَّ الله تعالى هو الذي يمرض ويشفي، وأنَّ الأسباب لا تستقلّ بشيء؛ بل الرَّب سبحانه إن شاء سَلَبَها قُواها فلا تؤثّر شيئًا، وإنْ شاء أبقى عليها قواها فأثَّرت، وقيل: الأوَّل: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم[41].

وقد يقال: إنَّ الخوف منَ العَدْوى يعني ضَعْف الإيمان، والهروب من قَدَر الله.

والجواب عن هذا: من فِعْل الفاروق عمر - رضي الله عنه - وقوله - وهو من كبار فُقهاء الصَّحابة - فقد رفض السَّفر إلى الشَّام حين ظهر بها مرض الطَّاعون؛ ولمَّا قيل له: أتفر من قدر الله يا عمر؟ قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.

إذًا ما على المسلم إلاَّ أن يعمل بما أمر به الرَّسول الهادي - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ بالأسباب، ثم يفوِّض الأمر بعد ذلك الله تعالى؛ أي إنَّه - وهذا ما يعنينا هنا - لا يدخل منطقة موبوءة بمرض معدٍ إذا كان خارجها، ولا يخرج منها إذا كان داخلها، معتقدًا - في الحالتين - أنَّ كلَّ شيءٍ بقضاء الله وقدره، وأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

3- ثمَّ إنَّ الإسلام يأمر بمكافحة القوارض، والحشرات، والحيوانات التي قد تنقل المرض إلى الإنسان، ونذكر من ذلك أمره بإبادة الفئران، والعقارب، والثعابين، وبقتل الحشرات الضَّارَّة؛ كالبرغوث، والقمل، والذباب، وأيضًا الكلاب الضَّالَّة، والكلب العقور، ثم يكره تربية الكلاب في البيوت للزينة والتَّرف، ويحذر من اقتنائها لغير ضرورة شرعيَّة - كالصَّيد والحراسة - ومع ذلك - أي مع هذه الضَّرورة أو المنفعة - فقد رأينا كيف اتَّفقت تعاليم محمد العربي (الأمي) - عليه السلام - وأحدث ما وصل إليه العلم المعاصر، والطب الحديث؟ حين نَهَى عن مُخَالطة الكلاب، وعن ولوغها في أوانِي الطَّعام والشَّراب، واعتبر فمها ولعابها نجسًا[42].

المطلب الثالث: التَّغذية السَّليمة


وهذه المسألة في المنهج الإسلامي، يُمكن النَّظر إليها من ثلاث زوايا:
1 - تشجيع المسلم على الغذاء الطَّيب المفيد لجسمه من لحوم ونباتات، يستوي في ذلك لحوم البر والبحر وكل مشتقَّاتها، وأيضًا النَّباتات بأنواعها وثمارها مما {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}[43]، ويكفي أن نشير على أهميَّة البروتينات والمعادن، والنشويات في بناء الجسم ومدّه بالطَّاقة التي يحتاجها، ومِن فضل الله علينا أنْ نوَّع مصادر هذه المواد اللاَّزمة لحياة الإنسان، من لحوم حمراء وبيضاء، والبيض واللبن، والعسل، والتمر، والفواكه، والخضروات، والأرز، والشَّعير، والقمح... وغير ذلك من الطَّيبات التي أحلَّها الله، ولها قيمة غذائيَّة، وتقي الإنسان من كثير من أمراض سوء التَّغذية كالأنيميا (فقر الدم) والأمراض الجلديَّة، وما إليها.

ألا تعرف - مثلاً أنَّ عسل النَّحل مصدر جيد للطاقة، فضلاً على أن تناول (25) جرامًا منه يفيد في علاج الالتهاب الكبدي الحاد، والأمراض الكبديَّة المزمنة؛ بل وسرطان الكبد الأولي، وبذلك نقي المريض من الحقن بزجاجات الجلوكوز الكبيرة، وما يصاحبها من عبء على المريض والطَّبيب؛ بالإضافة إلى ذلك نجد أنَّ العسل استخدم في الطب الشَّعبي القديم لعلاج مختلف الأمراض، أهمها: علاج الجروح، وأمراض الجهاز الهضمي، وأمراض القلب والرئتين، وبعض أمراض الجهاز العصبي، وبعض الأمراض النَّفسيَّة، وأمراض الكلى، وبعض أمراض الأطفال، لدرجة أنَّ أحد العلماء يعتقد أنَّ استخدام العسل يوميًّا يجب أن يصبح قانونًا للإنسان"[44].

