خلق الله - تعالى - آدمَ من طين، ثم جعل نسل البشرية كلها من آدم وحوَّاء (ذكر وأنثى)، فالمرأة عنصر أساس في الوجود البشري، ولها شأن في ذلك أكبر من دور الرجل؛ فهي التي تحمل أفراد البشرية في بطنها، وهي التي تتحمَّل الآلام في هذا الحمل، ومن ثَمَّ عند الوضع، ويستمرُّ دورها الفعَّال والمتميِّز بتقديم الغذاء والرعاية والعناية بالصِّغار؛ حتى تشتدَّ أعوادهم وتَقْوَى سواعدهم ويستغنوا عن الرعاية.وقد كان للمرأة في القرآن الكريم دَوْرٌ في توجيه الأحكام إليها وتلقِّيها لهذه الأحكام الإلهيَّة، كما أن لها ذكرًا في كلِّ مجالٍ يذكر فيه العمل والأجر (للرجل والمرأة) فالله - تعالى - يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].وكذلك يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35].فهنَّ مثْل الرِّجال في الأعمال الصالحة وفي الأُجُور والجزاء في الدنيا والآخِرة، فالنساء شقائق الرجال كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل هن مُخاطَبات في كلِّ أمرٍ أو نهي يُوَجَّه إلى الناس أو إلى المسلمين أو المؤمنين أو الذين آمَنوا - من باب تَغلِيب الرجال على النساء في اللغة - وإذا كان لهنَّ هذا الحضور العامُّ في كلِّ خطابٍ للناس فإن لبعضهنَّ حضورًا خاصًّا في بعض آيات القرآن الكريم.فقد تحدَّث القرآن الكريم حديثًا خاصًّا عن بعض النساء الصالحات أو غير الصالحات، وخصَّهن بالذِّكر، وقد بلغ عدد النساء اللاتي تحدَّث القرآن الكريم عنهنَّ حديثًا خاصًّا وبذكر الاسم أو الصفة سبع عشرة امرأة، ثلاث منهن كافرات طالِحات، وأربع عشرة منهن مؤمِنات صالحات، أمَّا النساء الكافرات الطالحات فهن:1- وأول من تحدَّثَ عنها القرآنُ الكريم منهنَّ أمنا حواء:التي لم يذكرها القرآنُ الكريم بالاسم، إنما ذكرها على أنها زوجُ أبينا آدم - عليه السلام.وقد كانت سكنًا لزوجها، وجد عندها الاستقرارَ النفسي والمودة في الجنة، وكان لها دورٌ إلى جانب دور آدم في الخروج من الجنة والهبوط منها للعيش في الأرض، مع تحملِ العناء والشقاء في سبيل الحصول على حاجاتهما الضرورية، بعد أن كان ذلك موفرًا لهما في الجنة من غيرِ شقاء.وإذا كانت كتبُ غيرِ المسلمين تحمل حواء وحدها المسؤولية في هذا الخروج، فتدَّعي أنَّها هي التي أكلت، وهي التي أغرتْ وأغوت آدمَ على مخالفة الأمر الإلهي، فإنَّ القرآنَ الكريم يجعلهما شريكين في المسؤوليةِ عن هذه المخالفة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة : 36]، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [الأعراف : 20]، وأحيانًا يفردُ آدم بالمسؤولية، فيقول: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه : 120]، واشتركا في مسؤولية الأكل فأكلا منها، ولما ذاقا الشجرةَ بدت لهما سوءاتُهما، واستحقَّا بهذه المخالفةِ الإخراج من الجنَّةِ والشقاء في الأرض.