العباقرة في كل جيل.في كل زمان وفي كل مكان.هم أفراد قلائل بالنسبة إلى أعداد شعوبهم.
ولكن التاريخ يشهد أن الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم قد شهد من العبقرية أعلاها وأشملها وأكملها ومن هؤلاء، عمر بن الخطاب، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم أر عبقريًا يفري فريه).الرجل المناسب في المكان المناسب:أصبح عمر خليفة بعد الصديق رضي الله عنهما، والحروب مشتعلة بين المسلمين والفرس، فبعد معركة القادسية الشهيرة، وارتحال يزدجرد آخر ملوك الفرس، يجمع المقاتلين من أرجاء مملكته كلها للمعركة الفاصلة، كان عمر متواصل هم الليل بهم النهار وهو يريد أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، يريد أن يعين قائدًا لهذه المعركة الفاصلة، فقال لمن حوله: أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب. قالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.قال عمر: النعمان بن مقرِّن.فقالوا: هو لها. وكان مع الجيوش في البصرة.سبب معركة نهاوند:إن الذي هيج هذه المعركة التي قل نظيرها في تاريخ الحروب، أن المسلمين لما فتحوا الأهواز، واستولوا على دار الملك القديم من ملك كسرى، ثم فتحوا المدائن، حمي الفرس عندئذ، وحمسهم ملكهم يزدجرد، الذي تقهقر من بلد إلى بلد، حتى صار إلى أصفهان طريدًا في أسرة من قومه وأهله وماله، فكتب إلى ناحية نهاوند وما جاورها من الجبال والبلدان، فتجمعوا، وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم من قبل ذلك، اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند وقالوا: إن محمدًا لم يتعرض لنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده، وإن عمر هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا، وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى غزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة، ولا يترككم حتى يخرجكم من بلادكم، فاقصدوهم في بلادهم.كان في الكوفة واليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان، كتب كتابًا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يخبره بما فعل الفرس وما عزموا عليه من الأمر، ويشير عليه بأن المصلحة أن نقصدهم فنعاجلهم قبل أن يعاجلونا.النعمان بن مقرن قائد جيوش نهاوند:فلما سمع المسلمون بما عزم عليه المجوس، أراد عمر أن يبدأ بهم، فكتب إلى النعمان بن مقرن أن يسير بالجيوش إلى نهاوند، كل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم النعمان، فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإذا قتل فجرير بن عبد الله البجلي، فإذا قتل فقيس بن مكشوح.المعركة:كان جيش المجوس مئة وخمسين ألفًا، و جيش المسلمين ثلاثين ألفًا؛ على مقدمته نُعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المشاة القعقاع بن عمرو التميمي، وأمير الجميع النعمان.أمضى المسلمون يومهم الثلاثاء بالإعداد والاستعداد، وبعد صلاة الفجر من يوم الأربعاء، بدأ القتال في هذا اليوم، وامتد إلى يوم الخميس، والحرب بينهم سجال، والفرس في مدينة نهاوند تنظر من أعلى الحصون إلى ساحة المعركة.الفيرزان:فبعث الفيرزان أمير المجوس يطلب رجلًا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب الأربعة؛ معاوية وزياد ابن أبيه وعمرو بن العاص، فرأى المغيرة الفيرزان مظهرًا من الأبهة في لباسه ومجلسه الشيء الذي يحير الأبصار، ثم تكلم الفيرزان، فاحتقر العرب، وأنهم كانوا أطول الناس جوعًا، وأقلهم دارًا وقدرًا، وقال: ما يمنع جيشي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسًا من جيفكم، فإن تعودوا نسمح لكم، وإن أبيتم قتلناكم عن آخركم.قال المغيرة: فتشهدت، وحمدت الله وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم وقلت: لقد كنا أسوأ حالًا مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم، وإنا لن نرجع أبدًا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم، أو نقتل في أرضكم.