الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب لنا الأدلة على صحته برهانا مبينا، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقا يقينا،وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزا عظيما، فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون.
أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات وجهالات الشرك والكفر إلى نور التوحيد فهو الداعي والهادي إلي صراط رب العالمين، الدامغ لشبهات وخرافات أهل الزيغ والظلال الذين أرادوا أن يقيموا ديناً على أساس عبادة الصلبان والصور المدهونة في الحيطان فنسبوا لله الصاحبة والولد فتعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.فقد انحرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن الصراط المستقيم وهدى رب العالمين، وادخلوا الخرافات والأباطيل والشبهات في دينهم فتقولوا على الله بغير علم ولا هدى فضلوا وأضلوا, ولبس عليهم الشيطان دينهم فقالوا بالتثليث، وقالوا المسيح ابن الله، وعبدوا العجل، ووصفوا الله - عز وجل- بما لا يليق به فقالوا إن الله فقير، وزعموا باطلاً بأن النصب والتعب أصابه بعد خلق السموات والأرض تعالى الله عما يقول الضالون علواً كبيراً.وقبل الحديث عن هذه الشبهات التي أدخلوها في التوحيد ناسب أن نذكر تعريف موجز لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.فاليهود: هم أمة موسى عليه السلام، وكتابهم التوراة وهو أول كتاب نزل من السماء(1).وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه السلام: ﴿إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156]. أي رجعنا وتضرعنا، وهو مأخوذ من قولك: هاد الرجل: أي رجع وتاب(2).والنصارى: هم أمة المسيح عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام، وهو المبعوث حقا بعد موسى عليه السلام المبشر به في التوراة، وكانت له آيات ظاهرة وبينات زاهرة، ودلائل باهرة مثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ونفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه وذلك حصوله على غير نطفة سابقة، ونطقه البين من غير تعليم سالف وكانت مدة دعوته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام(3).ونعود الآن إلى الحديث عن موضوعنا لنتحدث عن أول شبههم في التوحيد.الشبهات المتعلقة بشهادة التوحيد: شبهة التثليث: يزعم النصارى بأن الخالق جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم (الأب، والابن،وروح القدس) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا.يقول شيخ الإسلام: "فإنهم يقولون الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة،وهى إله واحد والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن ويقولون هي الوجود والعلم والحياة والقدرة".(4)وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنسطورية، ثم سول الشيطان لبعضهم فقالوا بأن المسيح هو ابن الله، ومنهم من قال: بأن المسيح هو الله. سبحانه وتعالى عما يقولون، وقالوا هو إله بلاهوته ورسول بناسوته.الرد عليهم: وقد جاء في القرآن الكريم الرد علي هذه الشبهة وقولهم بأن المسيح هو الله أو أبنه وحكم بكفرهم وسيأتي الحديث عن قولهم بأن المسيح ابن الله في الحديث عن الشبهة الثانية إن شاء الله تعالى.قال سبحانه وتعالى في الرد على شبهة التثليث: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 72-73].يخير الحق تبارك وتعالى بأن المعبود واحد وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود بل هو خالق كل والد ومولود(5).فقد أدخل النصارى على التوحيد ثلاث شبه فقالوا بأن الله هو المسيح، وقالوا هو ابن الله، وقالوا بالتثليث وقد رد القرآن الكريم جميع هذه الشبهات.1- عبد الله ورسوله: فقد بين القرآن الكريم في معرض الرد على قولهم بأن عيسى عليه السلام هو الإله بأنه هو عبد الله ورسوله وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: إني عبد الله ولم يقل أنا الله ولا ابن الله بل قال: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: 30].إلى أن قال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [مريم: 36] وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم بعبادة ربه وربهم وحده لا شريك له ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ﴾ [المائدة: 72]. أي فيعبد معه غيره ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾ أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: 48].(6)فهو عبد من عباد الله -عز وجل-: قال سبحانه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الزخرف: 59].2- الحاجة إلى الطعام والشراب: وأخبر القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام لا يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب فهو بشر مثل سائر البشر قال سبحانه: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: 75].يقول ابن كثير: وقوله تعالى: ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.