2- نظام الطَّعام نفسه كمًّا وكيفًا وتوقيتًا، فمن المعروف علميًّا أنَّ هناك عددًا كبيرًا من الأمراض تصيب الإنسان؛ بسبب سوء نظام طعامه، فاختلاف مواعيد الطَّعام، أو مداومة النَّوم، وعدم الحركة بعد الطَّعام يسبب أمراضًا، والإكثار من الطعام، أو الطعام الدَّسم، أو الطَّعام فوق الطعام يسبب أمراضًا، والإقلال من الطَّعام بكثرة الصوم، والامتناع عن نوع معيَّن منه يسبب أمراضًا، وعدم التَّأني في المضغ، وسرعة البلع يسبب أمراضًا، فلا غرو أن نجد الإسلام - وهو دين الفطرة الصَّحيحة والنظام والنَّظافة - يحرض على التَّأني في تناول الطَّعام والشَّراب، ويمنع الإسراف فيهما - بدون جوع - حتَّى التخمة ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)). والقرآن الكريم يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[45]؛ حتى لقد قال بعض السلف الصَّالح: "جمع الله الطبَّ كله في نصف آية"[46]، يقصد الآية المذكورة.

وتأتي السنَّة المطهَّرة لتؤكد على الاعتدال في كل أمر من حياة المسلم بما في ذلك الطَّعام والشَّراب، ولتجعل الاستهلاك الكثير من خصائص الكفَّار، ففي الحديث الصَّحيح: ((المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء))[47]، وفيه أيضًا: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات - أو لُقَيْمات - يقمْنَ صُلْبه، فإن كان فاعلاً لا محالة؛ فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسِه))[48].

هذا؛ ولقد أثبت علماء التَّغذية، والطب أنَّ الإنسان لكي يعيش عيشة صحيَّة سليمة لا بدَّ من أكل اللحوم والنباتات معًا، ولا يمكنه الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وأنَّه من الملاحظ أنَّ الشعوب النباتيَّة تكون أجسادهم ضعيفة، وفي نفس الوقت فإنَّ الإكثار من اللحوم يزيد الإنسان حدَّة في الطبع وميلاً إلى العنف؛ كما أنَّه من النَّاحية الطبيَّة يزيد نسبة الكولسترول في الدَّم؛ بسبب الدهن الحيواني، فيعرض الإنسان للذبحة القلبيَّة، وتصلُّب الشَّرايين[49].

إنَّ الإسلام يحظُر على المسلم تناوُل أنواع معيَّنة من الأطعمة والأشربة - التي وصفها بالخبائث - يسبب ضررها بصحَّة الإنسان، كالميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، والخمر... وما أشبه ذلك، مما فصَّل القرآن الكريم والسنَّة، فنقرأ في كتاب الله المجيد: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[50]، وحسبنا - في مقام الكلام عنِ الطب الإسلامي وقايةً وعلاجًا - أن نشيرَ إلى طرفٍ منَ الحكمة البالغة في تحريم بعض هذه الأصناف.

- حكمة تحريم بعض المطعومات والمشروبات ((فيما يظهر لنا والله أعلم)):

أولاً: الميتة:وهي من أولى المُحَرَّمات ذكرًا في آية المائدة[51]؛ لأن فيها - كغيرها من الأطعمة والأشربة المُحَرَّمة شرعًا - هلاكًا لمن يتناولها، وقضاء مبرمًا عليه، مهما طال به المدى، وذلك لأنه من المعروف علميًّا أنَّ الحيوان أو الطير لا يموت إلاَّ لسببين أساسيين: إمَّا الشَّيخوخة وكبر السن، وإمَّا المرض، فإذا كان السبب هو المرض فالإنسان قد يتعرَّض للعدوى بإحدى طريقتين: عن طريق انتقال الميكروب مباشرةً من اللحم إلى الإنسان، إذا لم يكن اللحم قد طُهِيَ جيدًا.

أو عن طريق السميَّات التي يفرزها ميكروب المرض، والتي لا يمكن أن يقتلها الطَّهو، وهذه تسبب التَّسمم الغذائي.