المشورة:فلما طال على المسلمين هذه الحال، جمع النعمان أهل الرأي بالحرب وتشاوروا في ذلك، وكيف يُخرجون الفرس من حصنهم ليلتقوا بهم في صعيد واحد على أرض المعركة.تعددت الآراء، فقال بعضهم: نهجم عليهم في حصنهمفرد عليه أحدهم قائلًا: إن حصونهم عون لهم علينا.وتكلم طليحة الأسدي وهو الذي كان يعد بألف فارس فقال: إني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم، ويناوشونهم بالقتال فإذا برزوا إليهم فليفروا هاربين أمامهم، فإذا لحقوا بهم هربنا أيضًا كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكُّون في هزيمتنا، فيخرجون كلهم من حصونهم، فإذا تكامل خروجهم، رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.فاستجاد الحضور هذا الرأي ونفذوه.وانطلت الحيلة على الفيرزان:أمَّر النعمان على المشاة القعقاع بن عمرو التميمي، وأمره أن يحاصروا البلد وحدهم، ويطبقوا الخطة.هجم القعقاع بمن معه على جيش المجوس، واشتبكوا معهم، ثم هرب القعقاع بمن معه حسب الخطة، فقال المجوس لبعضهم: إنها فرصة فاغتنموها، ولحقوا بهم، ففعلوا ما ظن طليحة إذ خرجوا بأجمعهم، حتى انتهوا إلى الجيش، وكان النعمان على تعبئة تامة، وذلك في صدر النهار، وكان يوم جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم، فنهاهم النعمان، وأمرهم ألا يقاتلوا حتى تميل الشمس إلى الزوال، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل، وكان رجلًا ثابتًا، قوي الشخصية، فلما كان الزوال صلى بالمسلمين وركب حصانه، وصار يقف على كل راية، ويحثهم على الصبر، ويأمرهم بالثبات، ثم رجع إلى موقفه.وتعبأت الفرس تعبئة عظيمة، واصطفوا صفوفًا هائلة في عدد وعُدد لم يُر مثلها، وألقَوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يفروا أو يهربوا.الالتحام:أناس يخافون من الموت، يقابلون أناسًا يطلبون الموت.كبر النعمان وهز الراية، وكبر معه المسلمون ثلاث تكبيرات فزلزلت الأعاجم من ذلك ورعبوا رعبًا شديدًا.إن التكبير الذي نقوله ونسمعه، غير التكبير أمام العدو، فهم يحسبون كل صيحة عليهم، والتكبير في الحرب؛ ما هو إلا قنابل إلهية لا تصيب الجسوم حتى نرى أثرها، بل تصيب القلوب فنرى أثرها، انهزام نفسية الكافر انهزامًا معنويًا، ثم انهزامه على أرض المعركة، وهذا هو التكبير الذي كان في معارك الإسلام، ومنها هذه المعركة في هذا الموقف الرهيب، ثلاثون ألفًا يستدرجون مئة وخمسين ألفًا ليخرجوا من حصونهم، كما يستدرج الضب ليخرج من جحره، صاح النعمان: الله أكبر فصاح معه ثلاثون ألف حنجرة، كأنها ثلاثون ألف مدفع، وهز النعمان الراية ودعا: اللهم انصر المسلمين واستشهدني.راية النعمان تنقض نحو الفرس انقضاض العُقاب على الفريسة، ثم تداخلت الصفوف بعضها ببعض فاقتتلوا قتالًا لم تشهد المنطقة مثله منذ عهدها، ولم يشاهد مثله في موقف من المواقف، ولا سمع السامعون لوقعة مثلها في قتال المجوس، قتل منهم ما بين الزوال إلى الظلام ما طبق وجه الأرض دمًا، تكسرت السيوف بالسيوف والرماح بالرماح، حتى عمدوا إلى التشابك بالأيدي والفؤوس والحجارة بعد أن فنيت النبال، وصارت الأرض مزلقة الأقدام من الدم، وزلق حصان الأمير القائد النعمان، فوقع، وجاءه سهم في خاصرته فقتل، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، فغطاه بثوبه، وأخفى خبر موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان.وهزم الله المشركين، فتحولت المعركة إلى مطاردة، وكان المجوس قد قرنوا منهم ثلاثين ألفًا بالسلاسل، وحفروا حولهم خندقًا، فلما انهزموا وقعوا فيه، وفي تلك الأودية نحو من مئة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة، ولم يفلت منهم إلا الشريد.وهرب الفيرزان، فتبعه القعقاع فقتله وخلص المسلمين من شره، ودخل المسلمون نهاوند عنوة.كان أمير المؤمنين عمر يدعو الله ليلًا ونهارًا لهم، ولما أخبر بمقتل النعمان بكى، وبكت المدينة كلها على النعمان سميت هذه الوقعة فتح الفتوح، ولم تقم بعدها للمجوس قائمة. رضي الله عن النعمان بن مقرن قائدمعركة نهاوند فتح الفتوح.