(7)تكذيبهم للمسيح عليه السلام: وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه فإن المسيح قال لهم إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم فشهد على نفسه أنه عبد لله مربوب مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله(8) وقد ذكرنا الآيات في ذلك آنفاً.كتبهم تكذبهم: والكتب التي بين أيديهم ترد عليهم وتكذبهم في مقالتهم هذه مع ما فيها من التحريف والتبديل ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه: إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق وأنك أرسلت اليسوع المسيح، ففي هذا إقرار بالوحدانية للواحد الأحد، وأنه رسول أرسله الله عز وجل.وقال في موطن آخر: لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل وأنا إله ولا ابن الإله.وفي إنجيل يوحنا أيضاً أن المسيح قال: يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك فأخبر أن الله ربه وأنه عبده ورسوله. وفيه أن الله الواحد رب كل شيء، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق، وفيه أنه قال: إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم. وفيه: ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئا من قبل نفسي، ولكن أتكلم وأجيب بما علمني ربي، وقال إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاصكل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى.(9)وفي انجيل لوقا لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه فلم يزد على دعوى النبوة.(10)وفي إنجيل مرقس إن رجلا أقبل إلى المسيح وقال أيها المعلم الصالح أي خير أعلم لأنال الحياة الدائمة؟ فقال له المسيح: لم قلت صالحا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق ولا تزن ولا تشهد بالزور ولا تخن، واكرم أباك وأمك(11).والأمثلة على ذلك كثيرة والشاهد أن كتبهم تكذب مقالتهم وتبين الظلال والتخبط الذي يعيشه النصارى نسأل من المولى السلامة والعافية.العقل والحس والفطرة تكذبهم: فلو علم عنه دعوه الإلهية لذكر ذلك عنه، وأنكر عليه ذلك،وكان من أعظم أسباب التنفير عن طاعته؛ لأن كذبه كان يعلم بالحس والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك. لا يخرج صبيا صغيرا، يرضع ويبكي، وإذ قد فعل ذلك، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوط ويمتنع من الخرأة إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض فكيف وسعه فرج امرأة. تعالى الله رب العالمين عما يقول هؤلاء الضالون علواً كبيرا، وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام(12).منع الغلو في المسيح: فقد نهى الحق تبارك وتعالى في معرض الرد على هذه العقيدة النصارى عن الغلو في المسيح وإعطائه مرتبة ومنزله فوق ما يستحقها فقال الحق تبارك وتعالى: ﴿يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفي بِاللّهِ وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ [النساء: 171-173].ففي هذه الآية ينهى الحق تبارك وتعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً أو ضلالاً أو رشاداً أو صحيحاً أو كذباً(13).وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: 116].ففي هذه الآية يقول عيسى عليه السلام جواباً على هذا السؤال سبحانك تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾، يقول: إنك لا يخفي عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به(14).ففي هذه الآية ذكر الله- عز وجل- القول الحق في عيسى عليه السلام ثم قال لهم آمنوا بالله لأنهم كفروا بالله بتثليثهم وكفروا برسله بالاتحاد والحلول فكفروا بأصلي الإسلام العام التي هي الشهادة لله بالواحدانية في الألوهية، والشهادة للرسل بالرسالة ولهذه قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79](15).ففي هذه الآيات فائدتان: إحداهما: بيان أنه مولود والله لم يولد.والثانية: نسبته إلى مريم بأنه ابنها ليس هو ابن الله.ويتبين لنا اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية باتحاد أو حلول أو غير ذلك(16).وقولهم بالأقانيم الثلاثة: فإنهم يقولون الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة وهى إله واحد والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن ويقولون هي الوجود والعلم والحياة والقدرة.يقول شيخ الإسلام: فيقال لهم إن كانت هذه صفات فليست آلهة ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلها إلا أن يكون هو الأب، وان كانت جواهر وجب أن لا تكون إلها واحدا لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي فهو بكونه عالما ليس هو بكونه قادرا، فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتا واحدة لها صفات متعددة وأنتم لا تقولون ذلك.وأيضا فالمتحد بالمسيح إذا كان إلها امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف وأنتم لا تقولون بذاك فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق،وقد قال تعالى: ﴿يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ﴾.ويقول: فالنصارى حيارى متناقضون إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلها، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون إلهاً واحدا وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله، ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلهاً واحدا ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة وجعلهم قسما غير المشركين تارة لأنهم يقولون الأمرين وان كانوا متناقضين(17).