ولذلك فإنَّ النظرةَ الإسلامية إلى المرأةِ ومسؤوليتها الإنسانية ليست بحدةِ نظرة اليهود والنصارى، ويكنُّ الإسلامُ والمسلمون للمرأة كلَّ احترام وتقدير، ولا يحمل الذكورُ الإناثَ المسؤوليةَ الكبرى في شقاء البشرية في الحياة الدنيا، ولعلَّ شقاء الإنسان وتعبه في الأرض هو الذي طوَّرَ الوسائلَ، ودفع إلى الابتكار وإنتاج الحضارة المادية، والله خلق الخلقَ ليستعمرَهم في الأرض، وقد عمرها بعضُهم أكثر من بعض، فلا ينبغي أن يحسبَ الخروج من الجنَّةِ جريمة بحقِّ البشرية التي لم يكن لها أن توجدَ لو بقي آدم وزوجه في الجنة، وإن كان هذا الإخراجُ عقوبةً على ظلمٍ وقع فيه الزوجان ومخالفة لأمر الله استحقَّا عليها هذه العقوبة.2- سارة وهاجر:ومن النساءِ اللواتي أثنى عليهنَّ القرآنُ الكريم سارة، زوج إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهاجر أم إسماعيل.أمَّا سارة فهي من قريباتِ إبراهيم - عليه السلام - وقد آمنتْ وهاجرت معه إلى فلسطين، وقد قدَّمَ لها ملك مصر امرأةً لتخدمَها وتكون جارية لها؛ هي هاجر (أم إسماعيل)، وعندما أحستْ بتقدمِ سنِّها وبلوغها سن اليأس (عجوز عقيم) - ولحبِّها لزوجِها - زوَّجته من جاريتها لعلَّ الله يرزقه منها غلامًا، وقد كان ذلك، فقد حملت هاجر وولدت لإبراهيم إسماعيل - عليهما السلام - وأوحى الله إلى إبراهيم ما أوحى، فأخذ هاجرَ وابنَها إسماعيل من فلسطين إلى الحجازِ إلى الوادي غير ذي الزرع، إلى حيث مكة الآن، كما أمره الله - تعالى، وليس كما تقولُ التوراة متجنِّية على سارة؛ بأنَّها غارتْ منها، فطلبتْ من إبراهيم أن يطردَها ويرميها في برية بئرِ السَّبع، فهم يقولون في التوراة: "ورأت سارةُ ابنَ هاجر المصرية يمزح، فقالتْ لإبراهيم: اطرد هذه الجاريةَ وابنَها، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم بسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك"!كما أنهم يسيئون لهاجر، فيزعمون أنها "لما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي، فهربت من وجهها"، عجبًا كيف يسيئون لامرأتين صالحتين، فهاجر زوجة إبراهيم وهي امرأةٌ مؤمنة بالله وثقتُها به عظيمة، فهي عندما تركها إبراهيمُ مع رضيعِها في وادٍ غير ذي زرع (مكة)قالت له: آلله أمرَكَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعُنا، وسارة امرأةٌ مؤمنة، وزوجةُ أبي الأنبياء أجلُّ وأسمى من أن تتصرَّفَ هذا التصرف، وتطلب من زوجِها أن يلقيَ في المهالك ولدَه وحيده يومئذ، وأمَّه! ولكن الذين يحرِّفون الكتابَ أو يكتبونه بأيديهم، يجعلون (أمَّهم) سارة بهذا الخلق السيئ، وهذا ديدنهم.فسارةُ مؤمنة، يقول لها إبراهيم وهما في مصر: "والله ما على الأرضِ مؤمن غيري وغيرك"، وتظهرُ لها الملائكة - ضيف إبراهيم - بصورةِ الضيوف، ويبشرونها بإسحاق، ومن وراءِ إسحاق يعقوب، ولدًا لها تقرُّ به عينُها، وتسعد بحفيدِها منه، ويمجدها القرآنُ الكريم بمخاطبةِ الملائكة لها؛ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود : 73]، هذه المرأة الكريمة المباركة تحملُ أحقادَ النِّساء العاديات على ضرائرهن؟! وأغرب من ذلك أنَّ الله تعالى - في ادعائهم - يستجيبُ لأهواءِ سارة، ويرفض عدالة إبراهيم ورحمته بابنه، فإذا قبح طلبها في عيني إبراهيم فالله يقولُ له: لا يقبح (ذلك) في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك!وكاتبو التوراة يرون في أخذِ إبراهيم لهاجر وابنها إسماعيل إلى فاران(مكة) طردًا استجابةً لغيرة سارة، وأمَّا المسلمون فيرون كما قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه أخذها إلى هناك استجابةً لأمرِ الله الذي طلبَ منه أن يسكنَها عند بيتِه المحرم ليقيموا الصلاة، فما أكبر الفرق بين نظرةِ المسلمين إلى هاجر وسارة وتقديرهم لهما، وبين النَّظرةِ الدنيَّة لكتبةِ التوراة إليهما.3- امرأة العزيز:وهذه امرأةٌ شغل الحديث عنها آيات كثيرة من سورة يوسف، إنها امرأة كانت ترفلُ في ثيابِ الترف والنعيم، وتتسلح بقوةِ السلطان، وتنهل من متعِ الحياة؛ حلالها وحرامها، فلا يمنعها مانعٌ أخلاقي من مراودةِ فتاها يوسف في صباه وجماله، ويحطم كبرياءها بعفتِه وورعه، فتتهمه بما ترتكبُه من إثم، وتزداد إصرارًا على إغوائه عندما يشيعُ خبرُها بين نساءِ المدينة، فتحيك له المؤامرةَ معهنَّ حتى يدخلنه السِّجن، لامتناعه عن مطاوعتهنَّ على الرذيلة، ولكنَّها وبعد بضعِ سنين تقف موقفًا فيه جرأة وصراحة، وفيه ندم واعتراف بالذَّنب (وتوبة)، وتبرئة لساحةِ يوسف - عليه السلام. قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف : 51]، إنه اعترافٌ بالذنب وتبرئة لمن اتهمته وأدخلته السجن بريئًا، وزادت على ذلك أنْ علَّلتْ موقفَها هذا وعودتها إلى الحقِّ والصواب، فهي تكنُّ له كلَّ احترامٍ وتقدير، فتقول: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف : 52]، وتعليل آخر تورده: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، فهي تتراجعُ عن كيدِها ومؤامرتها عليه، وتعلن أنَّ الله هو الذي أحبطَ كيدَها، وهذا دليلٌ على أنها مؤمنةٌ بالله، وأنَّ الله غفورٌ رحيم وهو ربها؛ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف : 53]، ولا تنسى أن تتواضعَ وتنفي عن نفسِها البراءة؛ لأنَّ النفسَ أمارة بالسوء: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي .وبعضُ التفاسير تشيرُ إلى أنَّها في النهايةِ تزوجها يوسف - عليه السلام - ففي حياةِ هذه المرأة عبرةٌ ودرس لمن يغويهنَّ الشيطان، فيبدأن حياةَ مجون ورذيلة وكيد وقذف واتهام، فمهما أسرفنَ على أنفسهنَّ، فالطريق إلى الله وإلى الصَّلاحِ واسع مفتوح، ورحمة الله واسعة لا يقنتُ منها العاقلات، وباب التوبة مفتوح تلجه كلُّ ذاتِ لبٍّ بعد أن تقرَّ بالخطأ وتتراجع عنه وتصدق نيتَها، وتبدأ حياة جديدة كلها إيمان وصلاح وتقوى وورع.






4 - امرأة نوح:وردَتْ إشارات غير مباشِرة عنها في قول الله - تعالى -: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27].ففي قوله - تعالى -: إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون: 27]، إشارة عامَّة إلى الذين لم يؤمنوا بدعوة نوحٍ - عليه السلام - من أهله؛ وهما ابنه وامرأته، كما يُفهَم ذلك من آيات أخرى صرَّحت بذكر امرأة نوح، وذلك في قوله - تعالى -: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10].فامرأة نوح مثَلٌ للذين كفروا، وهي على رغم كونها زوجة لَصِيقة بزوجها نوح، لم تفتح قلبها لدعوته، وبقِيَتْ على ضلالات قومها، وتعلُّقها بأصنامهم المتعدِّدة، وكانت بذلك قد خانَتْ زوجها ودعوته، واستحقَّت بذلك عقوبتين:الأولى: في الدنيا إذ غرقت مع الغارقين.والثانية: في الآخرة؛ فكانت من أهل النار.ولنا في هذا الموقف عِظَة وعبرة كبيرة، فإن الصلة الأسرية بالنبي أو بالصالحين من عِبَاد الله لا تُعطِي صاحبها أفضليَّة على الآخَرين ولا درجةً ولا قبولاً في الآخرة؛ ولذلك قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُخاطِبًا ذوي قرابته: ((... اعملوا؛ فإني لا أُغنِي عنكم من الله شيئًا)).