طلب القافلة بث العيون والبحث عن أبي سفيان


لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل العيون، ويخرج بنفسه يتحسس الأخبار، ولم يترك طريقاً من الطرق التي بواسطتها يصل إلى أخبار العدو إلا سلكه.روى ابن سعد في الطبقات من طريق عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عدياً ابن أبي الزغباء، وبسبس بن عمرو طليعة يوم بدر، فأتيا الماء فسألا عن أبي سفيان فأخبرا بمكانه فرجعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله، نزل بماء كذا يوم كذا، وننزل نحن ماء كذا يوم كذا، وينزل هو ماء كذا يوم كذا، وننزل نحن ماء كذا يوم كذا، حتى نلتقي نحن وهو على الماء[1].قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان في قصة ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ورجل من أصحابه قال: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أخبرتنا أخبرناك"، فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: "نعم". قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء". ثم انصرف عنه، وقال: يقول الشيخ: من ماء؟ أمن ماء العراق؟قال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ سفيان الضمري[2].أبو سفيان يأخذ الحذر وينجو:كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يتحسسون أخبار أبي سفيان، كان هو كذلك يتحسس أخبارهم، وقد كاد أن يسقط في أيديهم، غير أن فطنته وذكاءه حملاه على أن يغير طريقه، ويسلك بالقافلة طريقاً آخر، وبذلك نجا وما كاد.قال الواقدي:وأقبل أبو سفيان بالعير، وخافوا خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة، واستبطأوا ضمضماً والنفير، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجهها إلى ماء بدر. وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم، وهم على أن يُصبِّحوا بدراً إن لم يعترض لهم، فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل[3]، على أن بعضها ليثنى بعقالين، وتُرجّع الحنين توارداً إلى ماء بدر، وما بها إلى الماء حاجة، لقد شربت بالأمس، وجعل أهل العير يقولون: إن هذا شيء ما صنعته منذ خرجنا! قالوا: وغشيتنا تلك الليلة ظلمة حتى ما نبصر شيئاً.وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء وردا على مَجْديٍّ بدراً يتحسسان الخبر، فلما نزلا ماء بدر أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء، ثم أخذا أسقيتهما يستقيان من الماء، فسمعا جاريتين من جواري جهينة يقال لإحداهما برزة، وهي تُلزِم صاحبتَها في درهم كان لها عليها، وصاحبتها تقول: إنما العير غداً أو بعد غد، قد نزلت الرَّوحاء. ومجدي بن عمرو يسمعها فقال: صدقت! فلما سمع ذلك بسبس وعدي انطلقا راجعين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لقياه بعرق الظَّبية فأخبراه الخبر.فأصبح أبو سفيان تلك الليلة ببدر، قد تقدم العير وهو خائف من الرصد، فقال: يا مجدي، هل أحسست أحداً؟ تعلم والله ما بمكة من قرشي ولا قرشية له نشٌّ فصاعداً - والنّش نصف أوقية، وزن عشرين درهماً - إلا وقد بعث به معنا، ولئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بلَّ بحرٌ صوفةً. فقال مجدي: والله ما رأيت أحداً أنكره، ولا بينك وبين يثرب من عدو، ولو كان بينك وبينها عدوٌّ لم يخف علينا، وما كنت لأخفيه عليك، إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان - فأشار إلى مناخ عدي و بسبس - فأناخا به، ثم استقيا بأسقيتهما، ثم انصرفا. فجاء أبو سفيان مناخهما، فأخذ أبعاراً من بعيريهما ففته، فإذا فيه نوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، هذه عيون محمد وأصحابه، ما أرى القوم إلا قريباً! فضرب وجه عيره، فساحل بها، وترك بدراً يساراً، وانطلق سريعاً.فلما أفلت أبو سفيان بالعير، ورأى أنه قد أجزرها، أرسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس - وكان مع أصحاب العير، خرج معهم من مكة - فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع، ويقول: قد نجت عيركم، فلا تُجزروا[4] أنفسكم أهل يثرب، فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك، إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم، وقد نجاها الله. فإن أبوا عليك، فلا يأبون خصلة واحدة، يردون القيان، فإن الحرب إذا أكلت نكَّلت. فعالج قريشاً وأبت الرجوع، وقالوا: أما القيان فسنردهن!، فردوهن من الجحفة[5]. ولحق الرسول أبا سفيان بالهدَّة - والهدَّة على سبعة أميال من عقبة عسفان على تسعة وثلاثين ميلاً من مكة - فأخبره بمضي قريش، فقال: واقوماه! هذا عمل عمرو بن هشام، كره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى، والبغي منقصة وشؤم. إن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة. وكانت القيان: سارة مولاة عمرو ابن هشام، ومولاة كانت لأمية بن خلف، ومولاة يقال لها عزَّة للأسود ابن المطلب[6].

[1] (2/24) وإسناده صحيح، إلا أنه مرسل.
[2] سيرة ابن هشام (2/206)، ومحمد بن يحيى بن حبان، قال عنه الحافظ في التقريب ص512 برقم (6381): ثقة فقيه من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين، والإسناد منقطع.
[3] الحبل الذي يعقل به البعير، النهاية في غريب الحديث (3/280).
[4] ويقال أجزرتك شاة إذا دفعت إليك شاة تذبحها. (مقاييس اللغة، ج1، ص456) والمعنى هنا: لا تجعلوا أنفسكم ذبائح.
[5] الجحفة: بالضم وسكون الحاء المهملة، أحد المواقيت، قرية كانت كبيرة ذات منبر، على نحو خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة، وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وكانت تسمى أولاً "مهيعة" وفاء الوفاء (4/1174).
[6] انظر: مغازي الواقدي (1/41-43).