وكثيرًا ما يكون موت الحيوان بسبب أكْلِه بعض الأعشاب السَّامة، أو المواد الكيميائيَّة القاتلة، وفي هذه الحالة فإنَّ أثرها يبقى في لحمه، ويُصيب من يأكله.

فإذا جئنا إلى الشَّيخوخة وجدنا أنَّ الذي يهرم يصاب بتليف في جميع أنسجة جسمه، فيفقد قيمته الغذائيَّة، ويُصيب الأمعاء بعسر الهضم، حيث يكون الآكل في هذه الحالة آكلاً لأنسجة مريضة مُتَلَيِّفة ومُتَحَلِّلة.

وغني عنِ البيان أنَّ المقصود بالميتة - هنا - هي الحيوان، أو الطَّير الذي مات حتف أنفه ولتوِّه، ولما يفسد لحمه بالتَّعفن مثلاً، أمَّا الحيوان المتعفن فإنَّ النَّفس البشريَّة بطبيعتها تعافه، ولا تحتاج إلى نص - في القرآن أو السنَّة - يحظر تناوله.

ويتَّصل بالميتة - أيضًا - المَوْقُوذَة، وهي الحيوان الذي يضرب ضربًا يؤدي إلى الموت بعد أن يتلف الضَّرب أنسجة الجسم وعضلاته، فضلاً عن حبس الدماء داخله بما يحمله من جراثيم أو طفيليَّات[52].

وما قلناه - هنا - ينطبق على (المُنْخَنِقَة)، وهي: التي تموت اختناقًا بأن يلتف وثاقها حول عنقها، أو تدخل رأسها في مضيق ونحو ذلك، و(المُتَرَدِّيَة) وهي التي تتردَّى من مكان عالٍ، أو تسقط في بئر ونحوها فتموت، و(النَّطيحة) وهي التي تنطحها أخرى فتموت[53]... وهكذا.

ثانيًا: الدم: وهو ثاني المحرَّمات - في الآية المشار إليها آنفًا - وقد كان عرب الجاهليَّة إذا جاع أحدهم ولم يجد ما يأكله أخذ شيئًا مدبَّبًا - من عظم ونحوه - فيفصد بعيره أو حيوانه، ثم يجمع ما يخرج منه من دم فيشربه، فجاء الإسلام ليحرم هذه الوسيلة - لما فيها من إيلام للحيوان وإضعاف له - وما ينتج عنها من شرب الدم؛ لأنه فضلاً عن كونه مستقذرًا، وتعافه النَّفس الإنسانيَّة السَّويَّة - فهو مظنَّة للضَّرر كالميتة تمامًا، وذلك أنَّ الدم يقوم في جسم الكائن الحي بوظيفتين:

- إحداهما: نقل المواد الغذائيَّة - التي تمتص من الأمعاء - وجميع العناصر الحيويَّة الضَّروريَّة الأخرى إلى أعضاء الجسم المختلفة.

- أمَّا الوظيفة الثانية: فهي حمل إفرازات الجسم الضَّارَّة والمعدة للخروج في البول والعرق والبراز؛ لكي يتخلَّص منها الكائن الحي، فإذا كان الحيوان مريضًا فإنَّ الميكروبات تتكاثر عادة في دمه، أو تستعمل الدم كوسيلة لانتقالها من عضو إلى آخر؛ كما أنَّ إفرازات الميكروب، وسميَّاته تنتقل عن طريق الدم أيضًا.

ولهذه الأسباب فقد حتَّم الإسلام الذبح الشَّرعي، الذي يقتضي تصفية دم الحيوان، أو الطير - بعد ذبحه، وبذلك يحمي الناس من الأمراض، والمواد الضَّارة التي قد تكون سارية في الدم، ويحمي كذلك معدتهم من عسر الهضم المترتب على تناول الدم المسفوح[54].

ثالثًا: لحم الخنزير: وهذه مسألة في غاية الأهميَّة لا سيَّما وأن كثيرًا ما يسأل المسلم الذي يزور بلدًا أجنبيًّا في أوروبا، أو أمريكا، أو غيرهما - عن الحكمة في تحريم الإسلام للحم الخنزير.