فأقرباء النبي - عليه السلام - وأقرباء الصحابة أو ذوو الشأن والعُلَماء، لا يُغنِي عنهم هؤلاء من الله شيئًا، ما دام نبي الله نوح لم يغنِ عن زوجته شيئًا، ولم يمنع عنها عذاب الله، أمَّا إذا كانت مؤمنة صالحة وهي زوجةٌ لنبيٍّ فسيكون أجرها - بإذن الله - مضاعفًا، وكذلك كلُّ مَن له صلة قرابة بالصالحين لا يستغني بهم عن عمله الصالح أبدًا، وإذا وصل الأمر إلى حدِّ الكفر فلن تكون له شفاعة.5 - امرأة لوط:وهي مثَلٌ آخَر للذين كفروا، ولم يغنِ عنها كونها زوجة لنبيٍّ من أنبياء الله ما دامَتْ غير مؤمنة برسالته، وهي في هذه الآية السابقة حكم عليها بالكفر صراحة، وقد ورد ذكرها بصورة واضحة في ثماني آيات أُخرَيَات من سُوَرٍ متعدِّدة، وكلها يحكم عليها فيها بعدم السلامة من عذاب الله في الدنيا، وأنها سيُصِيبها ما يُصِيب قومها من عذاب الله ... فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ... [هود: 81].والآيات الباقيات تجعلها مُستَثناةً من النجاة من عذاب الله في الدنيا، فقد تكفَّل الله للوطٍ وأهله بالنجاة؛ قال الله - تعالى -: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57]، إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 60]، إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف: 83] [العنكبوت: 22]، إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت: 33]، إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء: 171]، [الصافات: 135].6 - امرأة أبي لهب:وهي زوجة عمِّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (عبدالعُزَّى) الذي كان يُؤذِي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتُشارِكه في ذلك زوجته، أذًى ماديًّا بنَثْرِ الشَّوْك في طريق الرسول - عليه السلام - وهو جارٌ لهم، وأذًى معنويًّا عندما عمِلاَ على تطليق ابنتيه اللتَين قد خطبتا لولديهما.وهذه المرأة هي المعروفة بأمِّ جميل حمَّالة الحطب، كما وصَفَها القرآن الكريم، وقد خصَّها الله - تعالى - مع زوجها بإحدى قِصار السُّوَر وهي سورة المسد: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد: 1- 5].وإذا كانت امرأة نوح - عليه السلام - تُمَثِّل الذين كفروا في أوائل الجنس البشري، فإن امرأة لوطٍ تُمَثِّل هذه الطائفة الكافرة في أواسط الجنس البشري، وتأتي امرأة أبي لهب لتكون هي وزوجها مثلاً لِمَن يكفر بالله وبرسوله ويعمل على أذى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أواخر عمر الجنس البشري ليكون نصيبها في الآخِرة نار جهنم التي سيصليانها، ولن تغني عن أبي لهب قرابته من رسول الله - عليه السلام - وهو عمُّه، ولن تغني عنه أيضًا وعن زوجته بعض الأعمال التي ظاهِرُها في أعين الناس أنها خير؛ كإعتاقه جاريةً له عندما بشَّرَتْه بمولد محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهمُّه أن يحمي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد وفاة عمِّه أبي طالب.
فهذه أعمالٌ غير صادِرَة عن إيمانٍ بالله؛ فهي إذًا هباء منثور، وهكذا نكون قد استعرضنا هذه النماذج الثلاثة لنساء كافرات خصَّهن الله بالذكر في القرآن الكريم؛ لتكون نهايتهن في الدنيا وعقابهن في الآخِرَة دروسًا وعظات يَعتَبِر بها أولو الأبصار.




