إنَّ مهنة الطبيب من أنفع المهن لا ريب، وإن فضل الله عز وجل ومنَّـته على من تعلَّم شيئاً من علوم هذه المهنة فضلٌ عظيم، لما يترتب عليه من النفع الوفير والخير العميم للطبيب والمريض إذا ما أحسن تطويعَ هذا العلم للغاية المحمودة، ولم ينجرف في مهالكه المذمومة، ومعلومٌ أن مهنة الطب يُراد بها من حيث الوضع تطبيب الأبدان والمحافظة عليها، وقايةً مما يضر بها وعلاجاً لما يعتورها من أعراض ضارة، وعند هذا المشهد تجد الخلقَ مفترقين إلى ثلاث فرق هي طرفان وواسطة؛ أما طرف الغلو والإفراط فيذهب في سبيل خدمة البدن والمادة كل مذهب، لا يقف عند حدٍّ ولا يرعوي عن الشطط المُلهي عما هو أَولى، وهذا هو مسلك الماديين من عشاق الدنيا وصرعى الهوى، لسان حالهم قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [سورة الجاثية: 24]، وأما طرف التفريط فقومٌ اعتزلوا الدنيا وحسبوا أنهم يرتقون بالروح حين يطلقون كل أسباب المادة، فزهدوا في الحلال الطيب مما سخَّره الله تعالى وعزفوا عن توجيهه سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الحج: 65]، فأهلكوا أجسادهم بالحرمان من أسباب صلاحها، بل ربما تفنَّنوا في إنزال صنوف العذاب والأذى بأنفسهم وهم يرتقون بالروح التي لم ولن يعوا حقيقتها ناهيك عن أسباب صلاحها وهذا مسلك الرهبنة المذمومة، وفيما بين مشهدي الإفراط والتفريط كان مشهد أهل الحق كما هو الوصف الثابت لهذه الأمة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً﴾ [سورة البقرة: 143] حيث أذنت – بل حثت – الشريعة على رعاية الأبدان، ولكن دونما غفلة عن الغاية من ذلك ألا وهي حفظ القلب؛ فأنت تجد القرآن الكريم يقرر مرض البدن وينبِّه إلى مراعاته كما في قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [سورة البقرة: 196]، ولكن الشريعة لم تقف عند حدِّ البدن بل نبَّهت إلى أمراض أخطر هي أمراض القلوب والتي تنقسم – كما نبَّه الحافظ ابن حجر والعلامة ابن قيم الجوزية – إلى مرض شُبهة كما في قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [سورة البقرة: 10]، ومرض شهوة كما في قوله تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [سورة الأحزاب: 32]، والشاهد أن أصحاب مشهد الحق من أتباع الرسالة المحمدية قد فازوا بقصب السبق في مجال الطب والعلاج، كيف لا وقد جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم جامعةً بين طب الأبدان وطب القلوب، بل إن رعاية الأبدان ما جاءت إلا تبعاً وتكميلاً لحياة القلوب وصلاحها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِهِب وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنفال: 24]، فليس بطبٍّ إذاً ذاك الذي يتعهَّد الأبدان والأوزان والأحجام فحسب، وليس بطبيب حقاً ذلك الذي يراعي القلب من حيث إنه عضلة والعين من حيث إنها آلة إبصار والأذن من حيث إنها آلة سمع ونحوه، وإنما الطبيب حقاً الذي يحافظ على هذه الوسائل وقايةً لصاحبها من أن ينتهي به المطاف إلى مثل قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَىٰ الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [سورة الحج: 46].
فإذا عُلم ما تقدم تبينت ضرورة تحرير الطبيب المسلم لمنهجه العلمي الذي يبني عليه وسائل تشخيص وتقييم وتطبيب مرضاه، والأصل في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» [سنن أبي داود واللفظ له، و الحديث حسن]، فهذا أصل ودليل واضح على ضرورة صدور الطبيب عن علمٍ، ولهذا وجب تحرير منهج الطبيب المسلم من حيث أنواع الأدلة العلمية الطبية، والجمع بينها عند التعدد، والترجيح بينها عند التعارض، وبهذا تكتمل آلة تحصيل العلوم اللازمة للطبيب المسلم فيخرج من العهدة عند ممارسة المهنة ملتزماً بهذا المنهج إن شاء الله.

* المرجع:
- كتاب حلية الطبيب المسلم: الشيخ الطبيب وسيم فتح الله.