وقد يجيب بأنَّ هذا أمر جاء به الدين وما علينا - نحن المسلمين - إلاَّ الطَّاعة المطلقة دون جدل ولا نقاش، وقد يجيب آخر بأنَّ الخنزير حيوان مغرم بأكل الرِّمَم، والزبالة، والبراز، فالطباع السليمة تستخبثه، وترغب عنه.

لكن حبذا لو كان هذا الرَّد مدعمًا بالحقائق العلميَّة، والبحث العلمي بدلاً من الاكتفاء بالآراء النَّظريَّة التي قد لا تجد من يسلم بها منَ الملحدين والمشكِّكين؛ ومن ثَمَّ يحسن أن ننبه على بعض الأسباب الطبيَّة والعلميَّة - المعروفة حتَّى الآن - والتي يكفي واحد منها الامتناع عن تناوله، فكيف بها مجتمعة؟

من هذه الأسباب: أنَّ آكلي لَحم الخنزير معرَّضون للإصابة بأنواع خطيرة من الديدان، أبرزها الدودة الشريطيَّة - واسمها العلمي: تينيا ساليوم[55]- ودودة التريكينا أو التريخينا[56]، ومن خصائص النَّوع الأول - دودة الخنزير الشريطية - أنَّها لا تكتفي بالحياة في الأمعاء، أو في الجهاز الهضمي؛ وإنَّما تخترق أجنتها – اليرقات - جدار الأمعاء إلى الدَّورة الدَّمويَّة، فتتوزع على جميع أجزاء الجسم، ومِمَّا يَزيدُ من خطرها أنَّها تفضل التَّحوصل في الأجهزة الحيويَّة للجسم، خصوصًا الجهاز العصبي، والقلب، والعين، فإن كانتِ الحوصلة في الرَّأس أصابتِ الإنسان بالجنون، أو الشَّلل، أو الصَّرع، وإذا كانتْ في القَلْبِ أصابتْهُ بِالهُبُوط، أو بنوْباتِ الذَّبحة القلبيَّة، وإذا كانت في العين أصابتها بالعمى.

أمَّا عن أعراض الدودة الثانية - التريكينا - فتتمثَّل في ارتفاع الحرارة، وتورم الوجه، ونزلة معويَّة حادَّة، والتهابات عضليَّة مؤْلِمة، وقد تؤدِّي إلى هبوط في القلب، فالوفاة.

ومِمَّا يزيد من إيماننا بشرع ربِّنا أنَّه لا يوجد دواء مؤثر في علاج هذينِ النَّوعين من ديدان الخنزير حتَّى الآن، وأنَّه يصعب تشخيص المرض، وتحديد الخنزير المصاب بهما، أو بإحداهما.

ومن الأسباب أيضًا: أنَّ لحم الخنزير أكثر قابليَّة لنقل ونمو جميع الأمراض الميكروبيَّة المعدية والطفيليَّات، وخصوصًا تلك التي تسبب للإنسان تسممًا حادًّا، مصحوبًا بالتهابات شديدة في الجهاز الهضمي.

ومنها: ما يحدثه أكل لحم الخنزير من تغيير في نفسيَّة الإنسان، يخرجها عن وضعها السليم؛ وذلك أنَّ للطَّعام والشَّراب أثرًا واضحًا في نفس الإنسان وأخلاقه، والخنزير بحكم انتمائه إلى عائلة آكلات اللحوم - أصلاً رغم استئناس الإنسان له - فإنَّه أكثر عنفًا وشراسة، وبحكم طباعه المعيشيَّة فإنَّ عنده بَلاَدَة فظيعة، وأخلاقًا هابطة دنيئة، ولعلَّ هذا وذاك أحد أسباب ضعف الرَّابطة الأسريَّة، والغيرة الجنسيَّة، فضلاً عن ظهور الشذوذ والعنف - وغيرهما - في المجتمع الأوربي والأمريكي، وهي ظواهر جديرة بالاهتمام والتَّحليل العلمي.

ومنها: أنَّه يحتوي على أكبر كميَّة من الدهن الحيواني، العسير الهضم، والغني بمادة الكولسترول، وزيادتها - عن المُعَدَّل الطَّبيعي - في دم الإنسان تسبب تصلب الشَّرايين، وارتفاع ضغط الدم، والذَّبحة القلبيَّة.

