معركة ملاذ كرد

يوم أسر المسلمون إمبراطور الروم


تعدُّ معركة "ملاذ كرد" (1071 م - 463 هـ) بداية النِّهاية للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة الشرقية التي كانت تتسيَّد العالم في ذلك الوقت، وبداية صعود الدَّولة السلجوقية الوليدة التي تولاها السلطان "ألب أرسلان" خلفًا لعمِّه "طغرل بك"، والتي كانت تتمركز في منطقة بلاد ما وراء النهر وبلاد فارس.تولَّى "ألب أرسلان" حُكمَ دولة السلاجقة سنة (455 هـ/ 1063 م)، وكان خيِّرًا صالحًا ذا نظر وطموح؛ فعمد إلى إِذكاء روحِ الجهاد بين جنوده، وقام بحملةٍ كبيرة ضدَّ الأقاليم النصرانيَّة المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشَه نحو جنوب أذربيجان، واتَّجه غربًا لفتح بلاد الكَرَج والمناطق المطلَّة على بلاد البيزنطيِّين، وقد بدأ في محاولة التوسُّع على حساب الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة الغافلة في ذلك الوقت، واستمرَّت فتوحاته الكبيرة في الأراضي الأرمينيَّة، ويبدو أنَّ ملك الكَرَج هالَه التوغُّل السلجوقي في عُمْق المناطق الأرمينيَّة، فهادَن ألب أرسلان وصالَحه على دَفْع الجزية، ونتيجة لهذا التوغُّل السلجوقي أضحى الطريق مفتوحًا أمام السَّلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطروا على قلب أرمينيَّة، فتحرَّك إلى الأناضول واستولَى على نيكسار وعموريَّة وقُونيَّة، وهنا صحا الإمبراطور البيزنطي من غفلتِه، وقرَّر الخروجَ بنفسه لتأديب ألب أرسلان وإنهاء دولة السلاجقة بصورةٍ تامَّة لا رجعة فيها.جهَّز الإمبراطور البيزنطي "رومانوس" جيشًا ضخمًا يتكوَّن من ثلاثمائة ألف مقاتل من الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريِّين، وتحرَّك بهم من القسطنطينيَّة عاصمة دولته، واتَّجه إلى "ملاذ كرد" حيث يعسكِر الجيشُ السلجوقي.وقد أُسقط في يد ألب أرسلان، الذي ما توقَّع أن يخرج رومانوس بنفسِه لملاقاته، وكان عدد جيش ألب أرسلان وقتها خمسة عشر ألف مقاتل، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء مَدَد من المناطق التابعة له، فقرَّر مباغتة جيش رومانوس وتحقيق أيِّ انتصارٍ خاطِف يضمن له مفاوضة الإمبراطور الروماني على الصُّلح والهُدْنة بعد ذلك، وبالفعل هجم على مقدِّمة جيش الروم وانتصرَ عليهم، ثمَّ ارتدَّ سريعًا، مرسِلاً رسولاً من طرفه يطلب الصُّلحَ والهدنة، فما كان من رومانوس إلاَّ أن رفض رفضًا باتًّا الصلحَ وقال: هيهات! لا هدنةَ ولا رجوع إلاَّ بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فُعل ببلاد الروم، وجاء في رواية: الصلح لن يتمَّ إلاَّ في مدينة الري عاصمة السلاجقة؛ أي: بعد أن ينهي دولتَه ويقتل السلطان "ألب أرسلان" نفسه.وهنا أيقن السلطان "ألب أرسلان" بأنَّه لا مناص عن القتال، فاحتسب نفسه عند الله، وقام وبثَّ في جنوده روحَ الجهاد في سبيل الله، وخاف مِن لقاء الروم بمثل هذا العدد الهزيل؛ فذهب إلى أستاذِه أبو نصر محمد بن عبدالملك البخاري الحنفي يطلب منه المشورةَ، فقال له الإمام يشجِّعه ويقوِّيه ويشُدُّ أَزْرَه: إنَّك تقاتل عن دينٍ وعد الله بنصرِه وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتبَ باسمك هذا الفتحَ، فالْقَهُم يوم الجمعة في السَّاعة التي يكون الخطباء على المنابر؛ فإنَّهم يدْعون للمجاهدين وقتها.