التوحيد من أجله خلق الله الخلق:
قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبَّته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك متوقِّف على معرفة الله - تعالى - فإنَّ تمام العبادة متوقفٌ على المعرفة بالله، بل كلَّما ازداد العبد معرفةً بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[1].

فمعنى الآية: أنه - تبارك وتعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنَّه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[2].

"فبيَّن - سبحانه - الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يُخلقوا عبثًا ولا سدًى، بل خُلقوا لهذا الأمر العظيم؛ وهو أن يعبدوا الله - جل وعلا - ولا يشركوا به شيئًا، ويخصُّوه بدعائهم، وخوفهم ورجائهم، وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم، وغير ذلك"[3].
"فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تُسمَّى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة"[4].

2- التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها:
قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: انصبه ووجِّهه {لِلدِّينِ} الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان؛ بأن تتوجَّه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، وشرائعه الباطنة؛ كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وخصَّ الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنِيفًا}؛ أي: مُقْبِلاً على الله في ذلك، معرِضًا عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها.
3- التوحيد من أجله أخذ الله الميثاق على بني آدم:
قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، "يخبر - تعالى - أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه - تعالى - فطرهم على ذلك وجَبَلهم عليه؛ قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة - فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء))، وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم))، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: "حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السَّرِيُّ بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ عليه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتناولون الذريَّة؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنَّها ليست نسمة تولد إلا وُلِدَت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها؛ فأبواها يهوِّدانها، وينصِّرانها))، قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في "سننه" من حديث هُشَيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأنَّ الله ربهم.

4- التوحيد من أجله أرسل الله الرسل:
قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ "أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله؛ فأدلَّة العقل شاهدةٌ أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إمَّا معقولٌ وإما منقولٌ، وقال قتادة: لم يُرْسَل نبيٌّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ ذلك على الإخلاص والتوحيد"[16].

"فإن قيل: إذا كان الدَّليل العقلي والدليل النقلي قد دلاَّ على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب - تعالى - بقوله : {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ أي: ذلك الذي مشوا عليه ليس لهم فيه حجة، وإنَّما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخِّر بالمتقدِّم الضالِّ، وأماني منَّاها الشياطين، وزيَّنت لهم سوءُ أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسَّر انفصالُها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحلِّ"[17].

5- التوحيد من أجله أنزل الله الكتب:
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1- 2]، "يقول - تعالى -: هذا {كِتَابٌ} عظيم، ونُزُل كريم، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: أُتْقِنت وأُحْسِنَت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه، {ثُمَّ فُصِّلَتْ}؛ أي: ميزت، بينت بيانًا في أعلى أنواع البيان، {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته، {خَبِيرٍ} مطَّلع على الظواهر والبواطن، فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة وسعة الرحمة، وإنما أنزل الله كتابه لأجل {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}؛ أي: لأجل إخلاص الدين كله لله، وألاّ يشرك به أحد من خلقه، {إِنَّنِي لَكُمْ} أيُّها الناس {مِنْهُ}؛ أي: من الله ربكم {نَذِيرٌ} لِمَن تجرَّأ على المعاصي، بعقاب الدنيا والآخرة {وَبَشِيرٌ} للمطيعين لله، بثواب الدنيا والآخرة"[26].

"فهذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أُنزل القرآن من أجلها هي: أن يُعبد الله - جلَّ وعلا - وحده، ولا يُشرك به في عبادته شيء؛ لأن قوله - جل وعلا -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} - صريح في أن آيات هذا الكتاب فصِّلت من عند الحكيم الخبير؛ لأجل أن يُعبد الله وحده"[27].

"أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصَّل لعبادة الله وحده لا شريك له؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36][28].
"وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب"[29].

6- التوحيد هو أوَّل ما ندعو الناس إليه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ((إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله - تعالى...))[30].

"قوله: ((ستأتي قومًا أهل كتاب)) هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجُهَّال من عَبَدَة الأوثان، وليس فيه أن جميع مَنْ يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصَّهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم، قوله: ((فإذا جئتهم)) قيل: عبر بلفظ (إذا) تفاؤلاً بحصول الوصول إليهم، قوله: ((فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله))، كذا للأكثر وقد تقدَّم في أوَّل الزكاة بلفظ: ((وأنِّى رسول الله))، كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وأمَّا إسماعيل بن أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه: ((فأوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله...))، وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: ((إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك...))، ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصحُّ شيءٌ غيرهما إلا بهما، فمَن كان منهم غير موحِّد فالمطالبة متوجِّهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومَن كان موحِّدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه؛ كمَن يقول ببنوَّة عزير، أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم"[31].

"وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ إذ لا تصحُّ الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصحُّ العبادة مع الشرك؛ كما قال - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أوَّل ما يبدأ به في الدعوة
7- التوحيد من أجله انقسم الناس إلى مؤمن وكافر وبينهما ولاء وبراء:
قال - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة : 22]، "يقول - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى إيمانه ولوازمه، من محبة مَن قام بالإيمان وموالاته، وبغض مَن لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقربَ الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبَّته، وغرسه غرسًا لا يتزلزل، ولا تؤثِّر فيه الشُّبَه والشكوك، وهم الذين قوَّاهم الله بروح منه؛ أي: بوحيه ومعرفته ومَدَدِه الإلهي، وإحسانه الرباني، وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنَّات النعيم في دار القرار، التي فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وتختار، ولهم أفضل النعيم وأكبره، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المَثُوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات؛ بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا وراءه نهاية، وأمَّا مَن يزعُم أنه يؤمن بالله واليوم الأخر، وهو مع ذلك موادٌّ لأعداء الله، محبٌّ لِمَن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعميٌّ لا حقيقة له، فإن كان أمرٌ لا بُدَّ له من برهان يصدِّقه، فمجرَّد الدعوى لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها"[33].
{وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} قال السدِّيُّ: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أُبَي، جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي؛ لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفْضَلَ له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي - صلى الله عليه وسلم - جئتُك بها تشربها؛ لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلاَّ جئتني ببول أمِّك فإنَّه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل ترفق به، وتحسن إليه))، وقال ابن جريج: حُدِّثتُ أنَّ أبا قحافة سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فصكَّه أبو بكر ابنه صكَّةً فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: ((أَوَفَعَلْتَه؟ لا تعد إليه))، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف مِنِّي قريبًا لقتلته، وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجرَّاح، قتل أباه عبدالله بن الجرَّاح يوم أُحُد، وقيل: يوم بدر، وكان الجرَّاح يتصدَّى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلمَّا أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، ولقد سألت رجالاً من بني الحارث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}؛ يعني: أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر))، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}؛ يعني: مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ يعني: عمر بن الخطاب قتل خاله العاصِ بنَ هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة قَتَلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ، لمَّا كتب إلى أهل مكة بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، على ما يأتي بيانه أوَّل سورة (الممتحنة) - إن شاء الله تعالى - بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب"[34].


وقال - سبحانه -: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]؛ "ومعنى ذلك: لا تتخذوا - أيُّها المؤمنون - الكفَّار ظهرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنَّه مَن يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر؛ {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"
8- التوحيد من أجله شرع الله الجهاد:
قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].

"{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ أي: شرك، وصد عن سبيل الله ويذعنوا لأحكام الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرَّهم عن الدين، وأن يَذُبَّ عن دين الله، الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان، {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن ما هم عليه من الظُّلم، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، لا تخفى عليه منهم خافية، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى}، الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسِّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفُجَّار، وتكالُب الأشرار، ومَن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومَن كان الله عليه فلا عزَّ له، ولا قائمة تقوم له"[37].

"قال ابن جريج: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؛ أي: لا يفتُر مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شركٌ، ويخلع ما دونه من الأنداد"[38].

"فدلَّ على أنه إذا وُجد الشرك فالقتال باقٍ بحاله؛ كما قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقال - تعالى -: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلَّي سبيلهم، ومتى أَبَوْا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باقٍ بحاله إجماعًا"
9- التوحيد شرط في النصر والتمكين:
قال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

"ذكر - جلَّ وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في لاْرْضِ}؛ أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلُّ على أن طاعة الله بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوَّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة؛ كقوله - تعالى -: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، وقوله - تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40- 41]، وقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، إلى غير ذلك من الآيات، وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي : كبني إسرائيل، ومن الآيات الموضحة لذلك قوله - تعالى -: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5- 6]، وقوله - تعالى - عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقوله - تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، إلى غير ذلك من الآيات..."[44].

"هذا وعدٌ من الله - تعالى - لرسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأنه سيجعل أمَّته خلفاء الأرض؛ أي: أئمَّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكمًا فيهم، وقد فعله - تبارك وتعالى - وله الحمد والمنَّة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة - رحمه الله - وأكرمه.

10- التوحيد شرط في الأمن والاهتداء:
قال - تعالى -: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].

"بشَّرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلَّة لهم؛ بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادَّخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال... وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطِيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، وجُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّت لي الغنائم، وأُعْطِيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصَّة وبعثت إلى الناس عامة))[48].

"{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}؛ يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة - وهي السلطان - التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعدٌ من الله - جلَّ ثناؤه - أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصر على أعدائهم... ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته"[49].