خمس نسوة طاهرات عفيفات تحدث عنهنَّ القرآن:4- أولهن أمه: تلك المرأةُ الممتحنة مع نساء قومها بمحنة ذبحِ الفرعون"رعميس" الثاني للذكورِ من بني إسرائيل، وكان قد رأى رؤيا فُسِّرت له على أنَّ رجلاً من بني إسرائيل ستكونُ على يديه نهاية ملك فرعون، أو أنَّ قوم فرعون قد سمعوا من بني إسرائيل بعضَ النبوءات التي توارثوها عن أنَّ رجلاً منهم ستكونُ لهم به دولة ومنعة، فأمر فرعون بذبحِ المواليد الذكور وإبقاء الإناث على قيدِ الحياة، وعندما ولدت موسى أمُّه خافت عليه وتوقعت أن يأتي الذبَّاحون من جندِ فرعون فيذبحوه، فأوحى الله إليها أن ترضعَ ولدَها ثم تضعه في تابوت (صندوق) وتلقي به في نهر النيل (اليم)! موقف عصيب على أمٍّ تخافُ على ابنها من الذَّبحِ بغير يدها، فتلقي به بيدِها في الماء! ألا تخشى عليه من الغرقِ أو من أن تأكلَه التماسيحُ والأسماك؟! ولكن إيمانها بالله دفعها إلى تفويضِ أمرِها وأمر ابنها إليه، وقد جاءتها البشرى في هذا الوحي بأمرين: أنَّ الله - تعالى - سيردُّه إليها، وأنه سيجعلُه من المرسلين.وجرى الصندوقُ في الماء يتهادى، وتسوقه الأمواجُ والتيارات إلى القناةِ التي تدخل إلى قصرِ فرعون! ويعثر عليه، ويتعلق قلبُ امرأة فرعون به وينشرح صدرُها له، ويبدو أنها كانت محرومة من الولد، فكان لها سلوى وعزاء بل ألقى الله عليه المحبة منه فما رآه أحد إلا أحبه، ووقفت تدفعُ عنه الموتَ؛ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص : 9]، فقد قرَّتْ به عينُها، ونجاه الله - تعالى - بذلك من الذَّبح، وفتح له قصرَ فرعون ليعيشَ فيه.وكان قلقُ أمِّ موسى على ولدِها يطغى على قلبِها حتى كادت تعلن على ملأ فرعون أنَّ لها ولدًا، ولكن ربط الله على قلبِها فثبتتْ، وكلَّفتْ ابنتَها - أخت موسى - باقتفاءِ أثر أخيها.وتراه أخته يمتنعُ عن التقامِ أثداء المراضع، فتدخلت ودلَّتهم على من يستطيعُ إرضاعه، وأخذتهم إلى أمِّها فأقبل على ثديها، وأصبحت بذلك مرضعة له وبأجرٍ من امرأةِ فرعون، وتحقَّقَ وعدُ الله لها برده إليها في آخر النهار، الذي قذفته في أولِه في اليم، وعاش في حضنِ أمِّه التي أنجبته، وبرعاية امرأة فرعون التي أنقذته، وبسعي أخته التي عملتْ على ردِّه إلى أمه.وعند هذا الحد ينتهي دورُ هؤلاء النسوة الثلاث اللاتي عملنَ بمشيئة الله على إيصالِ موسى إلى برِّ الأمان، وقد تحدَّثَ القرآنُ الكريم مرة أخرى عن امرأةِ فرعون، وجعلها مثلاً للذين آمنوا وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم : 11]، هذه المرأةُ المؤمنة صبرت على كفرِ فرعون وظلمه وادعائه الألوهية، ووجدت في موسى الطفل الرضيع قرةَ عينٍ لها، وتوقعت أن يكونَ أيضًا قرة عين لفرعون، ويأبى عليها فرعون ذلك ويقول لها: "هو قرةُ عين لك، فأمَّا لي فلا حاجةَ لي فيه"! وقد كان الأمر كذلك، فقد قرَّت عينُ امرأة فرعون بموسى ودعوته.5- وهناك امرأتان أخريان لهما دورٌ في حياة موسى - عليه السَّلام - فعندما خرج موسى من مصر خائفًا يترقَّبُ انكشافَ أمرِه في مقتلِ الرجل المصري، وصل إلى ماء مدينَ ووجد امرأتين تذودان غنمَهما عن الماء، تنتظران انتهاء الرعاة من سقي أغنامِهم، فساعدهما موسى على سقايةِ دوابهما قبل أن يأتي الرعاةُ ويستقوا، فانصرفتا إلى والدِهما الشيخ الكبير مبكرتين على غير عادتِهما في التأخرِ بالعودة إلى البيت، وعلم منهما أنَّ رجلاً غريبًا قويًّا استطاع أن يمتاحَ من البئرِ وحده، وأن يسقيَ الدَّوابَّ قبل قدوم الرعاة، وأعجب الشيخُ بقوة الرجل الغريب، وطلب من ابنتَيْه أن تستدعي الرجلَ ليكافئه الشيخُ على ما فعل، فجاءته تمشي على استحياءٍ وطلبت منه المسيرَ معها إلى أبيها، ورغبت هذه الفتاةُ إلى أبيها أن يستأجرَ هذا الشابَّ القوي الأمين لرعي المواشي وإراحةِ البنتين من ذلك، وتم الاتفاقُ بينهما على أن يتزوجَ إحدى البنتين على أن يخدمَ الشيخ ثماني سنوات أو عشرًا.