أعدَّ المسلمون العدَّة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشان يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ، فلمَّا كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلَّى السلطان "ألب أرسلان" بالعسكر ودعا اللهَ تعالى وابتهلَ وبكى وتضرَّع، وقال لهم: نحن مع القوم، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه السَّاعة التي يُدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإمَّا أن أبلغ الغرضَ وإمَّا أن أمضي شهيدًا إلى الجنَّة، فمن أحبَّ أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحبَّ أن ينصرف فليمض مصاحبًا؛ فما ها هنا سلطان يَأمر ولا عسكرٌ يُؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغازٍ معكم، فمن تبعني ووهب نفسَه لله تعالى فله الجنةَ أو الغنيمة، ومن مضى حقَّت عليه النَّار والفضيحة، ثمَّ ربط ذَيلَ فرسه بيده وفعل العسكرُ مثلَه، ولبس البياض، وقال: إن قُتلت فهذا كفني.وقد قاتل المسلمون و"ألب أرسلان" وقتَها قِتال من لا يوقن بالنجاة، وسطَّروا أروعَ آيات البطولة والاستشهاد، وما لبث أن دارَت الكفَّة لصالحهم على "رومانوس" والجيشِ البيزنطي، فقَتلوا منهم وأَسروا، ووقع الإمبراطورُ البيزنطي نفسه في الأَسْر، أسره أحدُ غِلمان المسلمين المماليك، وأُحضر إلى ألب أرسلان مقيَّدًا محمولاً، وكان بينهما حوارٌ يشهد بعون الله للمسلمين في تلك المعركة الحاسمة وعظمةِ السلطان "ألب أرسلان" وتواضُعِه مع عدوِّه الأبرز وقتها.جاء في "سير أعلام النبلاء" للذَّهبي وصفٌ لهذا الحوار، حيث قال: "قال ألب أرسلان: ويلك ألَم أبعث أطلب مِنك الهدنة؟ قال رومانوس: دعني من التوبيخ، قال: ما كان عزمُك لو ظفرتَ بي؟ قال: كل قبيح، قال: فما تؤمِّل وتظنُّ بي؟ قال رومانوس: القَتْل أو تشهِّرني في بلادك، والثالثة بعيدة: العفو وقبول الفداء، قال السلطان: ما عزمتُ على غيرها، فاشترى - رومانوس - نفسَه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وإطلاق كلِّ أسيرٍ في بلاده، فخلع عليه، وبعثَ معه عدَّة وأعطاه نفقةً توصله، وأمَّا الروم فبادروا وملَّكوا ملِكًا آخر، فلما قرب أرمانوس شعر بزوال ملكِه، فلبس الصوفَ، وترهَّب، ثمَّ جمع ما وصلَت يده إليه نحو ثلاثمائة ألف دينار، وبعث بها، واعتذر وقيل: إنَّه غلب على ثغور الأرمن"؛ [سير أعلام النبلاء، ط الرسالة (18/ 416)].ونَجد أنَّه لم تكد تصل أخبار الهزيمة إلى القسطنطينيَّة حتى أزال رعاياه اسمه من سجلاَّت الملك، وقالوا: إنَّه سقط من عداد الملوك، وعُيِّن ميخائيل السابع إمبراطورًا؛ وقيل في رواية أخرى: إنَّهم ألقَوا القبضَ على رومانوس، وسملوا عينيه لتلك الهزيمة المنكرة.ونجد أنَّه نتيجة لتلك المعركة ونتائجها الباهرة توسَّعَت الدَّولة السلجوقية في فتوحاتها، وواصل الأتراكُ السلاجقة غزوَهم لمناطق أخرى بعد ملاذ كرد، حتى توغَّلوا في قلب آسيا الصغرى، ففتحوا قونيَّة وآق، ووصلوا إلى كوتاهية، وأسَّسوا فرعًا لدولة السلاجقة في هذه المنطقة عُرف باسم سلاجقة الروم، ظلَّ حكَّامه يتناوبون الحكمَ أكثر من قرنين من الزَّمان بعد انتصار السلاجقة في ملاذ كرد، وأصبحَت هذه المنطقة جزءًا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.أمَّا "ألب أرسلان"، فتَروي كتبُ التاريخ والسِّيَر أنَّ أيامه كانت مِن أعدل الأيام وأحسنِها وأكثرها رخاءً على المسلمين، وأنَّ الله يسَّر على يديه فتوحَ بلاد الروم حتى جاء حفيدٌ من أحفاده من بعده بعِدَّة قرون، وهو محمد الفاتح، ليفتَح القسطنطينيَّة عاصمة الدولة البيزنطية، وينهي وجودَهم تمامًا.