{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}؛ أي: ذلك بسبب ما اتَّخذوا من دونه من الأنداد والأصنام التي اتَّخذوها على حسب أهوائهم وإراداتهم الفاسدة من غير حُجَّة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثمَّ كان المشرك مرعوبًا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدَّة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فأشدُّ وأعظم؛ ولهذا قال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}؛ أي: مستقرُّهم الذي يأوون إليه، وليس لهم عنها خروج؛ {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم"[50].

وقال - سبحانه -: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81- 82]؛ يعني: صدقوا ووحَّدوا، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ أي: شرك، إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله - عز وجل - وفي "الصحيح"[51]، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [آل عمران: 151] قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لم يظلم نفسه؟! فأنزل الله - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]"[52].

11- التوحيد هو الكلمة السواء التي بيننا وبين أهل الكتاب:
قال - تعالى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، "هذه الآية الكريمة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب، وكان يقرأ أحيانًا في الركعة الأولى من سُنَّة الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية [البقرة: 136]، ويقرأ بها في الرَّكعة الآخرة من سنَّة الصبح؛ لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد قد اتَّفق عليه الأنبياء والمرسلون، واحتوت على توحيد الإلهية المبنيِّ على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية لا يستحقُّ منهم أحدٌ شيئًا من خصائص الرُّبوبية ولا من نعوت الإلهية، فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا"[53].

"{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا} [آل عمران: 64] فقولوا أنتم لهم: اشهدوا {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: مخلصون بالتوحيد"[54].

"أي: متَّصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متَّخذين أحدًا ربًّا؛ لا عيسى، ولا عزيزًا، ولا الملائكة؛ لأنهم بشر مثلنا، مُحْدَث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئًا بتحريمهم علينا ما لم يحرِّمْه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابًا"[55].

12- التوحيد هو أول المأمورات، وضده هو أول المنهيات:
قال - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، "والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أوَّل دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله - عز وجل - ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، كما قدَّمنا بَسْطَ ذلك.

وما ذكر الله - تعالى - التوحيد مع شيءٍ من الأوامر إلا جعله أوَّلها، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أوَّلها، كما في آية النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وكما في آية الأنعام التي طلب النبي البيعة عليها، وهي قوله - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]، وكما في آيات الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فابتَدَأ تلك الأوامر والنواهي بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بذلك"[56].

13- التوحيد هو المعروف الأكبر، وضده هو المنكر الأكبر:
وقد سُئِل النبي- صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ فقال- صلى الله عليه وسلم -: ((إيمان بالله ورسوله))[57].

وسُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك))[58].

"وإنما أُرْسِلت الرُّسل وأُنْزِلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك"[59].

"وأمَّا المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلهًا آخر؛ إمَّا الشمس وإمَّا القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء، أو رجلاً من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك ممَّا يُدْعَى من دون الله - تعالى - أو يُسْتَغَاث به أو يُسْجد له، فكلُّ هذا وأشباهه من الشرك الذي حرَّمه الله على لسان جميع رسله"[60].‏

14- التوحيد شرط في قبول الأعمال:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله - تعالى - أغنى الشركاء عن الشرك))[61].

وعن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله - تعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه))[62].

وفي رواية: ((فأنا منه بريءٌ، وهو للذي أشرك))[63].

"فعبادة المشركين - وإن جعلوا بعضها لله - لا يَقْبَل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله - سبحانه"[64].

15- التوحيد هو حقُّ الله على العبيد:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا))[65].

"فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان - حمد الرب وتوحيده - يدور عليهما جميع الدين‏"[66].

"وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله، وله خَلَقَ الخلق، وهو حقُّه على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"[67].

16- التوحيد يكفر الذنوب:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا - لأتيتك بقرابها مغفرة))[68].

قال ابن رجب[69]: "مَن جاء مع التوحيد بقراب الأرض - وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها – خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله - عز وجل - فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته ألاَّ يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.... فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها، بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت - أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية"[70].


17- التوحيد سببٌ في حلول البركة:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، لمَّا ذكر - تعالى - أنَّ المكذِّبين للرسل يبتلون بالضَّرَّاء موعظة وإنذارًا، وبالسَّرَّاء استدراجًا ومكرًا، ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرِّم الله - لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمُهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنَّهم لم يؤمنوا ويتقوا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلاَّ فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41][72].

18- التوحيد أول ما يسأل عنه العبد في قبره:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، "وهذه الآية نصُّها في عذاب القبر بصريح الأحاديث، وباتِّفاق أئمة التفسير من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، وأن المراد بالتثبيت هو عند السؤال في القبر حقيقة"[73].

"والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]"[74].

19- التوحيد شرطٌ في الشفاعة[75]:
{يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، والله لا يرتضي إلاَّ التوحيد؛ كما قال - تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه))"[76].

20- التوحيد شرطٌ في دخول الجنة والنجاة من الخلود في النار:
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار))[78].