وكانت هذه الزوجةُ معه عندما سار بأهلِه عائدًا إلى بلدِه وآنس نارًا، ثم تلقى عندها الوحي بالنبوةِ والرسالة، وأُيِّد بمعجزةِ العصا واليد، ولم يكن لهذه الزوجة ولا لأختِها أكثر من هذا الدور الذي شكَّلَ مرحلةً من مراحل حياة موسى - عليه السَّلام.6- وفي مرحلةِ استقرارِ مُلك النبي سليمان - عليه السلام - وامتداد هذا الملك إلى حدٍّ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ ، ظهرت في السَّاحةِ امرأةٌ تحدَّثَ عنها القرآنُ وأطال الحديث، إنها ملكة سبأ "بلقيس"، تلك الملكة التي أُوتيت من كلِّ شيء ولها عرشٌ عظيم، كانت تحكمُ بلادَ اليمن "سبأ" في بيئةٍ وثنية، تعبد وقومُها الشمس، وعندما علم سليمان - عليه السلام - بهذه الحقائق أرسلَ إليها رسالةَ دعوةٍ يدعوها وقومها فيها إلى الانصياعِ لدولته: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ [النمل : 31]، وعرض عليهم الإسلامَ والتخلي عن عبادةِ الشمس: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، فهو لم يكن يهدف إلى التوسعِ في السُّلطان فقط، ولكن له هدفٌ آخر أسمى؛ ذاك هو نشر الإيمانِ بالله.وهذه المرأة التي كانت بدايتها وثنية، كانت سياسية ماهرة، تعرفُ كيف تتعامَلُ مع ذوي السلطات، فأرسلت إلى سليمانَ هديةً ثمينة، وأموالاً تختبره بها: هل هو رجل سلطان ومادة، أو رجل مبدأ وعقيدة؟ولكنه رفضَ هذه الرشوة فقال: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ [النمل : 36]، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل : 36 ، 37]، وهذا تهديدٌ حازم أرغمها على الحضور، وعرض عليها عرشَها الذي استحضره قبل وصولِها، وأدخل عليه بعضَ التعديلات السريعة ليختبرَ ذكاءها، فلم تنكرْه ولم تدَّعِه، بل قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل : 42]، ثم اختبرها اختبارًا هامًّا ليحطمَ مفاهيمَها الوثنية بطريقةٍ علمية، فأدخلها الصَّرح، وهو بناء أرضه من زجاجٍ صقيل صاف تجري تحته المياه، فحسبته ماءً جاريًا أمامها، وظنتْ أنها سوف تخوضُ هذا المجرى المائي، فشمَّرت ثوبَها عن ساقيها لكي لا يبتل بالماء، وهنا تبيَّنَ لها أنَّ هناك موجوداتٍ لا تراها العين (الزجاج الصافي)، فقد خدعتها العينُ إذ رأت الماءَ ولم تر الزجاجَ فوقه، وإذا كانت تعبد الشمس لأنها تراها، فهناك الله الذي خلقَ الشمس ولا تدركه الأبصار، ولذكائها فهمت الفكرةَ، وهنا أعلنت خطأها، فقالت كلمةَ الحقِّ واعترفت بأنها ظلمتْ نفسَها؛ إذ كانت تعبد الشمسَ من دون الله؛ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل : 44]، وانتقلت بذلك من الوثنيةِ إلى دينِ التوحيد، بعد أن استعملَ سليمانُ - عليه السلام - معها طريقةً عملية، مستغلاًّ ما مكنه منه الله - تعالى - من صناعاتٍ وتقدم حضاري.
وهكذا صارت بلقيس امرأةً صالحة مؤمنة في موكبِ النِّساء المؤمنات اللاتي تحدَّثَ عنهنَّ القرآن.






يتبع