ولقد اكتشف العلم الحديث أخيرًا أنَّ الخنزير يقوم بدور أساسي في حالة وباء الأنفلونزا، الذي يعتبر - في العصر الحديث - أشد الأوبئة فتكًا في العالم، ولذلك يطلقون على هذا الفيروس (الأنفلونزا الخنزيري)؛ كما ثبت أيضًا أنَّ هناك علاقة بين سرطان الثَّدي، والقولون وبين لحم الخنزير[57].

وقد يكتشف أطباء وعلماء المسلمين - وغيرهم - أسبابًا جديدة تؤكِّد حكمة الإسلام في مَنْع لحم الخنزير.

وبعدُ، فهل نحن بحاجة - بعد تحريم الله له - إلى البحث عن حكمة للتَّحريم؟ الواقع أنَّ الإنسان - والمسلم بخاصَّة - ينبغي أن يحرص على دينه، قبل أن يحرص على بدنه؛ لأنَّ البدن سيفنى آجلاً، أو عاجلاً، بِمرض أو من غير مرض، أمَّا الدين فينبغي أن يسلم؛ لأنَّه الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويكفي أنَّ الله حرَّم الخنزير مثلاً وأباح في مقابله مئات الحيوانات من الطَّيبات.

أمَّا لِمَ خُلِق الخنزير مَعَ ما فيه مِنْ مُهلكات؟

فالجواب - والله أعلم - أنَّه يأكل القاذورات، والنفايات، أو فضلات الأطعمة الملقاة هنا وهناك، فكأنَّه يؤدي وظيفة مهمَّة في تَخليص الأرض من المواد العضويَّة، ويعمل على الاتزان البيولوجي بها.

رابعًا: الخمر:

ونحن حين نأتي إلى تحريم الخمر - وقايةً للإنسان يكون من تقرير الواضح أن نذكر ضررها على الفرد في عقله، وجسمه، ودينه، ودنياه، أو نبين خطرها على الأسرة، أو نشرح تهديدها للجماعات والشعوب في كيانها الرُّوحي، والمادي، والسلوكي.

وحسبنا أن نشير - فقط - إلى أثرها على شخصيَّة المدمن، فهو سريع التَّأثر والغضب، كثير الهواجس والأوهام، أمَّا عن أثرها على أعضاء الجسم الأخرى فحدث ولا حرج، فقد ثبت أنَّ لها تأثيرًا مباشرًا على القلب، والأوعية الدمويَّة، وعلى الكلى، والكبد، والجهاز البولي، والتناسلي، فضلاً عن الجهاز العصبي للإنسان؛ ولذلك حرَّمها الإسلام تحريمًا قاطعًا، ولعنت على عشرة وجوه: بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها - أي طالب عصرها - وحاملها، والمَحمولة إليه، وآكل ثَمنِها[58]، وهذا يدلُّ على نفور الإسلام الشَّديد من كل مسكر قليلِه وكثيره، مَهْمَا وضع النَّاس له من ألقاب وأسماء.

المطلب الرابع: الاستعانة بوسائل العلاج المتاحة


إنَّ نظرة الإسلام إلى الأخذ بالأسباب مع تفويض الأمر لله - عز وجل - من الأصول المقرَّرة شرعًا، وقد ربطت السنَّة النَّبويَّة بين الأسباب والمسببات، أو بين المرض والعلاج، وأكَّدت على أهميَّة الاستعانة بالطب والدواء، وكل وسائل العلاج المتاحة، سواء في الوقاية من الأمراض، أو في معالجتها عند حدوثها.

وليس من فضل القول أن أشير إلى ما قرَّره أحد الباحثين المعاصرين من أنَّ تعاليم معظم الشَّرائع السَّابقة على الإسلام تعتمد في معالجة المرض على الرُّقى، والتَّمائم، والأحجبة، وعلى دعوات رجال الدين لطَرْد الأرواح الشريرة، وعلى إضاءة الشموع، ودهن جسم المريض بالزَّيت... إلى غير ذلك من التَّعاليم التي أبطلها العلم الحديث*

وقد كان الخطر من وراء هذه التَّعاليم أنَّها لا تعترف بالطب ولا الدَّواء؛ بل تعتبر أنَّ المريض لا بدَّ وأن يشفى بالدعاء وحده، ولا يذكر أي دين من هذه الأديان شيئًا عن الوقاية من المرض، سواء بالنَّظافة، أو بالعزل، أو بالبُعْد عن مصدر العدوى[59].