وأما قولهم بأنه إله بلاهوته ورسول بناسوته فهو كلام باطل من وجوه نوجزها فيما يلي: - منها أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله، وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله،ويقال بأي وجه فسروا الاتحاد فإنه من المعلوم أن الناس كانوا يسمعون من المسيح كلاما بصوته المعروف وصوته لم يختلف ولا حاله عند الكلام تغيرت، كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حل فيه الجني وإذا فارقه الجني فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس بل اختلف حال المصروع وحال كلامه، وسمع منه من الكلام ما يعلم يقينا أنه لا يعرفه وغاب عقله بحيث يظهر ذلك للحاضرين واختلف صوته ونغمته فكيف بمن يكون رب العالمين هو الحال فيه المتحد به المتكلم بكلامه فإنه لا بد أن يكون بين كلامه وصوته وكلام سائر البشر وصوتهم(18).- الوجه الثاني أن خطابه خطاب رسول ونبي كما ثبت ذلك عنه في عامة المواضع(19).- الثالث أن مصير الشيئين شيئاً واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة والاختلاط ممتنع في صريح العقل، وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع الخمر واللبن فإنهما إذا صار شيئا واحدا استحالا واختلطا.- الرابع أنه مع الاتحاد يصير الشيئيان شيئاً واحدا فيكون الإله هو الرسول والرسول هو الإله إذ هذا هو هذا وإن كان الإله غير الرسول فهما شيئان ومهما مثلوا به قولهم كتشبيههم ذلك بالنار في الحديد والروح في البدن فإنه يدل على فساد قولهم فإن الحديد متى طرق أو وضع في الماء كان ذلك مصيبا للنار، وكذلك البدن إذا جاع أو صلب وتألم كان ذلك الألم مصيبا للروح فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم وهذا شر من قول اليهود أنه فقير وأنه بخيل وأنه مسه اللغوب(20).ثم كيف يصلب الإله ويموت يقول ابن القيم- رحمه الله- في معرض الرد على ضلال النصارى: فيا معر المثلة وعباد الصليب! أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟! أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟!(21).فالثالوث وثنية قديمة وعقيدة باطلة: فهذه العقيدة عقيدة التثليث عقيدة قديمة يقال الثالوث النصراني والثالوث الهندي فهي عقيدة قديمة وثنية ودخيلة علي دين الله، فالله منزه عن أن يشبهه شيء أو يشبه هو شيئاً آخر قال سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].وعقيدة التوحيد والتنزيه هي عقيدة سائر الأنبياء والرسل، حتى المسيح نفسه، والذين يزعمون غير هذا من النصارى لا برهان لهم من العقل، ولا سند لهم من النقل، وإنما هي ظنون وأوهام طرأت عليهم من الديانات الوثنية القديمة(22).وفي دائرة المعارف بأن عقيدة الثالوث لم تكن موجودة في العهد الجديد الإنجيل ولا في أعمال الآباء الرسوليين، و لا في تلاميذهم الأقربين وكان أول من قال بها بولس(23).فهذه العقيدة عقيدة باطلة أخذها النصارى من الوثنيات السابقة فضلوا عن الهدى والصراط المستقيم, وهي عقيدة تجمع بين الضدين التوحيد والشرك فكل واحد منها ضد للأخر فلا يجتمعان، والجمع بينهما من محالات العقول.فيتبين من خلال من سبق بطلان هذه العقيدة عقيدة التثليث فقد نطق ببطلانها القرآن الكريم، وكتبهم التي بين أيديهم، وشهدت العقول السليمة على بطلانها، وكذبها الواقع، فالحمد لله على نعمة الإسلام ونعوذ بالله من الظلال وأهله.شبهة اتخاذ الولد: وهذه من المقالات الشنيعة والافتراء العظيم التي جاء بها أهل الكتاب فقد قالت اليهود بأن عزير ابن الله وقالت النصارى بأن المسيح ابن الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: 30].فهذا قول قالوه بالأفواه بغير بينة ولا برهان، فهو مجرد ادعاء لم يقم على أساس من العلم بل هي الأهواء والأوهام فقد قال اليهود بأن عزير ابن الله وكان سبب ذلك كما ذكر ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه بأن عزير كان من أهل الكتاب، وكانت التوارة عندهم فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق،وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع الله عنهم التابوت، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم وأرسل الله عليهم مرضا فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبده حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدره من التوراة فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله نزل نور من الله فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي! فعلق بهم يعلمهم فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم ثم إن التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله(24).فهذا هو الأساس التي بنى اليهود علي أساسه هذه العقيدة الفاسدة، وقالو المقولة التي كادت السموات والأرض أن تتفطر لها، قالوها بغير دليل ولا برهان فاستحقوا معها اللعنة من رب العزة جل جلاله.