الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، تفرد بالجلال والكمال، وتنزه عن النظراء والأمثال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يتعبَّد الموحّدون بذكره {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله حتى يقرر أن لا إله إلا الله؛ فأقام الدين، ونشر التوحيد، وأوضح الشريعة، حتى توفَّاه الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، وأنوار الدجى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الناس، اتقوا الله - تعالى - وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].


أيها المؤمنون: كلمةُ التقوى هي كلمةُ الإخلاص والتوحيد، لا إله إلا الله، وهي شهادةُ الحق ودعوةُ الحق، وبراءةٌ من الشرك. لأجلها خُلِق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزلت الكتب {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] {يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] قال سفيانُ بنُ عيينة - رحمه الله تعالى -: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرّفهم لا إله إلا الله"[1].


لأجلِ هذه الكلمة أُعدَّت دارُ الثَّوابِ ودارُ العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد؛ فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر.
هي مفتاحُ الجنةِ وثمنُها، وهي دعوة الرسل، وبها كلّم الله موسى كفاحًا، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[2] وهي موجبةٌ للمغفرة، ومنجاةٌ من النار، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: ((خرج من النار))؛ أخرجه مسلم[3] ، وقال أبوذرٍ - رضي الله عنه -: قلت: "يا رسول الله، كلمني بعملٍ يقربني من الجنة ويباعدني من النار". قال: ((إذا عملت سيئةً فاعمل حسنة، فإنها عشرُ أمثالها)). قلت: "يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات"؟ قال: ((هي أحسن الحسنات))؛ أخرجه أحمد[4].


لا إله إلا الله تمحو الذنوب والخطايا، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب، وهي أفضلُ الذكر، وأثقلُ شيء في الميزان، كما روى عبدُالله بنُ عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم –: (( أن نوحًا قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كنّ في حلْقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح[5].
إن هذه الكلمة العظيمةَ إذا قالها المسلم صعدت إلى السماء، وخرقت الحجب؛ حتى تصل إلى الله - تعالى - أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجْتُنبت الكبائر))[6]. هذه الكلمةُ أفضلُ الأعمال، وأكثرُها تضعيفًا، تحفظ العبد من الشيطان، وتعدلُ عتق الرقاب؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من قال: لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه))؛ متفق عليه[7].


وهي التي تفتح أبواب الجنة؛ كما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء))؛ أخرجه مسلم[8].
تَحرمُ النارُ على من قالها مخلصًا؛ كما في حديث عتبانَ بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))؛ أخرجه الشيخان[9]، وعندهما أيضًا أن الله - تعالى - يقول: ((وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله))[10]؛ ولهذا السبب فهي تقطع ظهر إبليس، كما قال سفيانُ الثوري: "ليس شيءٌ أقطع لظهر إبليس من لا إله إلا الله"[11].
أيها الإخوة: هذا بعض من فضل لا إله إلا الله؛ ولكن هل ينالُ فضلها وبركتها من قالها بلسانه فقط؟


كلا؛ حتى يستيْقِنَ بها قلبُه كما جاء في بعض الأحاديثِ ((مستيقنًا))[12]، وفي آخر ((خالصًا من قبل نفسه))[13]، وفي آخر ((مخلصًا))[14]، وفي آخر ((يبتغي بذلك وجه الله))[15]، وفي آخر ((يقولها حقًّا من قلبه))[16]؛ إذ تفيد هذه الأحاديث أنَّه لا يكفي قولُ اللسان.
نعم يكفي قولُ اللسان في حَقْنِ دمه وماله، ومعاملته في الدنيا كمسلمٍ ما لم يأتِ بناقض لها، كما ثبت أن أسامة - رضي الله عنه - قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أسامة، قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله))؟ قال: "يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح". قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ وفي رواية ((كيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟! قال: "يا رسول الله، استغفر لي". قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟! قال أسامة - رضي الله عنه -: "فما زال يكررها حتى تمنَّيت أني أسلمت يومئذ"؛ أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم[17].