أمَّا الإسلام فقد كان له موقف مغاير تمامًا، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: ((تداووا؛ فإنَّ الله لم يَضَعْ داء إلاَّ وضع له شفاء - أو دواء - إلاَّ داءً واحدًا، قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: (الهرم)، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لكل داء دواء؛ فإذا أصيب دواء الدَّاء برئ بإِذْن الله تعالى))، وقال أيضًا: ((إنَّ الله لم ينزل داء إلاَّ أنزل له شفاء، عَلِمه مَن علمه، وجَهِله مَن جهِله))[60].

وهذا العلاَّمة ابن القيِّم يُورِدُ طائفة من الأحاديث النَّبويَّة الواردة في التَّداوي، ثم يعقب عليها قائلاً: (في هذه الأحاديث الصحيحة) الأمر بالتداوي، وأنَّه لا ينافي التَّوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها؛ بل لا يتم حقيقة التَّوحيد إلاَّ بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التَّوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيثُ يظُنُّ معطِّلُها أنَّ تَرْكَها أقوى من التَّوكُّل، فإنَّ تَرْكَها عجْزًا يُنافِي التَّوكُّل الذي حقيقَتُه اعتِمادُ القَلْبِ على الله في حصول ما ينفع في دينِه ودُنْياه، ودَفْع ما يضرُّه في دينِه ودنياه، ولا بدَّ مع هذا الاعتِماد من مُباشرة الأسباب، وإلاَّ كان معطلاً للحكمة والشَّرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا.

وفيها أيضًا ردٌّ على من أنكر التَّداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قدر فكذلك، وأيضًا: فإنَّ المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يدفع ولا يرد.

وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّا أفاضل الصَّحابة فأعلم بالله وحكمته، وصفاته من أن يوردوا مثل هذا[61].

على أنَّ الإسلام - في نفس الوقت - لا يهمل الجانب الروحي في علاج المريض، ولا يأمر بترك الدعاء له بالشفاء، سواء كان هذا الدعاء بآيات من القرآن، أو بالصلاة، أو حتى بالتَّمنيات الطَّيبة؛ ولكنَّه يَختلف عن غيره من الأديان في أنَّه لا يرضى بإهمال العلاج على حساب الدعاء والصلاة؛ بل يَجعل لكل منهما مكانًا، أو يسيرا معًا[62].

وفي هذا يقول صاحب كتاب "الطب النبوي": "من الأدوية التي تشفي الأمراض ما لم يهتدِ إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومُهم وتَجاربُهم وأقيستهم، من الأدوية القلبيَّة والروحانيَّة، وقوة القلب واعتماده على الله والتَّوكُّل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتَّذلل له، والصَّدقة والدعاء، والتَّوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتَّفريج عن المكروب؛ فإنَّ هذه الأدوية قد جربتها الأمم - على اختلاف أديانها ومللها - فوجدوا لها من التَّأثير في الشفاء ما لا يصِلُ إليه أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه".

ومضى يقول: "وقد جرَّبنا - نحن وغيرنا - من هذه أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسيَّة؛ بل تصير الأدوية الحسيَّة عندها بمنزلة الأدوية الطرقيَّة عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهيَّة، ليس خارجًا عنها، ولكن الأسباب متنوعة... )) إلى آخر ما قال[63].

ومن جهة ثالثة فإنَّ الإسلام ينادي بعدم السخط، أو الانزعاج، أو الذعر من المرض، والتزام الصبر عند الشدَّة، والرضا بقضاء الله وقدره، وهذا التَّوجيه الإسلامي في مواجهة المرض يجعل المسلم المريض ذا معنويَّات عالية، تساعده على سرعة الشفاء - بإذن الله - وذلك أنَّه يعتبر أنَّ المرض امتحان من الله له في عزيمته، وزكاة عن صحَّته، وغفران لأخطائه وسيئاته، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فيما سواه - حتى الشوكة يشاكها - إلاَّ حط الله به سيئاته، كما تحط الشَّجرة ورقها))، أو كلامًا قريبًا من هذا[64].