وكذلك ضل النصارى في المسيح فقالوا مثل ما قال اليهود فضلوا عن الصراط المستقيم, يقول ابن كثير: ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم ﴿يُضَاهِؤُونَ﴾ أي يشابهون ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء ﴿قَاتَلَهُمُ اللّهُ﴾ قال ابن عباس: لعنهم الله ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟.(25)وقد جاءت كثير من الآيات القرآنية كما سيأتي في أثناء البحث ترد هذه المقالة الباطلة قال سبحانه: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 91].وهذه الفرية من اخطر الافتراءات لكونها إلحاداً في صفات الرب تبارك وتعالى وتنقيصاً له لذلك جاء الرد عليهم بأدلة متنوعة ومختلفة تبين بطلان هذه الفرية فقد رد الله -عز وجل- في كثير من الآيات على هذه المقالة الشنيعة والفرية العظيمة التي نطق بها الجهال من أهل الكتاب من اليهود والنصارى: 1- فالقول باتخاذ الولد مناف لأحدية الله وصمديته قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1-4]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما من شيء من المخلوقات إلا ولابد أن يكون له شيء يناسبه إما أصل وإما فرع وإما نظير أو اثنان من ذلك أو ثلاثة وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر، وأما الملائكة فإنهم وإن لم يتوالدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه،ولهذه كانت هذه السورة أي سورة الإخلاصرد علي من كفر من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، فإن قوله ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ رد لقول من يقول بأن له بنين وبنات من الملائكة أو البشر مثل من يقول الملائكة بنات الله، أو يقول المسيح، أو عزير ابن الله كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100].وقال تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفي الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: 149-158]"(26).وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفأ أحد»(27).فالحديث يدل على أن القول باتخاذ الولد فيه منافة للكمال الإلهي والوحدانية وشتم للحق تبارك وتعالى وانتقاصاً لقدره سبحانه.2- منافاة الكمال:قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 68].يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فان الولد من جنس الوالد ونظير له وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر فيمتنع وجود قادر بنفسه فالذي جعل لله شريكا لو فرض مكافئا لزم إفتقار كل منهما وهو ممتنع وإن كان غير مكافئ فهو مقهور والولد يتخذ المتخذ لحاجته إلى معاونته له كما يتخذ المال فان الولد إذا اشتد أعان والد، فاتخاذ الولد إنما يكون عن حاجة وفقر والله هو الغني الحميد ففي هذه القول منافة لكمال الله - عز وجل- بل هي أنقص لان اتخاذ الولد هو عوض عن الولادة لمن لم يحصل له فهو أنقص في الولادة(28).3- امتناع الولادة عليه -سبحانه- فقد نفى الحق تبارك وتعالى في كتابه عن نفسه الولادة، ونفى اتخاذ الولد جميعاً فلو كان جائزاً في حقه الولادة لما كان إلا من طريق التبني والاختيار لامتناع الولادة عليه، ولوقع هذه الاختيار من اشرف المخلوقات قال سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزمر: 4].وقال سبحانه: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾ [الإسراء: 111].وقال الله- عز وجل-: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا﴾ [الفرقان: 2].وقال الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26-27].ومعلوم أن الذين خرقوا له بنين وبنات بغير علم، والذين قالوا ولد الله وإنهم لكاذبون والذين قالوا المسيح بن الله وعزير بن الله لم يرد عقلاؤهم ولادة حسية من جنس ولادة الحيوان يكون منه الولد فإن النصارى والصابئين متفقون على نفي ذلك، وكذلك مشركوا العرب وإنما وصفوا الولادة العقلية الروحانية مثل ما يقوله النصارى إن الجوهر الذي هو الله من وجه وهو الكلمة من وجه تدرعت بإنسان مخلوق من مريم فيقولون تدرع اللاهوت بالناسوت فظاهره وهو الدرع والقميص بشر وباطنه وهو المتدرع لاهوت هو الابن الذي هو الكلمة لتولد هذا من الأب الذي هو جوهر الوجود(29).وقد سبق الرد على قولهم إله بلاهوته ورسول بناسوته.4- الولادة لا تكون إلا من اثنين والله -سبحانه- لا صاحبة له قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 101].فهذا الشرك الذي قالوه عن عمى وجهالة، أو بغير علم ينافي الإبداع الموجود في خلق السموات والأرض فبديع السموات والأرض أي مبدعهما وخالقهما ومحدثهما على غير مثال سبق فكيف يجوز أن يكون له ولد.وفي الآية دليل على نفي الولد من وجوه: 1- أنه من مبدعاته السموات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد.2- أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة.3- أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين: الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه، والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع(30).ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي الآية ثلاثة أدلة على نفي الولد أحدها كونه ليس له صاحبة فهذا نفي الولادة المعهودة، وقوله وخلق كل شيء نفي للولادة العقلية وهى التولد لأن خلق كل شيء ينافي تولدها عنه، وقوله وهو بكل شيء عليم يشبه والله أعلم أن يكون لما ادعت النصارى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم والصابئة القائلون بالتولد والعلة لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم لإثبات هذه الصفة له ردا على الصابئة ونفيها عن غيره رداً على النصارى(31).5-آيات الكون دليل على بطلان هذه المقولة الباطلة: فالآيات المنظورة في هذه الكون الفسيح دليل صدق على بطلان هذه الفرية العظيم التي تكلم بها الكفار من أهل الكتاب والمشركين عليهم لعنة الله فقد سبحانه وتعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 101].فالإبداع المشاهد في خلق السموات والأرض دليل صدق على بطلان هذه الفرية، وقد سبق الحديث عن الآية قريباً وقال سبحانه: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [الفرقان: 2].6- قول بلا برهان: وقولهم هذا قول بلا دليل ولا برهان فلا علم عندهم ولا مستند لهم،وإنما هو الجهل والأهواء قال سبحانه: ﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 68].فما عندكم أيها القوم بما تقولون وتدعون من أن الملائكة بنات الله من حجة تحتجون بها -وهي السلطان- أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه جهلا منكم بما تقولون بغير حجة ولا برهان؟(32).فهذا نوع من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً فرد ذلك عليهم بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين،وبين أنه غني عن ذلك وأن الولد إنما يطلب للحاجة والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك(33).وفي هذه الآية إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد على هؤلاء المشركين.وقال سبحانه وتعالى مبيناً بأن قولهم هذه بلا علم: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100], وقال سبحانه: ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الصافات: 156-157].7- أعراض أنبياء الله وأوليائه عن عبادة غيره: قال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: 81] فهذا من الأدلة العقلية على نفي الولد عن الله - عز وجل- كما ذكر ذلك كثير من أهل التفسير.فالرسول هو أول العابدين لذلك الولد؛ لأنه يكون مستحقا ً للعبادة كالوالد ففي ذلك مرضاة للرب وطاعة له وقيام بحق عبادته كما يحصل في الدنيا من تعظيم أبناء الملوك فلو صح هذه وقام الدليل عليه لكان أول العابدين، ولكن هذه ممتنع غاية الامتناع عن الله - عز وجل - فلا أعبد أحداً غيره.يقول الألوسي: " فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذا نفي لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلى الله عليه وسلم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22].(34)فهذا احتجاج عظيم عند من عرف أحوال الرسل، وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق، وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه وتكميلا له، وكل شر فهم أول الناس تركا له وإنكارا له وبعدا منه، فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق، لكان محمد بن عبد اللّه، أفضل الرسل أول من عبده، ولم يسبقه إليه المشركون(35).فكان هذه الإعراض من الرسل الكرام دليل على بطلان نسبة الولد إلى الله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.8- قول منكر وشنيع أنكرته حتى الجمادات قال سبحانه وتعالى في معرض الرد على هذا الادعاء العظيم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [مريم: 88-92].وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين، الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا، فقد جاءوا بشيء عظيما، تكاد السموات على عظمها وصلابتها أن تتصدع وتنفطر والجبال أن تندك من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات، أن يكون منها ما ذكر،والحال أنه: ﴿مَا يَنْبَغِي﴾ أي: لا يليق ولا يكون ﴿لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ وذلك لأن اتخاذه الولد، يدل على نقصه واحتياجه، وهو الغني الحميد. والولد أيضا، من جنس والده، والله تعالى لا شبيه له ولا مثل ولا سمي(36).فالجمادات فزعت وخافت من هذا الشرك وكادت أن تزول منه لعظمة الله تبارك وتعالى. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة(37).حجة واهية: ويستدلون على قولهم هذا بأن المسيح ولد من غير أب فكان دليل على كونه إله فيا لها من حجة واهية ودليل سقيم لا يحتاج بالتبرع له بالدليل على بطلانه فهو دليل ظاهر البطلان يقول ابن القيم: "وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يود من البشر ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه لأنه لا أم له ولا أب والمسيح له أم، وحواء أيضا جعلوها إلها خامسا لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح؟! والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبنيه إظهارا لقدرته وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حوى من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى"(38).وبهذا يتبين لنا فساد هذه المقالة ومخالفتها للمنطق والعقل السليم والواقع، وتدل على ضلال قائلها نسأل من الله تعالى السلامة والعافية