أما في الآخرة فلا تكون سببًا في دخول الجنة والنجاة من النار إلا باستكمال شروطها، وانتفاء موانعها، كما تواترت بذلك النصوص، قيل للحسن - رحمه الله -: "إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"؟ فقال: "من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة". ولما سُئل وهبُ بنُ منبه - رحمه الله -: "أليس مفتاحُ الجنة لا إله إلا الله"؟ قال: "بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. وقال الحسنُ للفرزدقِ وهو يدفن امرأته: "ما أعددت لهذا اليوم"؟ قال: "شهادة أن لا إله إلا الله منذُ سبعين سنة". قال الحسن: "نعم العُدَّة، لكنَّ لـ (لا إله إلا الله) شروطًا فإياك وقذف المحصنات"[18].
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - : "وتحقيق هذا المعنى وإيضاحُه أن قولَ العبد: لا إله إلا الله يقتضي أنْ لا إله له غيرُ الله، والإله: هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفًا ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاءً له، ولايصلح ذلك كلُه لغير الله – عز وجل - فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور - التي هي من خصائص الإلهية - كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبوديةِ المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كلُه من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي، التي منشؤها طاعةُ غير الله أو خوفه أو رجاؤه أو التوكل عليه والعمل لأجله". اهـ[19]


فمن ظن أن مجرَّد النطق بهذه الكلمة ينجيه من النار ويدخلُه الجنة، ولو لم يستيقن بها قلبُه، وتعمل بهذا اليقين جوارحُه، فقد أخطأ في ظنه؛ لأن كثيرًا ممن يقعون في نواقض الإسلام يقولونها، وكثيرٌ ممن يحاربون الإسلام وأهله من المنافقين يقولونها، ومنافقو عهد الرسالة الذين مردوا على النفاق كانوا يقولونها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حقنًا لدمائهم وأموالهم! ومع ذلك أخبر الله أن المنافقين بفعلهم هذا يخادعون الله وهو خادعهم؛ فكان جزاؤهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]


فاتقوا الله - تعالى - فإنَّ الإيمان مع التقوى، يجعلُ العبد من الأولياء، وأولياءُ الله لهم البشرى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62-64].
أيها الإخوة المؤمنون: اتباعُ الهوى من أعظم ما يعارض كلمة التوحيد؛ لأن لا إله إلا الله تقتضي عدم طاعةِ الهوى، وإلا كان الإلهُ هو الهوى كما قال - تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال قتادة: "هو الذي كلما هوِيَ شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى"[20]، ويشهد لهذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ القطيفة، تعس عبدُ الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش))؛ أخرجه البخاري[21].


فدل هذا على أن كلَّ من أحبَّ شيئًا وأطاعه وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله، فهو عبده وكان ذلك الشيءُ معبودَه وإلهَه؛ ولذلك سمى الله طاعة الشيطان في المعصية عبادة للشيطان {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61]. فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته؛ فإنه يعبُد الشيطان بطاعته له، ولم يخلُص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن.


ومن قال لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواهُ في معصية الله ومخالفته فقد كذّب فعلُه قولَه، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله - تعالى - في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص: 50] {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله} [ص: 26].
قال الحسن: "اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته". وقال أبو يعقوب النَّهْرَجُوري: "كلُّ من ادعى محبةَ الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال يحيى بن معاذ: "ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده"[22]. ومن هنا يُعلم أن من أتى بلا إله إلا الله ينجو من النار ويدخل الجنة برحمة الله - تعالى - بشرط أن يسلمَ من أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه بالمعاصي[23]، فمن أشرك دخل النار، ومن ظلم العباد كان منه القصاص، ومن ظلم نفسه بالكبائر كان تحت المشيئة.
فاتقوا الله ربكم، واقدروا كلمة التوحيد حق قدرها، واعرفوا لها فضلها، وحققوا شروطها، وجانبوا نواقضها؛ حتى يكون لكم الأمن في الدنيا والآخرة، ثم صلوا وسلموا على خير خلق الله.